دبي تتطلع إلى مستقبل قائم على العلوم والتكنولوجيا

مدينة دبي.. مدينة المستقبل
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

1- عصر ما بعد النفط

أمام مجموعة من المباني تبعد حوالي نصف ساعة إلى الجنوب من دبي، فتح الحارس بوابة فولاذية ضخمة منزلقة كي يسمح لسيارتنا التي يقودها ألهاز راشد خوخار بالمرور. كان خوخار، الذي يشغل منصب مدير مشاريع في هيئة كهرباء ومياه دبي، يعمل خلال الأشهر الماضية من أجل افتتاح توسعة بقدرة تصل إلى 200 ميجاواط لمجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية. تمتد الألواح الداكنة عبر الصحراء مسافة تزيد عن 3.2 كم تقريباً متجاوزة خط الأفق، بحيث يشعر الواقف في إحدى الزوايا أنه ينظر في مرآة مزدوجة.

تبلغ القدرة الإنتاجية لأكبر محطة للطاقة الشمسية في الولايات المتحدة الأميركية 550 ميجاواط، ولكن يبدو أن نمو دبي يزداد أضعافاً مضاعفة. فهذا القسم الذي ينتج 200 ميجاواط من الطاقة لن يلبث أن يبدو كنقطة على الخريطة إلى جانب الأجزاء الأخرى التي خُطّط لبنائها خلال الـ 13 عاماً القادمة بقدرة تبلغ 5,000 ميجاواط، وذلك في استثمار تبلغ تكلفته 14 مليار دولار أمريكي يستهدف تلبية 25% من احتياجات مدينة دبي من الكهرباء. وهذا ليس سوى جزء صغير من الصورة الكلّية التي ستعيد، عند اكتمالها، صياغة دور دبي على مستوى العالم.

سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، مصنوعة من قطع من ألواح شمسية.
حقوق الصورة: أندرو بلَم

تمحورت قصة هذه المدينة طوال العقد الماضي حول التفوق على غيرها وإحراز المرتبة الأولى في كل شيء: فأصبح فيها أطول بناء في العالم، وأكبر عرض للألعاب النارية، وأكثر مطار عالمي ازدحاماً. أما الآن فتسير دبي بروح وتطلعات جديدة وفق إستراتيجية واسعة هادفة تستبدل الاستهلاك العالي للموارد بالإبداع والابتكار. فهي، بخلاف السائد في بعض الدول، تعتقد بأن الاحترار العالمي مشكلة حقيقية تواجه كوكب الأرض، وهي عازمة على الاستفادة من العلوم والتكنولوجيا، ليس من أجل التكيف مع حقبة جديدة من الظروف المناخية الصعبة، ولكن لجعل هذا التكيف أساساً لاقتصادها في المستقبل.

فدبي تريد أن تُعرف في أنحاء العالم بكونها مختبراً لتكنولوجيا الحفاظ على العالم، أكثر من شهرتها بالشواطئ الصناعية ومنحدرات التزلج الداخلية، ومراكز التسوق الشاسعة المكيفة الهواء، وهي الصورة التي شاعت عنها في الأعوام الماضية. ولربما كان من الصعب تصديق خطتها هذه لو أن الواقع الحالي في دبي نفسها لم يكن قبل سنوات عدة كذلك ضرباً من الخيال. فالتحول الذي شهدته المدينة من بقعة صغيرة على خريطة العالم إلى مركز دولي محوري كان إنجازاً مبهراً. ولكن هل يمكن تحقيق مثل هذا الإنجاز من جديد؟

انتقل خوخار إلى دبي مع عائلته قبل خمس سنوات تقريباً، بعد أن رفض عقداً في بلده الهند للعمل في شركة استشارات دولية، وهو بذلك يعتبر مثالاً يعكس تطلعات دبي وما تمثله من آفاق. فخوخار واحد من ألمع العقول في المنطقة وقد جذبه إلى دبي الراتب المجزي ونمط الحياة فيها الذي يشابه نمط الحياة في نيويورك أو لندن.

يقول خوخار:  “لدينا خطط هنا”، وهو يقصد مجمع الطاقة الشمسية، ولكن كلامه يمكن أن ينطبق على عائلته وعلى دبي نفسها.

يؤمن خوخار وأقرانه أنهم يبنون مستقبلاً أفضل، تتجلى ملامحه في كل مكان حولنا. وفي داخل قسم الأبحاث والتطوير في المجمع، وهو بناء إسمنتي صغير تعلو سطحه أجنحة من الألواح الشمسية الكبيرة، يعمل الباحثون من أجل تحسين أداء الألواح الضوئية في البيئة الجافة والمغبرّة. يقول لنا جيم جوزيف جون، وهو مهندس هندي حضر مؤخراً للعمل في هذا المشروع من مدينة فونيكس في أريزونا حيث كان يجري أبحاثاً للحصول على شهادة الدكتوراه: “من الممكن أن تخسر بسهولة من 30-70% من الطاقة بسبب الغبار”.

