ثلاثة حيوانات تُلهم صناعة دروع المستقبل

هذه الرقاقة المصنوعة من البوليمر تحاكي بنية معقدة اكتشفت في أصداف المحار.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تزخر المملكة الحيوانية بأنواع هائلة من الدروع. وترتدي بعض المخلوقات أصدافاً صلبة أو صفائح عظمية، بينما تفضل أنواع أخرى غطاء أكثر مرونة كالحراشف. وكل هذه الدروع متخصصة في مساعدة الحيوان الذي يرتديها في تحمل أي طبيعة يواجهها، من الأمواج العنيفة إلى أنياب ومخالب المفترسين.

وتشكل هذه الترسانة الهائلة اليوم مصدر إلهام في إنتاج أنواع جديدة من الدروع التي يستخدمها البشر. حيث يقوم العلماء بالبحث عن الأسباب التي تجعل أصداف المحار وحراشف الأسماك صلبة جداً، ويضعون تصاميمهم الخاصة بهم. بل إنهم انتقلوا إلى مواد مثل حرير العناكب. وهم يطمحون للوصول إلى ميزات وقائية لمادة هلامية ذات قوة خارقة. وخلال بضع سنوات، يمكن أن تظهر هذه الدروع الجديدة في السترات الواقية من الرصاص، وقفازات الحماية، والخوذ الرياضية، وحتى الملابس الرياضية. يقول فرانسوا بارتيلات، المهندس الميكانيكي من جامعة ماكجيل في مونتريال: «مارست الطبيعة هذه اللعبة لملايين السنين. إنها بحق مصدر زاخر للإلهام».

وإليك 3 طرق تساعدنا فيها الحيوانات في حماية أنفسنا:

الحراشف

ليس من السهل قتل سمكة فم التمساح. وهي توجد في مياه الولايات الأميركية الجنوبية مثل لويزيانا وتكساس، وتتمتع بحراشف غير قابلة للاختراق. يقول بارتيلات: «إنها صلبة جداً وملمسها يشبه الأسنان». وهذه الحراشف أثقل من أي حراشف لأنواع الأسماك الأخرى، ولذلك فإن أسماك فم التمساح لا تستطيع المناورة بسرعة كبيرة. كما أنها قاسية جداً بحيث لا يمكن للسكين العادية أن تخترقها. ويقول بارتيلات إنك بحاجة إلى منشار معدني حتى تستطيع قطع إحدى حراشفها. وهو ما يجعلها مصدر إلهام للدروع المرنة التي تستطيع مقاومة الثقب والتمزيق.

وقد اختبر بارتيلات وزملاؤه هذه الحراشف بأخذ إحدى الأسماك الميتة من السوق وإدخال إبرة دقيقة عبر جلدها. كما شاهدوا سمك القاروص المخطط -وهو سمك أكثر نموذجية- والذي يملك حراشف متينة إلى حد ما. يقول بارتيلات: «عندما قمنا بنفس الاختبارات على سمكة فم التمساح لم نكن قادرين على إدخال الإبرة عبر الجلد، فالإبرة ستلتوي وتنكسر». وقد جربوا إبرة فولاذية أكبر، ولكنها بقيت غير قادرة على اختراق حراشف السمكة.

وبعد أن أعجبتهم هذه الميزة، يحاول الفريق الآن محاكاة الجلد السميك لسمكة فم التمساح. وهم يركزون الآن على طريقة ترتيب الحراشف أكثر من تركيب المادة نفسها. ويقومون بعمل طباعة ثلاثية الأبعاد لحراشف بلاستيكية على لبادة مطاطية، مع تغيير الحجم والفراغات والشكل والسماكة والمواصفات الأخرى لمعرفة أي منها تفي بالغرض بشكل أفضل.

وبعد تجريب عدة احتمالات، وجد بارتيلات وفريقه أن أقوى الدروع كانت تلك الأكثر مشابهة للحراشف الحقيقية لسمك فم التمساح. كما لاحظوا أن بعض الحراشف الأصغر حجماً يكون كسرها أكثر صعوبة من كسر الحراشف الكبيرة. وهناك مفتاح آخر للنجاح: وهو تداخل الحراشف، كما هو الحال عند معظم الأسماك. فعندما تتعرض هذه الحراشف للهجوم، فإنها توزع بعض قوة التأثير على الحراشف المجاورة، وهذه خاصية مهمة للدرع. فإذا ضغط سن الحيوان المفترس على إحدى الحراشف القاسية جداً فإنه يضغط على جلد السمكة اللين والهش، وهو ما قد يؤذي السمكة حتى ولو لم تثقب الحرشفة.

