هل قدرة البشر على النجاة من عمليات البتر أكبر مما نعتقد؟

هل قدرة البشر على النجاة من عمليات البتر أكبر مما نعتقد؟
أدوات جراحية من زمن الحرب الأهلية الأميركية. منظّمة الصليب الأحمر الأميركية/دائرة المحفوظات الوطنية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

نُشرت دراسة في 7 سبتمبر/أيلول 2022 في مجلة نيتشر عن أقدم عملية بتر جراحية في التاريخ أجريت على شاب بالغ وجد في كهف يحتوي على رسومات في جزيرة بورنيو الإندونيسية. حاجج مؤلفو الدراسة بأنه نظراً لأن احتمال نجاة البشر من عملية البتر دون الحصول على الرعاية الملائمة قليل للغاية، يفترض أن هذا البالغ قد تلقّى رعاية طبية متطورة سمحت له بالعيش لسنوات بعد إجراء العملية.

كتب المؤلفون: “استنتجنا أن ‘جرّاح’ (أو جرّاحي) العصر الحديث الأقرب الذي بتر الرجل اليسرى لهذا الشاب كانت لديه معرفة مفصّلة كافية حول تشريح الأطراف والأجهزة العضلية والوعائية ليقي المريض من فقدان الدم والعدوى القاتلين”، وأضافوا: “يفترض أن هذا الجراح كان يدرك ضرورة بتر قدم المريض للحفاظ على حياته. استنتجنا أيضاً أنه خلال الجراحة، تم الكشف عن الأنسجة المحيطة، ومن ضمنها الأوردة والأوعية والأعصاب، والتعامل معها بطريقة سمحت لهذا الشاب بأن ينجو من العملية ويعيش ويتكيّف مع آليات حركية جديدة”.

لكن البشر نجوا من عمليات البتر أكثر مما كنا نعتقد. هل يعني ذلك أن الأشخاص الذين تعرّضوا لهذه العملية القاسية لم يحتاجوا دائماً للرعاية الطبية المتطورة؟ أو أن العلاجات التي نظن اليوم أنها بسيطة كانت أكثر فعالية مما كنا نعتقد؟

اقرأ أيضاً: متى تفوق إيجابيات الخضوع لجراحة البدانة مخاطرها ؟

بالنسبة لجيليان بينتلي (Gillian Bentley)، باحثة متخصصة في علم الإنسان الحيوي في جامعة دورام في إنجلترا، فالمثال الذي يتبادر إلى الذهن هو صيّاد الكفاف الذي التقت به منذ عقود في ما يعرف الآن بجمهورية الكونغو الديموقراطية. كانت بينتلي تتناول الفطور ذات صباح عندما أتى رجل عجوز قصير القامة إلى القرية. تقول بينتلي: “كان هذا الرجل يمشي على عكازة، وكان الجزء السفلي من رجله مبتوراً”.

علمت بينتلي من زميلها الذي أجرى أبحاثاً ديموغرافية في تلك المنطقة أن هذا الرجل، والذي ينتمي إلى مجموعة “إيفيه” (Efé) العرقية التي تتألف من أشخاص شبه رُحَّل، قام ببتر رجله بنفسه بعد أن عضّه ثعبان سام في أثناء بحثه عن الطعام. وضوحاً، نجا هذا الصياد على الرغم من اضطراره للمشي عبر الأدغال الاستوائية مع جرح يلتئم، معرّضاً لخطر الإصابة بالعدوى.

لمّح بقاء هذا الرجل لبينتلي إلى أن البتر قد “لا يتطلّب عملية جراحية معقّدة”، حسب تعبيرها. تضيف بينتلي: “لقد قام هذا الرجل بما اضطُر لفعله في تلك الظروف”. لم تذهب بينتلي إلى الكونغو لدراسة مواضيع متعلقة بالطب، لكنها تقول إنها لم تر أبداً أية أدلة تبين استخدام مضادات الميكروبات حيث كانت العدوى الميكروبية المؤلمة، والتي تحمل اسم القرحة المدارية، شائعة. تضيف بينتلي قائلة إن الأشخاص هناك كانوا يأتون إلى مراكز التبشير في القرية للحصول على الرعاية الصحية.