وفي بقعة رملية مجاورة، يحاول ثلاثة من الفنيين إصلاح محطة رصد جوي معقدة، مستعينين بأدوات جلبوها معهم في صندوق السيارة المستأجرة. وخلف سياج آخر توجد محطة تناضح عكسي تعمل بالطاقة الشمسية، حيث تتم تحلية المياه الجوفية المائلة إلى الملوحة وتحويلها إلى مياه صالحة للشرب. ومن خلال طريق إنشائي ضيق، يبرز في الفضاء برجان فولاذيان بعلو عدة طوابق كرافعتين نصف منتصبتين. وعليهما يستعد الفنيون لتركيب طابعات ثلاثية الأبعاد ستشكل في غضون أسابيع مبنى كاملاً سيستخدم كمختبر للطائرات من دون طيار. أما ذلك الطريق الضيق فسيُزال تماماً وستوضع ألواح شمسية مكان الآجر الذي رُصف به، وسيزود بنظام لشحن السيارات الكهربائية لاسلكياً أثناء سيرها عليه. أما في الوقت الراهن فتقوم نقطة شحن عادية تحمل شعار هيئة كهرباء دبي بشحن سيارة كهربائية صغيرة بيضاء.

قال لنا جون: “ستتفاجؤون كثيراً، فالمكان بأكمله سيتغير”.

2- وزير المستقبل

“لقد قررنا أن نذهب إلى المستقبل، وسنتعامل معه من دون أي قلق”. هذا ما قاله محمد القرقاوي، مصمم رؤية دبي لنصف القرن القادم. كان محمد القرقاوي يجلس على كرسي يتوسط طاولة كبيرة في قاعة اجتماعات فخمة في واحد من أحدث فنادق المدينة. يحضر النادل صحناً من ثلاث طبقات صُفّت عليها أنواع التمر والمكسّرات، ويضعها أمام القرقاوي، أحد أهم الشخصيات المؤثرة في دبي والمستشار المقرب من سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي ورئيس مجلس الوزراء في دولة الإمارات العربية المتحدة.

يتابع القرقاوي حديثه قائلاً: “نحن في الإمارات العربية المتحدة وفي دبي نؤمن بأن لدينا مهمة كبيرة. هذه المنطقة بحاجة إلى من ينتشلها من هذا البؤس؛ فثمة نزاع رهيب وكثير من الكراهية، وهناك حروب طائفية ودينية وتطهير عرقي ولاجئون. ومقابل ذلك، نرى مثالاً مختلفاً، ألا وهو دبي”.

تشكل هذه المدينة واحة من الازدهار والتنوع الشبابي في أبهى صورها، ونموذجاً للمجتمع الذي ينتمي أفراده إلى أماكن مختلفة وتربط بينهم علاقات احترام متبادل بغض النظر عن انتماءاتهم. فسائقو سيارات الأجرة يذهبون في أيام العطل لممارسة هواية الهبوط بالمظلات، وترى موظفي القطاع العام والمهنيين متواجدين في مناسبات خاصة متعددة في الفنادق الفخمة إلى جانب أصحاب رؤوس الأموال الروس والصناعيين الهنود الذين يصلون بسيارات رولز رويس الفارهة التي يبلغ طولها ستة أمتار.

أما مراكز التسوق والشوارع فتعجّ بأناس من مختلف الجنسيات والأعراق وألوان البشرة يرتدون شتى أشكال اللباس، كل وفق عاداته وثقافته. ويسود هذه المدينة إحساس بالتسامح المتبادل بين كافة الناس فيها، وهو أمر واضح وملحوظ ويبعث على البهجة.

– محمد القرقاوي وزير شؤون مجلس الوزراء والمستقبل يقف أمام مبنى مؤسسة المستقبل، وهو مبنى طبع بتقنية الأبعاد الثلاثية.
حقوق الصورة: سيدهارتا سيفا

إلى جانب محمد القرقاوي كان يجلس مستشاران شابان في العشرينات من العمر، والثلاثة يرتدون “الكندورة”، وهو الثوب الإماراتي التقليدي الشهير. وسواء كانت الأثواب باللون البيج الذهبي، أو الرمادي، أو الأزرق، فيجب أن تكون دوماً مكويّة بعناية، بياقة أنيقة تتدلى منها جدلة من الخيوط مثل ربطة عنق، وهي تضفي على لابسيها الفخامة والتميز. كان القرقاوي يرتدي نظارة شمسية سوداء بإطار من التيتانيوم، وحذاء من ماركة سكيتشرز أزرق اللون، وقد بدا وكأنه ستيف جوبز العرب.

