ربما تكون هذه الطفرة الجينية القديمة هي التي جعلت البشر عدَّائين بالفطرة

الصورة: بيكسلز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إن خلاياك مهيَّأة للركض في سباق الماراثون، حتى لو لم تكن مستعداً للقيام بذلك؛ حيث إن بعض الأبحاث الحديثة تقول إن كل خلية في جسمنا تحمل طفرةً قد تساعد على تحسين عضلاتنا لتتمكن من الركض لمسافات طويلة.

وقد يكون أحد أقدم الاختلافات الجينية المعروفة بين البشر وقرود الشمبانزي هو ذلك الذي ساعد أسلاف الإنسان القدماء -والإنسان الحديث الآن- على التفوُّق في الركض لمسافات طويلة، ولفهم آلية عمل هذه الطفرة، قام العلماء بفحص عضلات الفئران التي تم تعديلها جينياً لتحصل على هذه الطفرة، وقد أدى وجودها عند هذه القوارض إلى زيادة مستويات الأكسجين إلى العضلات العاملة؛ مما زاد من القدرة على التحمل، وحدَّ من التعب العضلي بشكل عام. ويخلص الباحثون إلى أن من الممكن للطفرة أن تقوم بوظيفة مماثلة عند البشر، وقد نُشرت النتائج مؤخراً في دورية وقائع الأكاديمية الملكية بـ (Proceedings of the Royal Academy B).

وإن العديد من التعديلات الفسيولوجية تساعد على جعل البشر بارعين في الركض لمسافات طويلة؛ مثل تطور الأقدام الطويلة والقدرة على التعرق وفقدان الفرو، فكلها من العوامل التي ساعدت على زيادة قدرتنا على التحمُّل، و يعتقد الباحثون -بهذه النتيجة الجديدة- أنهم “وجدوا أولَ أساس جزيئي لهذا التغيير غير العادي عند البشر”، وذلك كما يقول أجيت فاركي؛ الطبيب والباحث في الطب الخلوي والجزيئي في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، وهو المؤلف الرئيسي للدراسة.

ويُذكر أن الجين (CMP-Neu5Ac Hydroxylase) -أو CMAH اختصاراً- قد تعرَّض لطفرة عند أسلافنا منذ ما يقرب من مليوني أو ثلاثة ملايين عام، وذلك عندما بدؤوا يبتعدون عن الغابة من أجل أن يصيدوا ويجمعوا الثمار عبر السافانا الواسعة، ويقول فاركي إنه أحد أقدم الاختلافات الجينية التي نعرفها بين الإنسان الحديث والشمبانزي. وقد استخدم فاركي وفريقه البحثي الفئران -على مدى السنوات العشرين الماضية- لربط الطفرات بالتأثيرات الأخرى على جسم الإنسان أيضاً، بما فيها الأعراض الأشد لضمور العضلات والتهابها، والتي يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بالسرطان بسبب تناول اللحوم الحمراء.

ورغم أن دانييل ليبرمان (العالم المتخصص في دراسة تطور الإنسان القديم بجامعة هارفارد) لم يشارك في الدراسة، إلا أنه بحث -على نطاق واسع- مسألة الركضَ والتطور عند البشر، وهو يقول: “هناك الكثير من الجينات التي تم تحديدها على أنها مرتبطة بالركض، ولكن هذا هو الجين الأول الذي أعرفه ويشير إلى خاصية مكتسبة وجديدة، والتي تظهر في نفس الوقت تقريباً الذي أصبح لدينا فيه أدلة أحفورية على الركض”.

لكن ليس كل الباحثين مقتنعين بدور هذا الجين في تطور الإنسان؛ حيث إن تيد جارلاند (عالم الأحياء المتخصص في الفسيولوجيا التطورية في جامعة كاليفورنيا في ريفرسايد) يحذِّر من أن هذا الارتباط لا يزال “مجرد توقُّع” في هذه المرحلة، ويقول: “أنا متشكِّك جداً حول الجانب المتعلق بالإنسان، ولكن لا شكَّ في أنه يفعل شيئاً للعضلات”، كما يقول إن مجرد النظر إلى التسلسل الزمني للوقت الذي نشأت فيه هذه الطفرة ليس دليلاً كافياً على أن هذا الجين بالذات لعب دوراً هاماً في تطور الركض.