اقرأ أيضاً: شفط الدهون كاد أن يقتل هذه المرأة، فما دخل الجراحة التجميلية في ذلك؟

هل يمكن للبشر النجاة من عمليات البتر؟

هل تمثّل حالة هذا الصياد العجوز دليلاً على أن البشر قادرون على النجاة من عمليات البتر بشكل اعتيادي؟ وإذا كان الجواب نعم، هل يعني ذلك أن الشاب الذي وجد في كهف جزيرة بورنيو لم يكن بحاجة إلى رعاية متطورة؟ تقول كارين هاردي (Karen Hardy)، عالمة الآثار في جامعة برشلونة المستقلة، والتي تدرس تاريخ طب الأعشاب: “أنا حذرة في رسم الاستنتاجات من البيانات المتعلقة بجماعات الصيادين والجامعين والتي تم تجميعها في زمننا، خصوصاً تلك المبنية على حالة واحدة فقط”.

تشير هاردي إلى أن البشر المعاصرين الذين يمارسون الصيد والجمع يعيشون في ظروف اجتماعية وبيئية مختلفة عن تلك التي عاش ضمنها البشر منذ آلاف السنين. تأثّر نمط حياة شعب إيفيه كثيراً نتيجة للحروب وغزوات جمع العبيد وتشكيل المستعمرات خلال القرنين الماضيين. وتقول هاردي إن التحولات الاجتماعية التي حدثت منذ العصر الحديث الأقرب تسببت بزوال المعارف المتعلقة بالأعشاب. يشير البحث الذي أجرته هاردي إلى أن الانتقال إلى نمط الحياة الزراعي والمستقر خلال العصر الحجري الحديث ارتبط بانخفاض عدد النباتات الطبية.

اقرأ أيضاً: جراحة إعادة بناء الثدي الطبيعي تعيد للمرأة ما سلبه منها السرطان

لذلك، قد لا تمثّل حالة هذا الصياد الطريقة التي تمكّن البشر فيها من النجاة من عمليات البتر تاريخياً. تقول هاردي: “كان البشر [الذين عاشوا في العصر الحديث الأقرب] يعرفون المضادات البكتيرية وطرق إيقاف تدفّق الدم”، وتضيف: “هناك العديد من النباتات المضادة للبكتيريا والنباتات التي توقف تدفّق الدم. كما أن هناك الكثير من الأدلة التي تبين أن هؤلاء البشر كانوا يعرفون كيف يستخدمونها. ليس لديّ أية مشكلة في تقبّل الفكرة التي تنص على أن عمليات البتر تتطلب الخبرة عندما يتعلق الأمر بتسكين الألم واستخدام المضادات البكتيرية”.

يتوقّف جزء من فهمنا لتبعات دراسات الحالة هذه على تعريف “العلاج الطبي المتطور”. في حين أن الجراحة المعاصرة قدّمت العديد من الفوائد الواضحة بسبب فهمنا التخطيطي للشرايين والأعصاب والمطهّرات والتخدير، من المحتمل أن العلاجات القديمة كانت فعالة أيضاً حتى ولو لم تكن جزءاً من الطب المعاصر.

يبدو أن العديد من الأشخاص قد نجوا

وفقاً لسجلات الجيوش الأميركية والأوروبية لعمليات بتر الأعضاء التي أجريت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نجا عدد كبير من المرضى من هذه العمليات التي كانت تشتهر بأنها تتسبب بالوفاة نتيجة للإصابة بالأمراض المعدية. وثّق أحد الأطباء في سفينة أتش إم إس فيكتوري (HMS Victory) الحربية 102 إصابة و10 عمليات بتر بعد معركة وقعت في عام 1805. توفّي 6 أشخاص مصابين فقط. يقول ميرفن سينغر (Mervyn Singer)، طبيب العناية المركزة في كلية لندن الجامعية: “لم يعرف البشر شيئاً عن أهمية النظافة الشخصية أو غسل اليدين أو استخدام المطهرات حتى عام 1875 تقريباً”. وفقاً لبيانات أخرى جمّعها سينغر، تراوحت نسب النجاة من عمليات البتر خلال الحرب الأهلية الأميركية من 50% إلى 90%. وعلى الرغم من أن هذه النسب ليست مرتفعة للغاية، إلا أنها مثيرة للإعجاب نظراً لقلة الموارد في ساحات المعارك.