في مطلع العام الماضي، وفي خطوة لم تحظَ ربما بنصيب كبير من الانتشار كما حظيت المشاهد المصورة لمشروع رجل الإطفاء الطائر في دبي الذي يتحرك بواسطة محرك نفاث على ظهره، أو مباراة التنس على مهبط الطائرة المروحية في برج العرب، أجرى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم تغييراً وزارياً قام فيه بابتكار حقائب وزارية جديدة، مثل وزارة التغير المناخي والبيئة، ووزارة السعادة، ووزارة شؤون الشباب (التي تولتها وزيرة شابة بعمر 22 عاماً).

أما محمد القرقاوي، الذي كان وزير شؤون مجلس الوزراء، فأضيف إلى منصبه لاحقة جديدة، ليصبح وزير شؤون مجلس الوزراء والمستقبل، ولا شكّ أن هذه الإضافة لم تأت من فراغ. فخلال 13 عاماً ، شغل القرقاوي من بين مناصب عديدة أخرى، منصب رئيس مجلس إدارة شركة دبي القابضة، وهي شركة استثمار حكومية، وقد نجح القرقاوي حين ترأسها في بناء شبكة متنوعة من مشاريع الأعمال في قطاع الفنادق والعقارات والاتصالات. أما الآن فقد كرّس كافة جهوده من أجل بناء مستقبل دبي. يقول لنا القرقاوي بنبرة واثقة: “أنا اليوم متحمس جداً. متحمس لأنني أعلم أننا منطلقون في رحلة جميلة نحو المستقبل. إنني أستطيع رؤيته، أستطيع لمسه”.

المدن أشبه بالآلات، ولكنها أكبر الآلات التي نبنيها. فالمدن بمطاراتها وموانئها ترسل وتستقبل الناس والبضائع في الذهاب والإياب، وتنقلهم الطرق البرية والسكك الحديدية عبر المساحات الحضرية فيها. أما الأنفاق بمختلف أشكالها فتنقل البيانات، والكهرباء، والماء، والمياه العادمة. وتعمل الهيئات الحكومية في المدن (كما نأمل على الأقل) بوعي وحرص، فارضةً قدراً من الانسجام والتماسك كي لا تؤول الأمور إلى الفوضى. ويمكن لجميع هذه المرافق أن تعمل بفعالية ونجاح أو أن تفشل فشلاً ذريعاً. وعادة ما يتم إنشاء البنية التحتية على مدى قرون من الزمن.

نظام الصرف الصحي في باريس يعود إلى خمسينيات القرن التاسع عشر، وأول خط لقطار الأنفاق في العالم افتتح في نيويورك عام 1904، كما دشّنت لندن أول محطة مركزية للكهرباء عام 1891. فالطرق المعبدة تحلّ محلّ طرق المواشي، والجداول تتحول إلى أنفاق مائية، وخطوط الألياف البصرية تأخذ مكانها رويداً رويداً إلى جانب أسلاك الكهرباء. المعروف في بناء المدن هو أن تطوير البنية التحتية عملية لا نهاية لها، فهي لاهثة دوماً في محاولة اللحاق بالتطورات التكنولوجية السريعة.

ولكن دبي قامت بشيء مختلف. فقد بنت خلال 50 عاماً ما احتاجت معظم المدن الأخرى إلى 100 عام لبنائه. وليس هذا من قبيل المبالغة أو الدعاية ولكنها حقيقة واضحة للعيان في هذه المدينة التي يقطنها حوالي ثلاثة ملايين نسمة. لقد مرت على دبي قرون لم تكن فيها سوى ميناء خامل، يخدم صيد اللؤلؤ وتجارته في مضيق هرمز. وفي عام 1966، حين كان القرقاوي في الثالثة من عمره، اكتشفت شركة دبي للبترول النفط في البحر. وعندما بدأ المهندسون بالعمل على ضخه من قاع البحر، كانت المدرسة التي درس بها القرقاوي وهو صبي لا تزال تفتقر إلى الكهرباء. كان يشرب ماء بلون الصدأ، صُفّي بواسطة قطعة قماش.

