تؤثر ذكرياتنا المؤلمة على رؤيتنا للحياة، وإليك تفسير ذلك

من المستحيل تقريباً أن تتزعزع الذاكرة المؤلمة.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لا يترك معظم ما تمر به وتواجهه أيَّ أثر في ذاكرتك، فحفظ المعلومات الجديدة غالباً ما يتطلب الكثير من الجهد والتكرار،  كما تؤثر الذكرايات المؤلمة علي رؤيتنا للحياة تخيل أن تذاكر من أجل اختبار صعب أو أن تحاول إتقان مهام وظيفية جديدة وستجد أن من السهل نسيان ما تعلمته، حتى أن تذكُّر تفاصيل الماضي يمثِّل تحدياً في بعض الأحيان.

لكن بعض التجارب السابقة يمكن أن تلاحقك لسنوات، فقد يكون من المستحيل نسيان الأحداث التي تهدد الحياة -مثل التعرُّض للسرقة أو الهروب من الحريق- حتى وإن قمت ببذل كل جهد ممكن لنسيانها. وإن التطورات الأخيرة في جلسات استماع ترشيح المحكمة العليا وما ارتبط بها من أعمال تحت الهاشتاج #WhyIDidntReport على وسائل الإعلام الاجتماعية قد أحدثت انزعاجاً لعامة الناس، وأثارت أسئلة حول طبيعة هذه الأنواع من الذكريات المؤلمة ودورها وتأثيرها.

وإذا ما وضعنا السياسة جانباً، فما الذي يفهمه أخصائيو الطب النفسي وعلم الأعصاب عن كيفية استمرار صدمات الماضي وبقائها في حياتنا من خلال الذكريات؟

يستجيب الجسم بشكل تلقائي للتهديد

تخيل مواجهة خطر شديد مثل الاحتجاز تحت تهديد السلاح، حيث يزداد معدل ضربات القلب على الفور، وتنقبض الشرايين، وتتوجه كمية أكبر من الدم إلى عضلاتك، والتي تتوتر استعداداً لمواجهة احتمال الحياة أو الموت، ويزداد التعرُّق ليبرِّد الجسم ويحسِّن قدرة السيطرة على الراحتين والقدمين لزيادة قوة الاجتذاب للهروب، وفي بعض الحالات -كأن يكون التهديد كبيراً جداً- قد تتجمَّد وتصبح غير قادر على الحركة.

وغالباً ما تكون استجابات التهديدات مصحوبة بمجموعة من الأحاسيس والمشاعر، وقد تزيد حدة الحواس بما يُسهم في زيادة الكشف عن التهديد والاستجابة له، وقد تعاني من وخز أو تنميل في أطرافك، وكذلك ضيق في التنفس أو ألم في الصدر، أو شعور بالضعف أو إغماء أو دوخة، وقد تتسارع أفكارك أو -على العكس- قد تواجه نقصاً في الأفكار وتشعر بالابتعاد عن الواقع، وقد يسيطر عليك الخوف أو الذعر أو العجز أو عدم السيطرة أو الفوضى.

وتعدُّ ردود الفعل هذه تلقائية ولا يمكن إيقافها ما دامت قد بدأت، بغض النظر عن ما تجد في نفسك بعد ذلك من الشعور بالذنب أو العار بسبب عدم القتال أو الهروب.

للدماغ مساران في الرد على الخطر

حققت الأبحاث البيولوجية على مدى العقود القليلة الماضية تقدماً كبيراً في فهم كيفية استجابة الدماغ للتهديد؛ إذ يتم التحكم في استجابات الدفاع من قِبل الأجهزة العصبية التي ورثناها عن أسلافنا التطوُّريين البعيدين.

