كيف سيغير العلاج الجديد للالتهاب من مضاعفاته اللاحقة؟

نهج علاجي جديد يغير من منظور العلم للالتهاب
حقوق الصورة: شترستوك.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

للالتهاب آثار تخريبية تطال معظم أجهزة الجسم بما فيها الدماغ، فقد يؤدي الالتهاب المديد إلى الشيخوخة المبكرة وتراجع الأداء الذهني وغيرهما، فهل يخيل لنا أن للالتهاب دور في مرض ألزهايمر مثلاً، أو السرطان والسكري حتّى؟

من المهم إعادة صياغة العملية الالتهابية ودراسة مراحلها ومكوناتها من جديد نظراً لارتباط الالتهاب بطيف كبير من الأمراض المزمنة والمناعية، فكما تقول “مولي جيليجان“، طبيبة باطنة مقيمة في جامعة كولومبيا: “إن انتهاء الطور الفعال للالتهاب لا يعني بالضرورة انتهاء العملية الالتهابية، فالواقع أكثر تعقيداً، إذ يمكن لمنتجات الالتهاب كالجزيئات التي تثيره والخلايا والأنسجة الميتة التي تنتج عنه أن تُستَقلب في النهاية، وقد تتراكم في حال لم يستطع الجسم التخلص منها، الأمر الذي يؤدي إلى نتائج متباينة للالتهاب وتأثيره على الجسم”، كما أضافت أن الأدوية المضادة للالتهاب كالبريدنيزون مثلاً فعالة في القضاء على الالتهاب، إلّا أنها تترك الجسم عرضة لأي خلل يواجهه، ويمكن أن يكون لهذا آثار جانبية سامة.

ما هو الالتهاب؟ وهل هو خطير دوماً؟

إن مفهوم الالتهاب ليس سلبيّاً كما هو شائع، فهو يخلص أجسامنا من الأجسام الغريبة التي تزعزع استقرار البيئة الداخلية فيها، مثل البكتيريا والفيروسات وخلايا الورم والمهيجات.

يقول “ديريك جيلروي“، أستاذ علم المناعة في جامعة لندن البريطانية: “تعتبر لدغة النحلة مثالاً نموذجياً لشرح الحالة الالتهابية، حيث يصبح الموقع ساخناً ومحمراً ومتورماً ومؤلماً، وإن هذه ما هي إلا سلسلة من التغيرات البيولوجية التي تشمل تمدد الأوعية الدموية لإيصال أكبر عدد من خلايا الدم البيضاء إلى موقع الإصابة، وهذا ما يُفسر احمرار الموقع وتورمه، وتتسبب الجزيئات التي تحفز هذه التبدلات الوعائية الحكة والألم والحمى المصاحبة للالتهاب”.

في الحالة الحادة، تصل خلايا الدم البيضاء كالبالعات إلى موقع الالتهاب أولاً، وتتجمع لكي تقضي على العامل المسبب أو الجسم الغريب، ومن ثم تنحسر الاستجابة الالتهابية الأولية في غضون 24 إلى 48 ساعة.

أمّا في حالة الالتهاب المزمن، فإن الأسلحة الكيميائية التي تنشرها الخلايا المناعية في الخطوط الأمامية غالباً ما تدمر الأنسجة السليمة، مسببةً أضراراً متنوعة كتلف المفاصل والخلايا العصبية والخلايا الكلوية، الأمر الذي يفسر ارتباط أمراض المناعة الذاتية مثل التهاب المفاصل الرثياني والذئبة الحمامية الجهازية بالالتهاب المستمر.

بالمقابل، يمكن للالتهاب أن يدمر ويعطل الأجهزة مسبباً حدوث فشل أعضاء متعدد وذلك في الحالات الشديدة، كحدوث عاصفة السيتوكين المرتبطة بالإنتانات الشديدة.

اقرأ أيضاً: ما هو الكورتيزون وكيف نجح العالِم فيليب هينش في اكتشافه؟ 

كيف بدأ العمل على صياغة مفهوم جديد للالتهاب؟ 

يقول “رسلان ميدجيتوف“، أستاذ علم الأحياء المناعي بكلية الطب بجامعة ييل: “إن إيقاف الالتهاب ببساطة لا يكفي لإعادة الأنسجة إلى حالتها الطبيعية، حيث إن هذا النهج يتجاهل الجانب الآخر من عملية الالتهاب ألا وهو الترميم، فعملية الالتهاب النشطة مصممة لإعادة بناء الأنسجة وإزالة البكتيريا والخلايا الميتة”.

شبّه ميدجيتوف الالتهاب بأنبوب مياه وشبّه الجسم بالمكتب الحاوي على هذا الأنبوب، فإن تعطل هذا الأنبوب سيغرق المكتب وسيتوجب علينا إصلاحه، ولكن النقطة الجوهرية هي أنه وعلى الرغم من أن إصلاح الأنبوب وحده سيمنع دخول المزيد من المياه إلى داخل المكتب، لكنه لن يعيد المكتب إلى حالته الوظيفية السابقة. وبالمثل، فإن للالتهاب مرحلة تنظيف تُعرف باسم الحلّ، وهي المرحلة التي ركز عالم الأحياء ميدجيتوف عليها.