ويتذكر القرقاوي تلك الفترة قائلاً: “لم يكن لدينا آنذاك أي شيء”. وقد أخبرنا أن ذلك الفندق المطل على الشاطئ حيث كنا نجلس كان في الماضي عبارة عن مصحّة صغيرة لعلاج الجدري، وأضاف:”حين أتيتم من المطار مررتم على الأغلب من شارع الشيخ زايد، الطريق السريع الذي ينقسم إلى ثمانية مسارب، أليس كذلك؟ حين قطعت هذا الشارع للمرة الأولى لم يكن طريقاً معبداً، كان كثيباً رملياً”.

وجاء النمو مع تطور البنية التحتية. فبفضل تدفق أموال النفط بدأت دبي ببناء شبكات الطرق، كما أنشأت ميناء ضخماً ومطاراً وشركة خطوط جوية ومحطات لتوليد الطاقة. ولكن القادة أدركوا أن الثروة النفطية أمر مؤقت، وأن فقر البيئة الصحراوية بالموارد هو الواقع الدائم. وقد أوجز المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم دبي في ذلك الوقت، الوضع بهذا القول الذي ستحفظه الأجيال من بعده: “جدّي ركب الجمل، وركب والدي الجمل، أما أنا فأقود سيارة مرسيدس. وابني يقود سيارة لاند روفر، وابنه سيقود لاند روفر، لكن ابنه سيركب الجمل مجدداً”. إن الجيل الثاني الذي تنبأ الشيخ راشد أنه سيقود سيارة لاند روفر يجسده هذان الشابان العشرينيان الجالسان إلى جانب القرقاوي. ويتمثل تحدي القرقاوي في تغيير المصير المتوقع، وتمكين أحفاده من الاستمرار في قيادة المرسيدس، أو ربما قيادة المركبات الطائرة.

تجلّت ميزة دبي التي شهدها الجيل السابق في أنها غدت وجهة جديدة للسفر جواً نظراً لموقعها المثالي كحلقة تصل أوروبا والأميركيتين بأفريقيا وآسيا وأستراليا. فطائرات إيرباص A380 العملاقة فخر أسطول طيران الإمارات، الشركة التي أسستها دبي، تصل تقريباً إلى كافة بقاع المعمورة.

أما بالنسبة للجيل القادم، فإن نقاط القوة التي تتمتع بها دبي الآن تبدو محفوفة بالمصاعب بسبب الكارثة المناخية الوشيكة. فالعديد من المدن ستتعرض لظروف جديدة من درجات الحرارة المرتفعة والجفاف الشديد، كحال دبي اليوم. كما ستكافح مدن عديدة لتوفير المياه العذبة والطاقة النظيفة. وهو واقع تعيشه دبي الآن. وفي ضوء ذلك يمكن القول إن دبي مدينة قد حلّ بها المستقبل في وقت مبكر.

لكن وبدلاً من أن تشعر دبي بالجزع من التحديات الكارثية المحتملة، فتنسحب من المنافسة على الصعيد العالمي وتنكفئ مكتفية بالتقنيات القديمة، قررت أن تسرّع مواجهتها لهذه التحديات وأن تبدأ بالتعامل معها الآن. والخطة بسيطة: تحويل الآليات التقليدية إلى منصة لمواجهة المخاطر التي تهدد المجتمع المعاصر، ثم العمل على تصدير هذه الابتكارات. فلو اعتبرنا المدينة آلة، فإن دبي تريد أن تكون المدينة-الآلة الأكثر تطوراً على مستوى العالم، كما أنها ترغب في بيع النماذج التي تطورها لكل من يريد ذلك. يقول ديفيد بوميرانتز، المدير التنفيذي لمعهد الطاقة والسياسة للرصد والرقابة في واشنطن: “تدرك دبي أن التغير المناخي خطر وجودي يهدد قدرتها على أن تكون مكاناً مزدهراً في العالم”.

وبهدف نشر هذه الإمكانيات التكنولوجية، عمدت مدينة دبي إلى إنشاء متحف المستقبل، والذي يستضيفه اليوم بناء مؤقت ريثما يتم بناء الموقع الدائم. وقد جرى عرض فيديو افتتاحي بتقنية 360 درجة وتدور فكرته الأساسية حول النظر إلى الماضي من دبي عام 2050. يعلّق راوٍ في الفيديو قائلاً: “قبل زمن ليس ببعيد أصبحنا بسبب التغير المناخي على حافة الانقراض”، وتظهر على الشاشة لقطات سريعة لأشكال من الدمار: ناطحات سحاب تبتلعها الرمال، اضطرابات وأعمال شغب في الشوارع، غابات تتحول إلى غبار. ويتابع الراوي قائلاً: “ولكن دولة الإمارات رأت في ذلك فرصة للتحرك بسرعة وخلق ابتكارات لم يشهد العالم لها مثيلاً”.

