هل تحطم النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات؟

هل تحطم النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات؟
داخل نفق مصادم الهدرونات الكبير، 2019. برايس، ماكسلميان: سيرن
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

بصفتي فيزيائياً يعمل في مصادم الهدرونات الكبير (LHC) في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية “سيرن”، فإن أحد الأسئلة الأكثر شيوعاً التي تُطرح علي هو “متى ستكتشف شيئاً جديداً؟”. مقاوماً إغراء الرد بسخرية، وبصرف النظر عن بوزون هيغز، الحائز على جائزة نوبل، واكتشاف مجموعة كاملة من الجسيمات المركبة الجديدة، أدرك أن طرح مثل هذا السؤال يرجع غالباً إلى الطريقة التي صورنا بها التقدم في فيزياء الجسيمات للعالم بأسره.

غالباً ما نتحدث عن التقدم من حيث اكتشاف جسيمات جديدة، وغالباً ما يحدث ذلك. تساعدنا دراسة جسيم جديد ثقيل جداً على فهم العمليات الفيزيائية الأساسية، وغالباً بدون ضوضاء الخلفية المزعجة. وذلك من شأنه تسهيل شرح قيمة الاكتشاف للجمهور والسياسيين.

ولكن في الآونة الأخيرة، تهدد سلسلة من القياسات الدقيقة للجسيمات والعمليات القياسية المعروفة بالفعل بزعزعة الفيزياء. وبينما يستعد مصادم الهدرونات الكبير للعمل بطاقة وكثافة أكبر من السابق، فقد حان الوقت لمناقشة الآثار المترتبة على ذلك على نطاق واسع.

اقرأ أيضاً: لماذا سيؤدي قياس كتلة بوزون دبليو إلى إعادة صياغة نظريات فيزياء الجسيمات؟

في الحقيقة، كانت فيزياء الجسيمات تسير دائماً بطريقتين، إحداهما اكتشاف جسيماتٍ جديدة، والآخر إجراء قياسات دقيقة للغاية تختبر تنبؤات النظريات وتبحث عن الانحرافات عما هو متوقع.

على سبيل المثال، جاء الدليل الأول على نظرية النسبية العامة لأينشتاين من اكتشاف انحرافات صغيرة في المواضع الظاهرة للنجوم وحركة عطارد في مداره.

ثلاث اكتشافات رئيسية

تتبع الجسيمات نظرية معاكسة للبديهة، ولكنها ناجحة إلى حد كبير وتُسمى ميكانيكا الكم. تقول هذه النظرية إن الجسيمات الضخمة للغاية إلى درجةٍ لا يمكن عندها صنعها مباشرة في التصادم المخبري لا يزال بإمكانها التأثير على ما تفعله الجسيمات الأخرى (من خلال ما يسمى “التموجات الكمومية”). ومع ذلك، فإن قياسات هذه الآثار معقدة للغاية ويصعب شرحها للعامة أكثر.

لكن النتائج الأخيرة، والتي تشي بظهور فيزياء جديدة غير مفسرة تتجاوز النموذج القياسي، هي من النوع الثاني. كشفت الدراسات التفصيلية في تجربة “الجمال لمصادم الهدرونات الكبير“، LHCb اختصاراً، أن الجسيم المعروف باسم كوارك الجمال (الكواركات التي تشكل البروتونات والنيوترونات في النواة) يتحلل “يتفكك” إلى إلكترون أكثر بكثير من تفككه إلى “ميون” -الشقيق الأثقل- ولكن المطابق للإلكترون. وفقاً للنموذج القياسي، لا ينبغي أن يحدث هذا، ما يشير إلى أن الجسيمات الجديدة أو حتى القوى الطبيعية قد تؤثر على العملية.

مع ذلك، من المثير للاهتمام أن قياسات العمليات المماثلة التي تنطوي على “الكواركات القمية”، والتي جرت في تجربة أطلس في مصادم الهدرونات الكبير، تُظهر أن هذا التفكك يحدث بنفس المعدلات للإلكترونات والميونات بالفعل.

في غضون ذلك، قامت تجربة «ميون جي-2» (Muon g-2) في مختبر أبحاث فيرميلاب بالولايات المتحدة مؤخراً بدراسات دقيقة للغاية حول كيفية “تذبذب” الميونات عند “دورانها” (خاصية كمومية) في المجالات المغناطيسية المحيطة. ووجدت انحرافاً صغيراً لكنه مهم عن بعض التنبؤات النظرية، ما يشير مجدداً إلى دورٍ مؤثر لقوى أو جسيمات غير معروفة.