وتقوم طفرة CMAH بوظيفتها عن طريق تغيير سطح الخلايا التي تشكِّل جسم الإنسان؛ يقول فاركي: “كل خلية في الجسم مغطاة تماماً -وبلا ريب- بكمية كبيرة من السكريات”، ويؤثر الجين CMAH على سطح هذه السكريات عن طريق الترميز لحمض السياليك، وبسبب هذه الطفرة يصبح لدى البشر نوع واحد فقط من حمض السياليك في السكريات الموجودة في خلاياهم، بينما تمتلك العديد من الثدييات الأخرى -بما فيها الشمبانزي- نوعين من الحمض، وهذه الدراسة تشير إلى أن هذا التغير في الأحماض على سطح الخلايا يؤثر على طريقة وصول الأكسجين إلى خلايا العضلات في الجسم.

وفي هذه التجربة استخدم جوناثان أوكربلوم -وهو طالب دراسات عليا في مختبر فاركي- مجموعةً من الفئران تمتلك جينات عادية ترمِّز لكلا النوعين من الحمض، ومجموعة أخرى تمتلك الطفرة الشبيهة بالإنسان، وقارن الباحثون كيفية ركض الفئران على جهاز الركض قبل التدريب على العجلة وبعده؛ وكانت النتيجة أن تمكَّنت الفئران ذات طفرة CMAH منذ البداية من الركض لمسافة أبعد وبشكل أسرع من نظرائها العاديين، ومع التدريب على العجلة كانت تزداد ميزتها التنافسية، حيث ركضت بشكل أسرع بـ 12% ولمسافة أبعد بـ 20% بالمقارنة مع الفئران التي لا تملك هذه الطفرة.

وبعد اختبارات جهاز الركض، فحصت إلين برين (العالمة في أبحاث الفسيولوجيا في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو) عضلات الفئران، ووجدت أن التي تعرَّضت للطفرة لم تتعب بنفس سرعة تعب عضلات الفئران العادية، بالإضافة إلى أن القوارض التي لا تمتلك الجين CMAH استخدمت الأكسجين بشكل أكثر كفاءة على المستوى الخلوي، وكان لديها عدد أكبر من الشعيرات الدموية التي تزوِّد الأكسجين إلى العضلات النعلية في الساق.

ويقول جارلاند إن الطريقة التي تؤثر بها الطفرة على التحمُّل العضلي أمر مثير للاهتمام، ولكننا لا نستطيع أن نفترض أن هذه الطفرة بالذات كانت “أساسية” في تطور البشر إلى عدائين يركضون لمسافات طويلة، و”إذا لم تحدث هذه الطفرة قطُّ، فقد كان من المحتمل أن تحدث طفرة أخرى”.

ويقول جارلاند إن على الباحثين -من أجل إثبات العلاقة بين الجين CMAH والتطور البشري- أن يدرسوا القدرة على التحمُّل عند الحيوانات الأخرى مثل الكلاب أو الغزلان أو النعام، والتي تقوم جميعها باستخدام عضلاتها لقطع مسافات طويلة، ومعرفة ما إذا كان بإمكانهم العثور على طفرات مشابهة تؤثر على التحمُّل العضلي، كما سيكون مهتماً أيضاً برؤية هذه النتائج وهي تتكرر عند الفئران -التي يتم إنتاجها بشكل خاص ليكون لديها مستويات عالية من القدرة على التحمّل- لمعرفة ما إذا كان التأثير سيبقى أم لا.

كما يقول ليبرمان إن فهم طريقة تصميم أجسامنا لتستطيع أداء التمارين الرياضية لا يساعدنا على الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بماضينا فحسب، بل يساعدنا أيضاً على إيجاد طرق جديدة لتحسين الصحة في المستقبل؛ إذ يمكن الوقاية من العديد من الأمراض -مثل السكري وأمراض القلب- من خلال التمارين، ويضيف: “نحتاج إلى معرفة كيفية تنظيم هذه المسارات للمساعدة في مكافحة المرض”.

وليس من الواجب عليك أن تركض في سباق ماراثون لتحقيق أقصى استفادة من قدرات الركض المدعومة من خلاياك، وإنما توصي جمعية القلب الأميركية بالقيام بحوالي 30 دقيقة من النشاط المكثف بشكل يومي؛ وذلك من أجل الحفاظ على صحة القلب والأوعية الدموية بشكل ملائم، ولكن إذا كنت تشعر بالرغبة في اختبار قدراتك البدنية، فاعلم أن البيولوجيا تدعمك في ذلك.