في دبي المستقبل المتخيّلة تلك ستكون هيئة الكهرباء والماء قد تخلصت من محطة تحلية المياه الضخمة وافتتحت مكانها محطة بيولوجية لتحلية المياه بالاعتماد على جينات قنديل البحر (أكثر المواد الحية قدرة على الامتصاص)، وجذور أشجار القرم (وهي من أفضل مزيلات ملوحة المياه الموجودة في الطبيعة). ولن تكتفي دبي المستقبل باستخدام هذه التقنية، بل وستبيعها أيضاً، حيث يقول الفيديو: “كما أننا نصدّر محطات التحلية المعتمدة على جينات قنديل البحر للمدن حول العالم”. ونرى في دبي تلك ايضاً الروبوتات التي تنشئ المباني من الرمال، وأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تختار البذور وتنميها في مزارع مغلقة، بالإضافة إلى السيارات الطائرة التي تحوم فوق شوارع خالية من الازدحام.

كل ذلك عرضه الفيديو كخيال علمي يتسم بشيء من روح الفكاهة، ولكن الخلاصة التي قدمها كانت في غاية الجدّية: “لقد نجحنا في حل مشاكلنا، وصارت الحلول المناخية الآن أكبر صادراتنا”. في لحظة تاريخية حيث لا تزال تنبؤات الاحترار العالمي – في الولايات المتحدة على الأقل- موضع جدال على المستوى السياسي، من المذهل أن نجد دبي تجعل من التصدي لهذه التحديات محوراً لتخطيط مستقبلها الاقتصادي.

يقول القرقاوي: “بما أنه ليس لدينا خلاف على مسألة التغير المناخي، فعلينا التفكير بجدية”، في اعتراف ضمني بأن الصورة لم تكتمل بعد. ويردف قائلاً: “علينا أن نفكر بشكل أسرع، وعلينا أن نعيد ابتكار كل منتج. ينبغي علينا أن ننظر إلى التاريخ، وننظر إلى المستقبل، وننظر إلى الأبحاث العلمية، ثم نسأل أنفسنا: “كيف نصمم هذه الرحلة نحو المستقبل؟”.

– محطة مترو المركز المالي: تمتلك مدينة دبي خطاً من القطارات ذاتية القيادة يساعد المدينة على تحقيق رؤيتها في جعل 25٪ من جميع الرحلات الداخلية عبر مركبات ذاتية القيادة بحلول العام 2030.
حقوق الصورة: سيدهارتا سيفا

3- المدينة المختبر

في أحد المساءات كنت أسير على الشاطئ ورأيت عدداً من العمال منشغلين بفكّ منصة خشبية صغيرة يظهر عليها حرف “E” مطبوع وسط دائرة زرقاء. كنت قد رأيت تلك المنصة في الصباح وتحيرت في أمرها، بدت وكأنها ظهرت هكذا فجأة من تحت الأرض. هل استُخدمت لعرض حفل غنائي على الشاطئ مثلاً؟ أو لعلها كانت مهبطاً لطائرة هيلوكوبتر؟ فهذان احتمالان واردان جداً في دبي. ترى لماذا وُضعت هذه المنصة لتزال بعد 12 ساعة تحت جنح الليل؟ ولكن إن كان الغرض منها سرياً فإن أحداً لم يوصِ العمال بعدم إفشاء السر. لذلك حين سألت عنها أجابني الرجل الذي بدا وكأنه المشرف عليهم مبعداً هاتفه الجوال لحظة عن أذنه: “إنها لطائرة ذاتية القيادة”. فسألت مجدداً: “ولماذا يزيلونها؟”، فأخبرني بأن الأمر يتعلق بمشاكل تقنية.

في اليوم التالي وضح لنا أحمد هاشم باهروزيان، وهو مدير تنفيذي رفيع المستوى في هيئة الطرق والمواصلات في دبي، الموضوع قائلاً: “نحن مهتمون بكل وسيلة يمكن استخدامها لنقل الناس”. كنّا نقف إلى جانب ممر تعرض فيه خلف أعمدة صغيرة تصل بينها حبال مخملية ثخينة ما بدا وكأنه مركبة في مدينة ألعاب. إنها طائرة إي هانغ 184 الصينية ذاتية القيادة التي تسمح بنقل شخص واحد يحمل حقيبة صغيرة مسافة 30 دقيقة عبر المدينة. وكانت الطائرة، وفق الخطة الرسمية، ستدخل حيز الخدمة التجريبية في شهر يوليو. لكن حين تحدثنا لاحقاً مع رئيس هيئة الطرق والمواصلات في دبي عن إمكانية تحقيق هذه الخطة اكتفى بالابتسام. دبي مدينة تتقن هذه اللعبة جيداً. لقد حقق الإعلان الأثر المنشود في جذب اهتمام وسائل الإعلام حول العالم، والضجة نفسها أحدثها من قبلُ الإعلان عن خطة دبي لإنشاء مشروع النقل فائق السرعة (الهايبرلوب) لربطها مع جارتها أبوظبي، وهو إعلان وُصف لاحقاً بأنه “دراسة جدوى” للمشروع.