وجد تحليل حديث لمجموعة من الهياكل العظمية التي دفنت في مقبرة أحد المستشفيات في إنجلترا بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن هناك عدداً كبيراً بشكل مفاجئ من الأطراف المبتورة الملتئمة. ومن المحتمل أن يكون هناك الكثير من الأشخاص الذين نجوا من عمليات البتر. تقول ريبيكا غاولاند (Rebecca Gowland)، عالمة الإنسان التي تدرس إصابات الهياكل العظمية في جامعة دورام: “سيغادر الأشخاص الذين تعافوا تماماً [المستشفى]. لذلك، فهذه العينة منحازة”.

اقرأ أيضاً: عمليات جراحية نوعية تُجرى في مستشفى عربية ترقى من خلالها لدرجة المستشفيات العالمية

يقول سينغر، والذي جمّع السجلات العسكرية المتعلقة بعمليات البتر كجزء من بحثه حول الطريقة التي يتكيّف فيها جسم الإنسان مع الإجهاد، إن العديد من الإنجازات التي تم إحرازها في مجاله خلال العقود الأخيرة الماضية تتعلق بإدراك أن المريض قد يحتاج أحياناً إلى عدد أقل من التدخلات الطبية، وليس أكثر. يضيف سينغر قائلاً إن هذا يتضمّن “منح المرضى كمية أقل من السوائل وتقليل استخدام أجهزة التنفس الاصطناعية واستخدام مواد التخدير الأقل شدة وتقليل كمية الطعام التي يتناولها المرضى”. تنص فرضية سينغر على أن الجسم يمتلك قدرة أكبر مما نعتقد على التعامل مع الإصابات. وقد يشمل ذلك عمليات بتر الأطراف.

يقول سينغر إن الأشخاص الذين خضعوا لعمليات بتر الأطراف في الحرب تلقّوا رعاية طبية غير جراحية، والتي قد تكون أحياناً أكثر فعالية مما نعتقد. أدرك الجراحون منذ القرن السادس عشر أنهم يستطيعون إيقاف نزيف الشرايين باستخدام الملاقط. من المحتمل أن الأطباء استخدموا الكي بالزيت الساخن أو كبريتات النحاس أو القطران لمعالجة جروح عمليات البتر، وهي عملية توقف النزيف وتعقّم الجرح بنفس الوقت.

بالنسبة لهاردي، هذا العلاج الأخير له دلالات خاصة، وذلك لأنه هناك الكثير من الأدلة التي تدل على أن بشر ما قبل التاريخ (وحتى القردة العليا) قاموا بجمع القطران الطبيعي (أو البيتومين) واستخدامه. استخدم إنسان نياندرتال القطران الطبيعي والقار لربط الأدوات الحجرية بالمقابض الخشبية. وليس من غير المنطقي الاعتقاد بأن النياندرتال استخدم هذه المواد في العلاجات الطبية.

هناك أدلة تبين أن مقدّمي الرعاية طبّقوا علاجات أصبحت منتشرة على نطاق واسع اليوم قبل ظهور النظام الطبي الحديث بوقت طويل. ظهرت الأجهزة المزيلة لرجفان القلب الأولى في أواخر القرن الثامن عشر، على الرغم من أن رواج استخدامها في المستشفيات ومراكز الطوارئ استغرق 250 عاماً آخر.

اقرأ أيضاً: إنسان نياندرتال يفسر سبب حدوث آلام أسفل الظهر

تذكر هاردي مثال الرعاة في إفريقيا الشمالية، والذين عالجوا القروح الناجمة عن الاحتكاك بالسروج باستخدام نوع معين من العفن، والذي اتضح لاحقاً أنه البينيسيليوم. تقول هاردي: “يحتوي عالمنا على الكثير من الأشياء التي لا نعرفها بعد” من المحتمل أن قدرة البشر على النجاة من علميات البتر أكبر مما كنا نتوقع. ولكن قد يعود ذلك أيضاً إلى حقيقة أننا أمهر في معالجة أنفسنا مما كنا نعتقد.