الحمض النووي المأخوذ من أسنان ضحايا الطاعون يساعد في الكشف عن أصول جائحة الموت الأسود

الحمض النووي من أسنان ضحايا الطاعون قد يكشف عن أصول جائحة الموت الأسود
جبال "تيان شان" حيث تنتشر بكتيريا الطاعون بين حيوانات الغرير. ليازات موسرالينا
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
اجتاح الطاعون منذ أكثر من 6 قرون قارة أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا. وتسبب هذا المرض بوفاة 60% من السكان في غرب أوراسيا خلال 8 سنوات فقط. أثارت الطريقة التي انتشرت فيها السلالة البكتيرية التي تسببت بهذه الجائحة بين البشر الجدل منذ ذلك الحين.

حددت مجموعة دولية من الباحثين في دراسة نُشرت في 15 يونيو/حزيران 2022 في مجلة “نيتشر” نقطة بداية الموت الأسود في آسيا الوسطى في أوائل القرن الرابع عشر. قام الباحثون بتحليل السجلات التاريخية والبيانات الأثرية والحمض النووي من أسنان الهياكل العظمية المدفونة في مقبرتين في دولة قيرغيزستان. تمكّن العلماء من تحديد نوع البكتيريا التي تتسبب بالطاعون من عينات البقايا البشرية التي يبلغ عمرها 700 سنة، وتحمل هذه البكتيريا اسم “اليرسينية الطاعونيّة“.

اقرأ أيضاً: كيف انتهى الطاعون في العصور الوسطى؟

خلص الفريق إلى أن سلف هذه الجرثومة الوبائية قد تطور في هذه المنطقة بناءً على قرابته بسلالات اليرسينية الطاعونية الحالية. قال “فيليب سلافين“، المؤرخ في جامعة ستيرلنغ في اسكتلندا والمؤلف المشارك للدراسة الجديدة لموقع “بوبيولار ساينس” (العلوم للعموم) في رسالة بالبريد الإلكتروني أن النتائج الجديدة تحل لغزاً عمره قرون ويمكن أن تساعد أيضاً في فهم الأمراض المعدية الناشئة.

قال سلافين: “من المهم دائماً عدم التعامل مع السلالات المختلفة كظواهر منعزلة بل على أنها تقع ضمن سياق تطوري أوسع بكثير”.

يقول الخبراء الذين لم يشاركوا في الدراسة إن النتائج مثيرة للاهتمام ولكنها تتطلب المزيد من التأكيد.

قال “أوليه جاي. بينديكتو“، أستاذ فخري في علم الآثار والحفظ والتاريخ في جامعة أوسلو في النرويج ومؤلف كتاب “التاريخ الكامل للموت الأسود في رسالة بالبريد الإلكتروني: “[النتائج] الجديدة مثيرة للاهتمام ولكنها أولية. يفضّل ويجب إجراء المزيد من الأبحاث لتوسيعها وتعميقها”، وأضاف: “لا تزال أبحاث علم أحياء الحفريات التاريخية والمتعلقة بمرض الطاعون في المرحلة الأولى من تطوّرها، ونتوقّع ظهور العديد من الاكتشافات الجديدة المثيرة للاهتمام والمفاجآت في المستقبل”.

اقرأ أيضاً: هل قضى الطاعون على نصف سكان أوروبا حقاً؟

إيجاد الطاعون في الأسنان

عادة ما تنقل البراغيث المصابة مرض الطاعون إلى البشر بعد موت مضيفها الذي يكون غالباً من القوارض. أصابت بكتيريا اليرسينية الطاعونية البشر خلال فترة تتجاوز 1000 عام، ما تسبب في 3 جائحات منفصلة بدأت في القرن السادس والرابع عشر والتاسع عشر. وقعت جائحة الموت الأسود بين عامي 1346 و1353. وتسبب الطاعون الدبلي بعد هذه الموجة الأولى المدمرة في جائحة استمرت عدة قرون.