إلا أن دبي تمتلك خطط نقل أخرى أكثر واقعية. ففي عام 2009، حين كانت تتعافى من الأزمة الاقتصادية العالمية، تم افتتاح خط مترو هو الأول من نوعه في المنطقة بقطارات من دون سائق. ونعتبر الرحلات السنوية لهذه الشبكة والتي تبلغ 200 مليون رحلة (مقارنة بــ 1.763 مليار رحلة في شبكة قطار الأنفاق في نيويورك) الأساس الذي يقوم عليه هدف مدينة دبي في جعل 25% من جميع أنشطة النقل المحلية تتم عبر مركبات ذاتية القيادة بحلول العام 2030. وتسعى هيئة الطرق والمواصلات في دبي للاعتماد على الحافلات ذاتية القيادة والعربات التي تسير على الأسلاك، كما أنها تبذل قصارى جهدها للتنافس مع مدن العالم في جذب الشركات التي تطور تقنيات القيادة الذاتية.

وتساعد طبيعة النظام السياسي في دبي على سرعة تغيير الأنظمة للتمكن من جذب شركات مثل أوبر أو ديملر لكي تستخدم المدينة كمختبر لابتكاراتها. وفي هذا الصدد يقول لنا باهروزيان: “نحن في دبي نمتلك القدرة على تلبية احتياجات هذه الشركات بأسرع مما تفعل المدن الأخرى في العالم حيث تؤخر الإجراءات البيروقراطية تعديل الأنظمة والسياسات، وهذا عامل جاذب لتلك الشركات، خاصة أنها لا تعرف ما الذي تحتاج إليه بالتحديد قبل أن تأتي وتجرّب”. وتعمل هيئة الطرق والمواصلات حالياً على توفير المخططات الدقيقة الضرورية لتنظيم النقل بالمركبات ذاتية القيادة، بالإضافة إلى تطوير نظام سحابي يشمل المدينة بأكملها ويتيح مشاركة البيانات بين آلاف المركبات المصنعة من قِبَل شركات مختلفة.

هذا هو بالضبط نوع البناء الأساسي الذي أثبت فائدته وجدارته لمدينة دبي في الماضي، ليس من أجل تحسين الكفاءة محلياً فحسب، ولكن من أجل تحقيق الأرباح من تصديره إلى الخارج أيضاً. إنها الإستراتيجية ذاتها التي كانت محرك النمو لشركة موانئ دبي العالمية المشغّلة لميناء جبل علي الضخم، حيث تعمل تلك الشركة الآن على بيع تكنولوجيا الأتمتة التي تمتلكها في أنحاء العالم..

إن ما يسرّع تنفيذ الخطط هو الإنفاق على البنية التحتية، فهنالك ثلاثة مليارات دولار أمريكي مخصصة للمواصلات كجزء من التجهيزات لاستضافة معرض إكسبو دبي 2020، والذي يقام للمرة الأولى في العالم العربي. إذ ستقوم هيئة الطرق والمواصلات بتمديد خط قطار الأنفاق حوالى 14 كيلومتراً إضافياً لكي يصل إلى موقع المعرض المتاخم لمطار دبي الجديد الضخم. ويقوم أشهر مهندسي العمارة في العالم مثل نورمان فوستر وسانتياغو كالاترافا بتصميم أجنحة ذلك المعرض.

من الناحية التقنية تبدو أهداف تحقيق الاستدامة في إكسبو 2020 أهدافاً كبيرة وطموحة. فالمفترض أن يجري توليد 50% من الطاقة المستخدمة خلال هذا الحدث بالاعتماد على مصادر متجددة، يتوقع توليد نصفها في الموقع نفسه. إذ سيتم تزويد جناح الإمارات في إكسبو 2020 دبي، والذي صممه كالاترافا، بأجنحة تشتمل على ألواح شمسية مدمجة.