 

تشارك اللوزة (الظاهرة باللون الأحمر) في معالجة الأحاسيس.
حقوق الصورة: لايف ساينس داتابيزس، كرييتف كومونس

أحد العوامل الرئيسية هي اللوزة؛ وهي بِنية تكمن في عمق الفص الصدغي الأوسط، وتوجد واحدة في كل جانب من الدماغ، وهي تعالج معلومات التهديد الحِسِّية وترسل المخرجات إلى مواقع الدماغ الأخرى، مثل الوطاء (المسؤول عن إفراز هرمونات التوتر) أو مناطق جذع الدماغ (التي تتحكم في مستويات التأهُّب والسلوكيات التلقائية، بما فيها الجمود أو عدم الحركة).

وتشير الأبحاث التي أُجريت على الحيوانات -وعلى البشر مؤخراً- إلى وجود مسارين محتملين تتلقى اللوزة من خلالهما المعلومات الحسِّية، يسمى المسار الأول بالطريق المنخفض، ويقدِّم إشارة سريعة ولكنها غير دقيقة من المهاد الحسي للَّوزة، ويُعتقد أن هذه الدارة مسؤولة عن الاستجابة الفورية وغير الواعية للتهديد.

أما الطريق المرتفع فيقع مساره ضمن المناطق الحسِّية القشرية، وهو يقدِّم إلى اللوزة معلومات عن التهديد أكثر تفصيلاً وتعقيداً، ويعتقد الباحثون أن الطريق المرتفع يشارك في معالجة جوانب التهديدات التي يدركها الشخص بشكل واعٍ.

ويوضح النموذج ثنائي المسار كيف يمكن بدء الاستجابات للتهديد حتى قبل أن تدرك ذلك بشكل واعٍ؛ حيث ترتبط اللوزة مع شبكة من مناطق الدماغ -بما فيها الحصين والقشرة أمام الجبهية وغيرها- ثم تعالج جميعها جوانب مختلفة من السلوكيات الدفاعية. فمثلاً عندما تسمع صوتاً حاداً ومدوياً وتقف جامداً على الفور، فإن هذه الاستجابة يبدؤها الطريق المنخفض، أما إذا لاحظت وجود شخص يحمل مسدساً، وبحثت في محيطك فوراً لتحديد مكان للاختباء ومسار الهروب، فلن تكون هذه التصرفات ممكنة بدون مشاركة الطريق المرتفع.

نوعان من الذكريات

وتعتبر الذكريات المؤلمة قوية للغاية، وتأتي ضمن نوعين؛ فعندما يتحدث الناس عن الذكريات، فهم في الغالب يشيرون إلى ذكريات واعية أو صريحة، ولكن الدماغ قادر على ترميز الذكريات المتميزة بالتوازي مع نفس الحدث، وبعض هذه الذكريات يكون صريحاً وبعضها يكون ضمنياً أو غير واعٍ.

وأحد الأمثلة التجريبية على الذكريات الضمنية هو اشتراط التهديد، وقد تم في المختبر إجراء محفِّز ضار مثل الصدمة الكهربائية -التي تثير استجابات التهديد الفطرية- بالتزامن مع محفز محايد مثل صورة أو صوت أو رائحة، فشكَّل الدماغ ارتباطاً قوياً بين المحفز المحايد واستجابة التهديد، وصارت هذه الصورة أو الصوت أو الرائحة تكتسب القدرة على البدء باستجابات التهديد التلقائية غير الواعية، وذلك في غياب الصدمة الكهربائية.

الأمر يشبه إفراز لعاب الكلاب في تجربة بافلوف عند سماع جرس العشاء، ولكن هذه الاستجابات التهديدية المشروطة تتشكَّل عادة بعد الاقتران الفردي بين التهديد الفعلي أو المحفز الضار وبين المحفز المحايد، وكذلك فهي تستمر مدى الحياة. وليس من المستغرب أنها تدعم البقاء على قيد الحياة، فالطفل -على سبيل المثال- عندما يتعرض للحرق من موقد ساخن، فسيبتعد غالباً عن أي موقد من أجل تجنب الحرارة والألم.

وتشير الدراسات إلى أن اللوزة مهمة لتشفير الارتباطات بين المحفزات الضارة والمحايدة وحفظها، كما تشير إلى أن هرمونات التوتر ووسائطه -مثل الكورتيزول والنورإبينفرين- تلعب دوراً هاماً في تكوين ارتباطات التهديد.