تكهن العلماء، بمن فيهم علماء من القرن الرابع عشر والمؤرخون الحديثون، حول المصدر الأولي للطاعون ووجدوا العديد من المواقع المحتملة. وقال سلافين إن تلك المواقع شملت الصين وآسيا الوسطى والسهوب الواقعة بين البحر الأسود وبحر قزوين ومنغوليا وروسيا والهند.

فحص سلافين والمتعاونون معه لتتبع مصدر الطاعون بقايا مقبرتين بالقرب من بحيرة “إيسيك كول” في قيرغيزستان الحالية. تم التنقيب في هذه المقابر في أواخر القرن التاسع عشر لكنها أقدم بكثير. وتشير نقوش شواهد القبور التي تعود إلى الفترة بين عامي 1338 و1339 إلى أن بعض الجثث كانت ضحية لـ “مرض وبائي”. استخرج الفريق للتحقق من هوية هذا المرض الوبائي المادة الوراثية من أسنان 7 أشخاص، والتي تحفظ مسببات الأمراض الموجودة في مجرى الدم. واكتشفوا وجود بكتيريا اليرسينية الطاعونية في 3 أشخاص من مقبرة “كارا دجيغاتش”.

إيجاد الطاعون في الأسنان
موقع مقبرة “كارا دجيغاتش” الذي تم التنقيب فيه بين عامي 1885 و1892 كما يظهر في صورة التقطت عام 1886. أيه إس ليبن

على الرغم من أن الحمض النووي قد تحلل بمرور الوقت، احتوى سنّان على ما يكفي من المواد الوراثية ليتمكن الفريق من استنتاج موضع السلالة البكتيرية داخل شجرة عائلة بكتيريا الطاعون. وخلص الباحثون إلى أن سلالة اليرسينية الطاعونية الموجودة في أسنان الضحايا كانت أحدث سلف مشترك للعديد من فروع بكتيريا الطاعون التي لا تزال موجودة حتى اليوم، ومن بينها السلالة التي تسببت بجائحة الموت الأسود. بالإضافة إلى ذلك، أفاد الفريق أن السلالة القديمة التي اكتشفت في جثث مقبرة كارا دجيغاتش قريبة وراثياً للغاية من سلالة اليرسينية الطاعونية التي تستمر في الانتشار بين جماعات الغرير التي تعيش في جبال “تيان شان” المحيطة.

يقول سلافين: “نعتقد [أنه] من المرجح أكثر أن تكون السلالة القديمة قد تطورت محلياً داخل منطقة جبل تيان شان الممتدة ولم يتم إدخالها إلى مجتمع كارا دجيغاتش من مصدر بعيد”، ويضيف: “عبرت البكتيريا من الغرير إلى البشر في مرحلة ما”.

يشير وجود المجوهرات والحرير والعملات المعدنية وغيرها من القطع الأثرية بالقرب من المقابر إلى أن المجتمعات التي ضربتها الجائحة تحتوي على العديد من السلع التي تم إنتاجها في أماكن بعيدة. وقال سلافين في اتصال هاتفي صحفي إن التجارة ربما لعبت دوراً مهماً في انتشار البكتيريا التي تسببت بمرض الطاعون غرباً تجاه البحر الأسود.

اقرأ أيضاً: هذا ما أخبرتنا به مذكرات الطاعون الدبلي في القرن السابع عشر

نشأة غير محسومة

تقول “نوكيت فارليك“، المؤرخة الطبية في جامعة روتجرز في مدينة نيوارك والتي لم تشارك في الدراسة الجديدة إن هذه الدراسة تؤكّد أن ضحايا المرض الوبائي بالقرب من بحيرة إيسيك كول ماتوا بالفعل بسبب الطاعون. مع ذلك، لا تحسم النتائج الجديدة مصدر البكتيريا التي تسببت بجائحة الموت الأسود. قالت فارليك في رسالة عبر البريد الإلكتروني: “تقدّم الدراسة الجديدة أحد السيناريوهات المحتملة لنشأة الجائحة ولكنها لا تستبعد السيناريوهات المحتملة الأخرى”.