وفي حين ركّزت معارض إكسبو الماضية، كالتي أقيمت في شنغهاي وميلانو، على الجمهور المحلي بشكل أساسي، فإن دبي تتوقع أن يكون 70% من زوار المعرض- المفترض أن يصل عددهم إلى 25 مليون زائر- من خارج الإمارات (سيأتون إليها غالباً على متن طائرات A380 التابعة لطيران الإمارات). كما سيجد هؤلاء الزوار أنفسهم يحتفلون بمناسبة أخرى أيضاً: وهي الذكرى الخمسون لتأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة. وكل ذلك يقدم لدبي فرصة مثالية للتأكيد على جانبها العالمي، وهو ما تسميه ريم الهاشمي، المديرة العامة لمكتب إكسبو 2020 دبي، قابلية التواصل: “هكذا تطوّرت دبي ونمت، لقد غدت ذلك المكان الذي يقصده الناس من كل مكان سعياً وراء حياة أفضل”.

مركز محمد بن راشد للفضاء: يشتمل مجمع مركز محمد بن راشد للفضاء على وحدة التحكم بالمهمة الفضائية، ومختبرات الأبحاث، وغرفة متكاملة لبناء الأقمار الصناعية.
حقوق الصورة: سيدهارتا سيفا

ومن أجل التنافس على الكفاءات العالمية وجذبها إلى المدينة، فإن على دبي أن تتحول من مجتمع انتقالي متعدد اللغات إلى مجتمع كوزموبوليتاني بكل معنى الكلمة، وهو طموح بات يلمح إليه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في أحاديثه مؤخراً. فقد قال في إحدى المناسبات: “إن فرادة دبي تتجلى في كونها مدينة تنصهر فيها ثقافات العالم وأعراقه وعقوله في بوتقة واحدة”.

لا شك أن هناك في المقابل أيضاً تحديات عديدة في هذه المرحلة الانتقالية للمدينة. ويلمح محمد القرقاوي إلى ذلك قائلاً: “لا ندّعي أننا بلغنا الكمال، فنحن ما زلنا نخطو خطواتنا الأولى بين دول العالم الكبيرة الأخرى، وكل يوم نقول: “كيف يمكن أن نتطور أكثر، كيف يمكن أن ننتقل إلى الخطوة التالية في كل ناحية من النواحي؟”.

وتعد دبي منارة للحداثة والانفتاح مقارنة بالعديد من الدول العربية الأخرى، خاصة إذا علمنا أن النساء يمثلن 30% من أعضاء مجلس الوزراء (مقارنة بـ 0% في المملكة العربية السعودية و6% في الأردن) و66% من العاملين في القطاع الحكومي.

وتتمثل خطة دبي على المدى الطويل في خلق بيئة مناسبة للنمو في المستقبل. إذ جنت المدينة فوائد لا يستهان بها من الفرص المبدئية التي توافرت لديها، أي مخزونها المحدود من النفط، إضافة إلى المخزون اللامحدود لجارتها السخية أبوظبي. وقد كانت ثروة النفط عاملاً أساسياً سمح لدبي أن تتبوأ هذه المكانة الحيوية كمركز عالمي.

أما اليوم، فقد أنشأت حكومة الإمارات العربية المتحدة، كجزء من خطتها لإكسبو دبي 2020، صندوقًا بقيمة 100 مليون دولار أمريكي لتمويل الشركات التقنية الناشئة حول العالم وجلبها إلى دبي. وهي تعتمد على فكرة أن التنوع والتسامح يقودان إلى الابتكار، وأن الابتكار يقود إلى الازدهار الاقتصادي، ويخلق- بالتعبير الذي تفضله حكومة الإمارات- المدينة السعيدة.

سارة أميري: وزيرة الإمارات لشؤون العلوم المتقدمة وقائدة فريق الباحثين ونائبة مدير مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ.
حقوق الصورة: سيدهارتا سيفا

4- إلى المريخ وأبعد

سارة أميري عالمةٌ شابة في الثلاثين من عمرها، وهي قائدة الفريق العلمي ونائبة مدير المشروع الذي يمكن أن يوصف بأنه أكثر مشاريع هذه المدينة جرأة، وهو مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ. فقبل حتى أن تنهي سارة درجة الماجستير في علوم الحاسوب من الجامعة الأميركية في الشارقة حلّت في مركز محمد بن راشد للفضاء، وهو مجمع صغير من المباني الواطئة، واجهاتها عبارة عن ألواح فضية مربعة الشكل، لا يبعد كثيراُ عن المطار.

توجهنا إلى المبنى، كان هناك طبق دائري لاقط لإشارات الراديو يتوجه نحو السماء، وببغاء ملون يتعالى صوته في الكافتيريا التي بدت معتمة بعض الشيء في صباح عطلة نهاية الأسبوع. كان الهدوء سائداً، باستثناء حركة حارس أمن ومهندس واحد يراقب قمر دبي سات 2 الذي أطلقته الإمارات عام 2013 وتستخدمه في التقاط صور يومية للمنطقة التي تشهد تغيراً مستمراً. يجلس المهندس وعيناه مسمّرتان على مجموعة من الشاشات أمامه في غرفة التحكم ذات الجدران البيضاء الناصعة، وتعطي صورة واضحة عن تطلعات مدينة دبي.