 

أحد التفاصيل -مثل أزيز أضواء الشوارع أو الإطارات المتشققة للشاحنة- يُمكن أن يثير الذكريات المرتبطة بحادث أليم.
حقوق الصورة: إيان فاليريو / أنسبلاش، كرييتف كومونس

ويعتقد الباحثون أن الذكريات المؤلمة هي نوع من الاستجابة للتهديد المشروط، فبالنسبة للناجي من حادث دراجة مثلاً فإن مشهد شاحنة تقترب منه بسرعة -بشكل مماثل لتلك التي اصطدمت به- قد يتسبب في تسارع القلب وتعرُّق الجلد، وبالنسبة للناجي من الاعتداء الجنسي فقد تتسبب رؤية الجاني أو شخص يشبهه في الشعور بالارتجاف أو اليأس والرغبة في الاختباء أو الهرب أو القتال، وهذه الاستجابات تبدأ بغض النظر عما إذا كانت تأتي مع ذكريات واعية حول الصدمة أم لا.

ويتم ترميز الذكريات الواعية للصدمة من قِبل مواقع مختلفة في الدماغ، والتي تعالج جوانبَ مختلفة من التجربة، كما أن الذكريات الصريحة للصدمة تعكس الذعر من التجربة الأصلية، وقد تكون أقل تنظيماً من الذكريات المكتسبة تحت ظروف أقل شدة، إذ عادةً ما تكون أكثر قوة وكثافة وثباتاً.

بعد تشكيل الذكريات

الذكريات هي ظاهرة بيولوجية وديناميكية أيضاً، وبالتالي فإن التعرض إلى الإشارات التي تؤدي إلى تذكُّر أو استرجاع الذكريات المؤلمة يؤدي إلى تنشيط الأجهزة العصبية التي تحفظ الذكريات، وهذا يشمل التنشيط الكهربائي للدارات العصبية، وكذلك العمليات داخل الخلوية الكامنة.

كما أن الذكريات المعاد تنشيطها تعدُّ عرضة للتعديل، وتعتمد صفة هذا التعديل واتجاهه على ظروف الشخص الذي يتذكَّر الذكريات، وعادةً ما يرتبط استرجاع الذكريات المؤلمة الضمنية أو الصريحة بمستويات عالية من التوتر، وتعمل هرمونات التوتر على دارات الدماغ النشطة، وقد تقوِّي الذاكرة الأصلية للصدمة من خلال ظاهرة تُعرف بإعادة ترسيخ الذاكرة.

وهناك إستراتيجيات سريرية لمساعدة الناس على الشفاء من الصدمات العاطفية، وأحد العوامل الحاسمة هو الشعور بالسلامة، كما أن استرجاع الذكريات المؤلمة تحت الظروف الآمنة عندما تكون مستويات التوتر منخفضة نسبياً وتحت السيطرة يمكِّن الفرد من تحديث التجربة المؤلمة وإعادة تنظيمها. ومن الممكن ربط الصدمة بالتجارب الأخرى حتى يقل تأثيرها المدمر، ويسمِّي علماء النفس ذلك بالنمو اللاحق للصدمة.

ومن الواجب الأخلاقي مراعاة الظروف التي يتم تحتها استرجاع الذكريات المؤلمة، سواء أثناء العلاج أو أثناء تحقيقات الشرطة أو جلسات المحكمة أو الشهادات العامة؛ فقد يكون تذكُّر الصدمة جزءاً من عملية الشفاء، أو قد يؤدي إلى إعادة الصدمة وبقائها واستمرار التأثيرات الضارة من هذه الذكريات المؤلمة.

ياتسيك ديبييتس هو أستاذ مساعد في قسم الطب النفسي، وأستاذ أبحاث مساعد في معهد علم الأعصاب الجزيئي والسلوكي في جامعة ميتشيغان. وقد نُشر هذا المقال أولاً على موقع ذا كونفرسيشن.