أضافت فارليك أنه لا يزال هناك العديد من الأسئلة حول “التداعيات الأكبر” للورقة الجديدة على تاريخ الطاعون والجائحة التي تسبب بها. تتعلق بعض هذه الأسئلة بالظروف التي دفعت المرض للانتقال من القوارض إلى البشر الذين كانوا يعيشون بالقرب من بحيرة إيسيك كول أو ما إذا كانت العدوى قد انتقلت من مصدر آخر.

اقرأ أيضاً: كيف يساعد الطاعون العلماء على فهم الماضي؟

تقول فارليك: “علاوة على ذلك، ما زلنا لا نعرف كيف كان هذا التفشي المحلي مرتبطاً تاريخياً بأول حالة إصابة بالطاعون تم توثيقها في منطقة البحر الأسود في عام 1346″، وتضيف: “تُعلّمنا الدراسات التطورية لبكتيريا اليرسينية الطاعونية وتجربتنا الحديثة مع جائحة كوفيد-19 أنه قد يكون من المستحيل تقريباً تحديد ’الأصل الحقيقي للجائحات‘”.

قال “فلاديمير موتين”، عالم الأحياء الدقيقة في الفرع الطبي في جامعة تكساس في غالفستون والذي يدرس بكتيريا اليرسينية الطاعونيّة إن النتائج الجديدة تشير إلى أن سلف السلالة التي تسببت بجائحة الموت الأسود ظهر في وقت متأخر أكثر بكثير مما كان يعتقد سابقاً. وأضاف أن الدراسات السابقة أشارت إلى أن هذا السلف تسبب في تفشي المرض في آسيا لمدة قرن على الأقل.

قال موتين: “إنها فرضية منطقية، ولكن لا أعلم إن كانت صحيحة أم لا”، وأضاف: “لكنها مثيرة للاهتمام ويجب أخذها بعين الاعتبار”.

اقرأ أيضاً: كيف نحمي أنفسنا من الحرب البيولوجية؟

تتفق “مونيكا إتش. غرين”، وهي باحثة مستقلة متخصصة في التاريخ الطبي وتاريخ العصور الوسطى مع فارليك في أن الورقة البحثية الجديدية تثبت أن البقايا من القرن الرابع عشر التي وجدت في قيرغيزستان تعود لأشخاص كانوا مصابين ببكتيريا اليرسينية الطاعونية. لكن غرين، والتي درست وجود الطاعون في غرب آسيا في خمسينيات القرن الثالث عشر، ليست مقتنعة بأن النتائج تحدد الفترة الزمنية التي ظهرت فيها السلالة السلف هذه. تشير غرين إلى أن بكتيريا الطاعون تطفر ببطء عندما تنتشر في حيوانات الغرير، ما يعني أن السلالة ربما تكون قد ظهرت لأول مرة قبل تفشي المرض.

قالت غرين في رسالة عبر البريد الإلكتروني: “هل وثّق الباحثون بداية مرحلة جديدة في تاريخ مرض الطاعون في القرن الرابع عشر؟ أم أنهم وثّقوا استمرار وجود سلالة جديدة كانت قد انتشرت بالفعل لعدة عقود في الوقت الذي تعرض فيه هذان المجتمعان في غرب بحيرة إيسيك كول للمرض؟”

تشتبه غرين في أن السلالة التي وجدها سلافين وفريقه هي “ابنة عم” سلالة البكتيريا التي انتشرت في الغرب وتسببت بجائحة الموت الأسود. يجب على الباحثين جمع المزيد من عينات الحمض النووي القديمة من المنطقة وخارجها لاكتشاف نشأة تلك الجائحة.

تفيد غرين أن تاريخ الطاعون يقدم أدلة مهمة لفهم كيفية ظهور الجائحات وانتشارها. إذ تقول: “لم نكن بحاجة إلى خوض نقاشات دقيقة عن تاريخ الجائحات من قبل كما نحتاج اليوم”.