يعمل مركز محمد بن راشد للفضاء منذ إنشائه على بناء قدراته بشكل منهجي، إذ أطلق مجموعة أقمار صناعية تصنع محلياً وتزداد تطوراً باطّراد. وقد كانت البداية عام 2009 مع قمر دبي سات 1، الذي تم تصنيعه بالاعتماد على نموذج موجود سابق، أما دبي سات 2 فجرى تطويره بالشراكة مع مهندسين من كوريا الجنوبية. وبعد عام سيطلَق قمر خليفة سات الذي سيتم بناؤه بشكل كامل في مركز محمد بن راشد للفضاء. وقد تمكنتُ من رؤية إطاره الهيكلي من خلف نافذة ذات زجاج سميك. وفي نهاية القاعة كان العمال قد انتهوا من طلاء غرفة نظيفة كبيرة هي الأولى والوحيدة من نوعها في الشرق الأوسط، إذ ستكون المكان المخصص لإنشاء المركبة الفضائية. وسيتم إطلاق مسبار المريخ، المعروف باسم مسبار الأمل، في العام 2020، بحيث يصل إلى المريخ في الوقت الذي تحتفل به الإمارات بالذكرى الخمسين لإنشائها عام 2021.

تخبرنا سارة أميري أن إطلاق المسبار إلى الفضاء ليس لمجرد القيام بإطلاقه قائلة: “علينا ألا نرسل جسماً جديداً إلى الفضاء دون هدف محدد، أو أن نتواجد على كوكب آخر لمجرد القول إننا وصلنا إلى المريخ”. فالهدف العلمي من هذه المهمة الاستكشافية هو قياس الغلاف الجوي حول المريخ ودراسته. وهنالك أيضاً هدف سياسي يتمثل في تنمية المهارات التي ستجعل من دبي مركزاً للمعرفة والعلوم. وتتابع سارة أميري قائلة: “لقد أخبرَنا الشيخ محمد أن الهدف الأهم في هذا المشروع هو العلماء والمهندسون الذين سيخرّجهم”. ولذلك يتألف كادر المهمة في معظمه من الشباب؛ فجميعهم تحت سن الخامسة والثلاثين، يبلغ متوسط أعمارهم 27 عاماً، و30% منهم إناث. وقد حدثتنا سارة أميري بكل حماس عن نشر الأمل بين الشباب في العالم العربي قائلة: “نريد أن يتعامل الشباب مع تحديات عظيمة وأن تكون لديهم القدرة لابتكار حلول مناسبة لها”.

قد لا تجد في بلدان أخرى من يقود بعثات للمريخ في سنّ الثلاثين أو أقل، حتى لو كانوا من بين أكثر الشباب ذكاءاً وتميزاً. لكن سارة ولدت في هذه المدينة لتحظى بهذا الامتياز الذي ينعم به جيلها من أبناء الإمارات، كما أنها تمتلك شغفاً بطموحات مدينتها التقنية وحرصاً على التنوع اللازم لتحقيقها. وعن هذا الجانب تقول سارة أميري: “إن الحجْر على الآخرين بناء على اختلافهم عنا سيؤدي إلى الحجْر على الابتكار، لأن الابتكار ينبع من تلاقي أنماط التفكير المختلفة والاختيارات المتباينة للأفراد”. وتتابع قائلة بكل حماس: “نحن نعيش في وطن يحلم بالمستقبل قبل أن تحلم به أنت، ويزودك بالأدوات الضرورية التي تساعدك على تحقيقه”.

ذكرني هذا بما قاله محمد القرقاوي عندما روى لي قصة النمو السريع الذي حققته دبي: “لقد انتقلنا من نقطة لم يكن لدينا فيها طرق معبدة، ووصلنا اليوم إلى المريخ. إنها قصة الإنسان، وهذا ما يمكن للبشرية تحقيقه في جيل واحد فقط”.

وحين ينجح أولاد وأحفاد الشيخ راشد رحمه الله في تحقيق أحلامهم، فلن يكون الأمر متعلقاً بقيادتهم السيارات أو بركوبهم الجمال، لأنهم سيكونون حينها منشغلين بتصميم المركبات الفضائية وإرسالها إلى كواكب أخرى.

نشر هذا المقال في عدد مايو/ يونيو 2017 من مجلة بوبيولار ساينس تحت عنوان “دبي تواجه المستقبل”.