يتم تنسيق حل عملية الالتهاب بواسطة جزيئات تسمى العوامل الحالّة الأولية أو SPMs. تم اكتشاف هذه العوامل لأول مرة عام 1990 من قبل “تشارلز سرحان“، أستاذ التخدير في كلية الطب بجامعة هارفارد.

استلهم سرحان من أحد معلميه دراسة كيف تتسبب الجزيئات الدهنية المسماة الليبيدات بحدوث الالتهاب، واكتشف مصادفةً أثناء بحثه عن هذه الجزيئات مادة “الليبوكسين“. وما أثار دهشة سرحان أن تأثير الليبوكسين لم يكن محرضاً للعملية الالتهابية، بل أعاقها!

تشتق الليبوكسينات من الأحماض الدهنية الأساسية مثل أحماض أوميغا 3، ولكن من الصعب دراستها في المختبر نظراً لأن نصف عمرها قصير. كان تركيز سرحان منصباً حول تأثير مادة الليبوكسين في الأنسجة البشرية المأخوذة من مرضى تصلب الشرايين، وهو مرض التهابي يصيب جدران الأوعية الدموية، وكانت النتائج مذهلة، حيث تراجعت العوامل الالتهابية عند إدخال الليبوكسين واستعادت الخلايا وظيفتها بشكل تام.

دور الخلايا البيضاء البالعة في العملية الالتهابية

تتفاعل الليبوكسينات والجزيئات الأخرى الحالّة للالتهاب مع البالعات التي تكون وفيرة في الالتهابات الحادة. كان يُعتقد سابقاً أن البالعات تلعب دوراً معزز للالتهابات، ولكن بيّن “جيرهارد كرونكي“، اختصاصي المناعة وأخصائي الأمراض الرثيانية في جامعة نورنبرج، أن الخلايا البالعة تلعب دوراً محورياً في حلّ الالتهاب وليس تعزيزه.

يتم جذب الخلايا البالعة إلى منطقة الالتهاب، والتي بدورها تفرز السيتوكينات والعوامل التي تحارب الميكروبات، لكن وظيفتها تتبدل بتقدم الحالة الالتهابية، فبعد القضاء على العوامل الممرضة، تقوم البالعات بجمع البقايا الفيروسية والجرثومية والخلايا المناعية الميتة، ومن ثم تبتلعها فتزيل بذلك البقايا الخلوية، وبالتالي تساعد البالعات في استعادة توازن أنظمة الجسم وشفاء الأنسجة.

دور إزالة الحطام الخلوي

يتزايد الإجماع على أن العديد من الأمراض التي تُعزى إلى الالتهابات المزمنة والحادة تكون ناتجة عن فشل في إزالة الحطام الخلوي، فعندما تصاب الخلايا البالعة التي تتعرف على العامل الممرض، تنقص القدرة على التخلص من هذه الخلايا فتتراكم، الأمر الذي يؤدي للإصابة بحالة مزمنة من الالتهاب، مثلما يحدث في الذئبة الحمامية الجهازية.

ويمكن تطبيق نفس المثال على حالة الشيخوخة عند المتقدمين بالسن، حيث يفقد الجسم البروتين الذي يتعرف على البقايا الخلوية، ما يمنع الخلايا البالعة من التعرف على هذه البقايا وبلعمتها، ويؤدي ذلك إلى استمرار في إنتاج الجزيئات التي تضخم الاستجابة الالتهابية. يفسر هذا لماذا تكون الأمراض الالتهابية أكثر حدة عند الكبار بالسن نظراً لأنهم لأنهم فقدوا بعض المسارات الحالّة للالتهاب مع التقدم بالعمر.

اقرأ أيضاً: كار تي-سل: دواء “حي” لعلاج السرطان ساعد مريضين في التخلص من السرطان لعقد من الزمن

ما علاقة السرطان ببعض الحالات الالتهابية؟

تحفز عوامل النمو بالإضافة إلى المنتجات الثانوية للعملية الالتهابية من نمو السرطان وانتشاره، وتقتل العلاجات الكيميائية والإشعاعية المستخدمة في علاج ورم السرطان وتتسبب بتراكم حطام خلوي يحفز الالتهاب، الذي بدوره يغذي الخلايا السرطانية المتبقية.

في مقاربة مشابهة، نجح العالِم “ديباك بانيغراهي“، أستاذ مساعد في علم الأمراض لمركز بيث الطبي في بوسطن، في منع تكرار حدوث الأورام بعد الجراحة عن طريق إعطاء جرعات مدروسة من الريسولفين للفئران المصابة بالسرطان، حيث يعتبر الريسولفين من الوسطاء المساعدة في حلّ الالتهاب والتي اكتشفها سرحان.

منح اكتشاف مادة الليبوكسين وغيرها من العوامل الحالّة للالتهاب أملاً في خلق نهج علاجي جديد يعالج السرطانات، حيث ستبدأ المرحلة الأولى من التجارب السريرية لسرطانات البنكرياس والدماغ هذا العام، كما قال بانيغراهي.