وقد حقق الفريق حالياً تقدماً في صنع حراشف من السيراميك ولصقها على قفازات من نوع كيفلار التي يرتديها عادة الأشخاص الذين يتعاملون مع الأجسام الحادة. يقول بارتيلات: «بإمكانك مع قفازات كيفلار أن تقبض على نصل سكين المطبخ بدون أن تجرح نفسك». ولكن في حين أنه من الصعب جداً تقطيع هذه القفازات، فإن إبرة صغيرة يمكن أن تنسل بين خيوط ألياف كيفلار، وهو ما يشكل خطراً على العمال الذين يعملون في إعادة التدوير أو تنظيف الحدائق، وربما لا يرون الإبرة قبل أن تنغرز في أيديهم.

يقول بارتيلات: «إن أفضل ما يمكن أن تقدمه لهم التكنولوجيا لا يحميهم بشكل مناسب، بسبب نوع العمل الذي يمارسونه».
ويهدف بارتيلات إلى صنع قفازات تحمي من يرتديها من الثقب، ولكنها تظل مرنة بحيث تسمح لهم بتحريك أيديهم. ويقول عن ذلك: «إذا استطعنا أن نحل هذه المعضلة المتعلقة بالتصميم المستوحى من الطبيعة والخاص بالقفازات والأصابع، فبإمكان أجسامنا أن تتعامل مع أي شيء».

يقوم فرانسوا بارتيلات وزملاؤه بتصميم حراشف دقيقة مستوحاة من الأسماك لتغطية قفازات العمل من نوع كيفلار.

وقد تم ترصيع النموذج الأولي بحراشف من أوكسيد الألومنيوم بحجم 2 ميلليمتر، مع أن بارتيلات يخطط لصنع حراشف أصغر للمناطق حول مفاصل الأصابع. ويعمل الفريق مع شركة سوبيريور جلوف، وهي شركة تصنّع قفازات العمل مقرها أونتاريو بكندا، لاختبار اختراعهم الجديد. ويقول بارتيلات إن الشركة لم تستطع ثقب القفازات التي أرسلها فريقه لهم باستخدام اختباراتهم القياسية.

ولكن حتى درع سمك فم التمساح له حدود. فحراشف الأسماك بارعة في منع حدوث الثقوب، ولكنها ليست مصممة لتقاوم طلقة سريعة. ويستطيع البشر ارتداء درع لحماية جذوع أجسامهم، ولكن الرقبة تكون مكشوفة غالباً. ولذلك يرى بارتيلات أن الدرع المرن الذي يستلهم حراشف الأسماك قد يحمي هذه المنطقة المعرضة للخطر.

قوة الأصداف

الكثير من الدفاعات الطبيعية الأكثر صرامة مكونة من بضعة عناصر بسيطة. يقول ماركوس بويلر المختص في علم المواد من معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا: «المادة نفسها لا تهم، ولكن الذي يهم هو الطريقة التي تتكون بها المادة لتشكّل هذه التراكيب الهندسية».

وهذا هو الحال مع أصداف المحار. حيث يشكل المحار مصدر إلهام في صناعة الدروع، لأن أصدافه تمثل إحدى أقوى الدروع الموجودة في الطبيعة. تبني هذه الحيوانات بيوتاً مقاومة أكثر صلابة بعشرة أضعاف من عرق اللؤلؤ أو أم اللؤلؤ. ولكنها مكونة من مواد ضعيفة وهي البروتينات ولكنها متماسكة كالمادة الهلامية، جنباً إلى جنب مع العناصر المعدنية الهشة. يقول بويلر: «إنها قادرة على استخدام كتل بناء بسيطة لم يصل إليها المهندسون. فنحن لا نبني الطائرات من البروتينات أو الطباشير».

