الأخطبوط يستطيع تعديل نفسه وراثياً بمرونة

استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الإنسان مخلوق عجيب، يشارك في أنشطة اجتماعية مع عائلته وأصدقائه، ويقوم بحل الألغاز ويصنع خياراته. وقد يكون الإنسان أكثر المخلوقات فقاريّةً على الأرض، ولكننا نعلم أننا لسنا الوحيدين الذين نملك هذا النوع من التعقيد السلوكي. فالغربان تستطيع استخدام الأدوات، والرئيسيات تكوّن بنى اجتماعية مذهلة، والحيتان تنظم الحشود، وتشترك جميع هذه المخلوقات في أنها تنتمي جميعاً للفقاريات. والفقاريات تشترك ليس فقط في كونها تملك عموداً فقرياً ولكنها تملك أيضاً نظاماً عصبياً مركزياً يفسح المجال أمام التعقيد السلوكي.
وهناك أيضاً رأسيات الأرجل، وهي تستطيع حل عدد كبير من الألغاز المعقدة، ما يشير إلى أنها تنافس الفقاريات، وعلى الرغم من ذلك فقد بقيت تشارك الإنسان نفس الأسلاف لمدة 500 مليون سنة على الأقل. وفي عالم اللافقاريات نجد للأخطبوط والحبار والسبيط شأناً خاصاً، وقد عرفنا أخيراً السبب في ذلك، حيث أشارت دراسة نشرت في مجلة الخلية إلى أن هذه المخلوقات تملك قدرة خارقة على التلاعب بالتعليمات الموجودة في حمضها النووي، وقد يفسر هذا ذكاء رأسيات الأرجل وقدرتها على التكيف.

يشبه الحمض النووي مخططاً للتعليمات الوراثية، وهو ثابت ومعزول غالباً في النواة للحفاظ على المعلومات الوراثية آمنة لتمريرها إلى الجيل التالي، بينما يقوم الحمض الريبي النووي بترجمة هذه التعليمات إلى أوامر.
فعندما يقول الحمض النووي “علينا أن نصنع هذه البروتينات في هذا الوقت” يسير الحمض الريبي النووي إلى الهيولى وينفذ الأمر ويجعله واقعاً.
ولكن الحمض الريبي النووي يتمرد أحياناً، فتتدخل بعض الأنزيمات ساحبةً قواعد الأدينوسين التي ترمّز لبروتينات معينة وتستبدل قواعد الإينوسين بها، وعندما يحدث هذا يتم تعديل الحمض الريبي النووي لإنتاج بروتين مختلف عن البروتين الذي طلبه الحمض النووي DNA.
يقول إيلي آيزنبرغ، المؤلف المشارك في الدراسة: “قبل حوالي 25 عاماً، حدد الناس المثال الأول لتحرير الحمض الريبي النووي في الثدييات، وكانت هناك حالات قليلة يطلب فيها الحمض النووي شيئاً ثم يكون البروتين مختلفاً.
ويرى آيزنبرغ أنه وخلال عقدين من الزمان، كانت دراسة هذه الظاهرة مقتصرة على عدد قليل من الحالات التي عثر عليها عن طريق الصدفة، ولكن في السنوات الأخيرة قدم العلماء مقاربة أكثر منهجية، ووجدوا أن البشر يستخدمون أحيانا هذه الخدعة الجينية أيضاً، ولكن هذا نادر الحدوث، فلدى البشر الكثير من المواقع التي قد يحدث فيها التعديل، ولكن معظمها يتوضع في أجزاء معينة من الجينوم بحمض نووي غير مفيد لا يقوم بأي ترميز، ومن بين 1000 موقع ترميز يمكن إجراء التحرير فيه، لا يوجد سوى مجموعة قليلة من المواقع في الأماكن التي قد يكون للتحرير فيها أثر هام.
أما الحبار الذي يملك نفس العديد من الجينات فلديه حوالي 11000 من هذه المواقع المفيدة.
وقد اعتمدت الدراسة الجديدة التي تتبعت مواقع تحرير الحمض الريبي النووي عند أنواع مختلفة من رأسيات الأرجل على بحث سابق وجد أن الأخطبوط يستخدم تحرير الحمض الريبي النووي ليتكيف سريعاً مع تغيرات درجات الحرارة، ويحدث هذا التحرير الواسع في الأنسجة العصبية للحبار. وبفحص الأنواع الأخرى اكتشف الباحثون أن هذه الطريقة في تحرير الحمض الريبي النووي شاملة في معظم أنواع رأسيات الأرجل، والاستثناءات التي تثبت القاعدة توفر بعض القرائن المدهشة.
لدى كل أعضاء طائفة الغمديات التابعة لرأسيات الأرجل، الحبار والسبيط والأخطبوط التي قام الباحثون باختبارها هذا النشاط في تحرير الحمض الريبي النووي. ولكن النوتي اللؤلؤي يملك مستويات أقل بكثير من تحرير الحمض الريبي النووي.
وقد تم اختبار رخويات أقل قرابة تطورية منه للمقارنة وكانت تملك نفس هذه المستويات المنخفضة.