أحدث نتيجة مفاجئة كانت قياس كتلة جسيم أساسي يُدعى “بوزون دبليو” (W boson)، والذي يحمل القوة النووية الضعيفة التي تتحكم في الاضمحلال الإشعاعي. بعد سنوات عديدة من أخذ البيانات وتحليلها، تقترح التجربة، والتي أُجريت أيضاً في مختبر فيرميلاب، أن هذا الجسيم أثقل بكثير مما تتنبأ به النظرية، مع انحراف ليس من قبيل الصدفة في أكثر من مليون مليون تجربة. مرة أخرى، قد تكون الجسيمات غير المكتشفة حتى الآن تضيف إلى كتلة هذا الجسيم.

اقرأ أيضاً: اكتشاف فراغ ضخم داخل الهرم الأكبر باستخدام فيزياء الجسيمات والأشعة الكونية

ومن المثير للاهتمام أن هذا لا يتفق مع بعض القياسات الأقل دقة لمصادم الهدرونات الكبير أيضاً (المعروضة في هذه الدراسة هنا وهذه الدراسة الأخرى).

الاستنتاج

في حين أننا لسنا متأكدين تماماً من أن هذه التأثيرات تتطلب تفسيراً جديداً، يبدو أن الأدلة تتزايد على أن هناك حاجة إلى فيزياء جديدة.

بالطبع، سيكون هناك عدد من الآليات الجديدة المقترحة لشرح هذه الملاحظات بقدر ما يوجد هناك من منظرين. سينظر الكثير في أشكال مختلفة من “التناظر الفائق” (supersymmetry)، والذي يقوم على فكرة أن هناك ضعف عدد الجسيمات الأساسية في النموذج القياسي كما كنا نظن في السابق، مع وجود “شريك فائق” لكل جسيم. قد تتضمن هذه الجسيمات بوزونات هيجز إضافية (مرتبطة بالمجال الذي يعطي الجسيمات الأساسية كتلتها).

سيذهب الآخرون إلى أبعد من ذلك، مستشهدين بنماذج فيزيائية أقل حداثة مثل ” تكنيكولور” (technicolor)، والتي توحي بأن هناك قوى طبيعية إضافية (إلى جانب الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة والقوية)، وأن بوزون هيغز هو في الواقع جسم مركب مصنوع من جسيمات أخرى. التجارب فقط هي من ستكشف الحقيقة، وتلك أخبار جيدة للقائمين على التجارب.

تحظى جميع الفرق التجريبية التي تقف وراء النتائج الجديدة بتقدير كبير وتعمل على حل المشكلات منذ فترة طويلة. ومع ذلك، لا تنتقص الإشارة إلى أن إجراء هذه القياسات صعب للغاية من احترامهم شيئاً. علاوة على ذلك، غالباً ما تتطلب تنبؤات النموذج القياسي إجراء حسابات تقريبية. أي قد يتوقع منظرون مختلفون كتلَ ومعدلات اضمحلال مختلفة قليلاً اعتماداً على الافتراضات ومستوى التقريب الذي تم إجراؤه. لذلك ربما إذا أجرينا حسابات أكثر دقة، فإن بعض النتائج الجديدة سوف تتفق مع النموذج القياسي.

اقرأ أيضاً: «التتراكواركات»: علماء يرصدون نوعاً جديداً من الجسيمات

وبالمثل، قد يستخدم الباحثون تفسيرات ذات فروق دقيقة وبالتالي يتوصلون إلى نتائج غير متسقة. عند مقارنة نتيجتين تجريبيتين، يجب التحقق الدقيق من استخدام نفس المستوى التقريبي في كلتا الحالتين.

هذان مثالان على مصادر “عدم اليقين المنهجي”، وبينما يبذل جميع المهتمين قصارى جهدهم لتقديرها، يمكن أن تكون هناك مضاعفات غير متوقعة تقلل أو تبالغ في تقديرها.

لا شيء من هذا يقلل من أهمية النتائج الحالية. ما تظهره النتائج هو أن هناك طرقاً متعددة لفهم أعمق للفيزياء الجديدة، ويجب استكشافها كلها.

مع إعادة تشغيل مصادم الهدرونات الكبير، لا يزال هناك احتمال أن يتم إنتاج جسيمات جديدة من خلال عمليات نادرة أو العثور عليها مخفية تحت الخلفيات التي لم نكتشفها بعد.