وبخلاف المهندسين، فإن المحار لا يستطيع الخروج وشراء الحديد الصلب إذا لم يكن راضياً عن الإمدادات المتوفرة لديه. ولذلك فإن هذه المواد الخام عند المحار يتم ترتيبها في تراكيب معقدة من ثلاثة صفوف لا ترى بالعين المجردة. يقول بويلر: «المادة الهلامية متذبذبة جداً، والطباشير تتفتت إلى آلاف القطع الصغيرة إذا ضربتها بالمطرقة. ولكن إذا مزجتها مع بعضها بالطريقة الصحيحة، فستصنع شيئاً صلباً جداً ينافس مواد الدروع المصنعة هندسياً».  

وقبل ظهور تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد، كان يستحيل على الباحثين -وفقاً لبويلر- أن يعيدوا إنتاج هذه التراكيب الدقيقة والمعقدة. لكن بويلر وزملاءه كانوا قادرين على طباعة شرائح من المادة التي تضاهي التصميم الهندسي الفريد للصدَفة، مصنوعة من بوليمر صلب وآخر اسفنجي.

وقد قاموا بطباعة شرائح من المادة التي كانت أكثر بساطة من المادة الحقيقية. يقول بويلر: «لقد أخذنا بعض التفاصيل الموجودة في الطبيعة. ووجدنا أن ذلك مهم جداً». وعلى غرار حراشف الأسماك، كلما كان التركيب أقرب إلى الدرع الطبيعي، كان أداؤه افضل. وكانت قطع البوليمر التي تشبه المحار أكثر صعوبة في الكسر خلال إجراء اختبار السقوط من البرج، والذي يحاكي اختراق جسم ما كالطلقة. وهذا التصميم واعد لأنه يستطيع مقاومة الكسر وتبديد طاقة الصدمة معاً.

بقايا من درع المحار بعد إجراء اختبار السقوط من البرج.

ولصنع درع حقيقي، ربما يقوم الباحثون بتبديل البوليمر إلى السيراميك أو ألياف الكربون. وبترتيبها في هيكل مشابه للمحارة، نستطيع تحسين المواد المستخدمة. ويمكن أن تستخدم هذه المواد في دروع الجسم أو الخوذ الرياضية. ويقول بويلر إن خوذنا ذات تركيب بسيط من الستايروفوم والأصداف الصلبة. ولكن الخوذ ذات التصميم المشابه للمحار يمكن تصنيعها لتكون أخف وذات سماكة أقل مع احتفاظها بالمتانة ذاتها. أو يمكن أن يكون لها نفس الوزن ولكنها تملك أداء أفضل.

ويمكن تصميم هذا الدرع ليناسب الخصائص الشخصية لنمط جسمك. ويقول بويلر إنه ربما يمكنك في المستقبل أن تقوم بعمل مسح ضوئي لجمجمتك، ثم يقوم الحاسوب بتصميم درع أو خوذة يكون شكلها مناسباً لك تماماً.

ويرى بويلر أن إنتاج كميات كبيرة من هذه الدروع سيكون مكلفاً جداً. وسيكون هناك احتمال آخر هو استخدام مكونات بسيطة كنلك الموجودة في المحار الحقيقي في صنع الدروع. وهذا من شأنه أن يخفض التكلفة وأن يجعل المنتج صديقاً للبيئة بصورة أكبر، ولكننا سنحتاج إلى طابعات خاصة ثلاثية الأبعاد يمكنها التعامل مع حبر مصنوع من تلك المواد. أو يمكننا هندسة ميكروبات تفرز المادة المكونة للصدَفة. وربما يكون بإمكانها صنع هياكل أقرب إلى المحار الحقيقي من الذي تنتجه الطابعات ثلاثية الأبعاد.

طريق الحرير

لا يعرف الناس عن العناكب أنها مدرعة بشكل كبير. ومع ذلك فإن حريرها يجب أن يكون قوياً بما يكفي لالتقاط الفريسة، أو ليساعدها في التدلي من السقف أو الحركة في الهواء. ويعتبر خيط واحد من حرير العناكب قوياً بما يكفي لوقف الحشرات الطائرة التي يصل وزنها إلى عشرات آلاف أضعاف وزن العنكبوت. والخيوط الحريرية صلبة جداً ومرنة جداً في نفس الوقت، ولذلك فهي تمتص الكثير من الطاقة. وهذا ما يميزها عن الألياف الاصطناعية كالحرير الاصطناعي والنايلون والتي يمكن أن تمتد طويلاً، ولكنها ليست قوية جداً. كما تتميز أيضاً عن ألياف كيفلار القوية جداً ولكنها لا تملك الكثير من المرونة. وذلك بحسب جون رايس، رئيس العمليات في مختبرات كريج بيوكرافت في آن أربور بولاية ميتشجان.