ولأن كثيراً من تحرير الحمض الريبي النووي يحدث في أنسجة المخ، يعتقد الباحثون أن هذه العلاقة تشير إلى أن عملية التحرير تساعد في منح بعض رأسيات الأرجل ذكاءها. أما سبب وكيفية حدوث هذه العملية فهذا سؤال تجيب عنه الدراسات المستقبلية، ولكن يبقى هناك شيء أكيد وهو أن تحرير الحمض الريبي النووي يجعل الأنواع مرنة بشكل مذهل.

يقول آيزنبرغ: “عندما يكون لدينا جين، يمكن تحسين الترميز من خلال الطفرات، هذه هي الصورة العامة للتطور، حيث تأتي طفرة لتكييف البروتين لاحتياجات الكائن الحي، ولكن بالنسبة للحمض النووي فمن الصعب تغييره”.
إن عملية تحرير الحمض الريبي النووي أكثر قابلية للتكيف. وعن هذا يقول آيزنبرغ: “يمكن تحرير الحمض الريبي النووي في نسيج واحد كالدماغ مثلاً، ولا يمكن فعل ذلك مع نسيج آخر كالعضلات. ويمكن أن يكون لديك البروتين القديم الذي تم إنتاجه تحت ظروف معينة ، والبروتين الجديد الذي تم إنتاجه خلال الإجهاد. وقد يمكن تحريره وقد لا يمكن تحريره ضمن مستويات متغيرة، ويمكن الجمع بين النسخة المحررة والنسخة غير المحررة في نفس الخلية”. وقد تحقق الباحثون فعلاً من أن الأخطبوط الذي عليه التكيف مع درجات الحرارة المتغيرة يستخدم تحرير الحمض النووي للقيام بذلك، ولكن الاحتمالات لا نهاية لها.
ويأمل آيزنبرغ وزملاؤه في تقصي تغيرات بيئية أخرى، مثل تحمض المحيطات، وهو مصدر قلق متزايد في عصر تغير المناخ، لمعرفة أي نوع من التكيفات التي قد تقوم بها رأسيات الأرجل عند الحاجة.

ولكن، إذا كان تحرير الحمض الريبي النووي ميزة مدهشة حقاً فلماذا لا يقوم به البشر كثيراً؟
يقول إيزنبرغ: “هذا سؤال يمكننا الآن أن نبدأ في الإجابة عليه، لأن لدينا الآن هذه الحيوانات التي تفعل ذلك في كل وقت لمقارنتها بنا، ولكن لدينا فكرة عن الضريبة التي تدفعها لقاء ذلك”. من المرجح أن لدى رأسيات الأرجل مقايضة تطورية خطيرة، فمن أجل الحفاظ على مرونة تحرير الحمض الريبي النووي ، فإنها قد تخلت عن القدرة على إجراء تغييرات جينية عن طريق الطفرة. وبعبارة أخرى فقد يتوقف تطورها، وذلك لأن التراكيب التي تسمح بتحرير الحمض الريبي النووي معقدة ويجب أن تتوضع بدقة في المكان الصحيح من الجينوم. ومن المرجح أن تعيق أنواع الطفرات التي تساعد البشر على التكيف والبقاء من جيل إلى جيل قدرة رأسيات الأرجل على التحرير التلقائي.

تقول كاري ألبرتين الباحثة في جامعة شيكاغو: “هذه النتائج تتناسب تماماً مع ما تم وصفه سابقاً في رأسيات الأرجل، ولكنها بخلاف ما نعرفه عن حيوانات أخرى، تسلط الضوء على أهمية دراسة العديد من الكائنات الحية المختلفة لمعرفة كيفية عمل النظم البيولوجية”. وتأمل ألبرتين وهي أحد أعضاء الفريق الذي تتبع جينوم الأخطبوط للمرة الأولى بأن تساعد هذه النتائج في إعطاء تصور واضح عن أكبر الأدمغة في عالم اللافقاريات، وتصف هذه النتائج بأنها مثيرة للغاية.

وما يزال عالم رأسيات الأرجل شديد الغموض، ويؤمل من الدراسات المستقبلية أن تساعد في معرفة كيف ومتى اتبعت هذه المخلوقات استراتيجيتها التطورية المدهشة هذه، وما إذا كانت حقاً السر وراء ذكائها.