ويفكر الباحثون حول العالم في طريقة لإنتاج حرير العناكب الاصطناعي وغزله على شكل سترة واقية من الرصاص. وقد منح الجيش الأميركي عقداً لمختبرات كريج التي تقوم بتطوير حرير العنكبوت المعدل وراثياً ليكون أقوى من الصلب.

وتقوم الشركة بعمل هندسة وراثية على ديدان القز لتحمل جزءاً من الحمض النووي للعناكب، وهو ما يتيح لها إنتاج بروتين حرير العنكبوت بدلاً من حريرها المعتاد. وهي تعمل مع الشركات الأخرى مثل وورويك ميلز -ومقرها في ولاية بنسيلفانيا- لنسج الحرير على شكل أقمشة واقية.

يقول رايس: «لا أحد يرغب في أن يكون لديه مزرعة للعناكب، فهي مخيفة من جهة، وليست ذات جدوى من جهة أخرى». والعناكب مخلوقات متوحشة، ولذلك لا يمكن تربيتها في أماكن قريبة. بالإضافة إلى أننا نقوم بجمع الحرير من ديدان القز منذ آلاف السنين، ونحن نعلم أنها كائنات صغيرة مكرسة لصنع الحرير. وفي الواقع، فإن 40 في المائة من جسمها مخصص لغدة الحرير.

ويقول رايس إن قطر خيط مختبرات كريج والمسمى «حرير التنين» يبلغ 4 إلى 10 ميكرون فقط، وهو أدق من شعرة الإنسان. وهو حالياً يملك ثلثي قوة ألياف كيفلار، وعشرة أضعاف مرونتها.

والثوب المصنوع من هذا الحرير سيكون قادراً على التنفس، وقابلاً للتحلل، ولطيفاً على بشرة الإنسان. وعلاوة على ذلك، فهو أخف وأقل كثافة من الدروع التي نستخدمها اليوم. ولذلك فإن هذا الثوب سيكون أقل عبئاً على من يرتديه.

خيوط حرير “عنكبوتية” منتجة من ديدان قز معدلة وراثياً.

وتتضمن الدروع المستخدمة اليوم غالباً صفائح قاسية من السيراميك، بينما صممت دروع مختبر كريج الحريرية لتمتص الطاقة، ولكنها أيضاً مرنة بما فيه الكفاية لتنحني وتسمح لمن يرتديها بحرية الحركة. وستقوم الشركة في وقت لاحق من هذا العام بتسليم عينات من «حرير التنين» إلى الجيش الأميركي الذي سيختبرها على أمل صنع سترات وبطانيات واقية من الرصاص لحماية الناس أثتاء حدوث انفجار. كما يمكن استخدام هذا الحرير في القفازات المقاومة للحقن أو الألبسة الرياضية الراقية. يقول رايس: «من حسن الحظ أن القليل منا من هم بحاجة إلى دروع للجسم، ولكن هناك الكثير منا يمارسون الرياضة والتمارين». وقد ينتقل «حرير التنين» إلى عالم الطب أيضاً. فقد استخدم الرومان القدماء حرير العنكبوت بنجاح في إغلاق الجروح.

ويرى رايس أنه يمكن في نهاية المطاف إنتاج «حرير التنين» بأسعار مماثلة لأسعار المواد الواقية الأخرى. كما قامت الشركة بصنع بضعة تصاميم مختلفة من حرير العناكب الاصطناعي، حيث يمكن تغييرها لتصبح أكثر مرونة أو أكثر قوة. وهذا يعني أن بإمكانهم إنتاج مواد أقوى من حرير العناكب الطبيعي. يقول رايس: «إن استخدام الطبيعة كنقطة انطلاق لنا، لا ينبغي أن يحدد نقطة توقفنا».