كيف يؤثر العيش في الفضاء لفترة طويلة على جسم الإنسان؟

شارك التوأمان «مارك كيلي» و«سكوت كيلي» في دراسةٍ هي الأولى من نوعها.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أجرت وكالة الفضاء الأميركية ناسا دراسة على رائد فضاء أمضى عاماً في الفضاء بينما بقي شقيقه التوأم على الأرض، من أجل الحصول على معلوماتٍ هامة حول تأثير رحلات الفضاء الخارجي الطويلة على جسم الإنسان، حيث تُعتبر مفتاح التخطيط لمهماتٍ مأهولة إلى المريخ والقمر في المستقبل. إليكم التفاصيل.

تقوم ناسا بإجراء «دراسات التوائم المتوازية من العلماء» بوضع كل شخصٍ منهما في مكانين مختلفين في ظروفٍ مختلفة في نفس الوقت، وذلك بهدف دراسة أثر البيئة والتغيرات البيولوجية التي من الممكن أن تطرأ عليهما كونهما متطابقين من الناحية الوراثية، إلا أنه من الصعوبة توافر توائم العلماء للقيام بمثل هذه التجارب، فنسبة التوائم الحقيقية نادرةٌ جداً (من 3-4 بالألف على المستوى العالمي)، والأمر الأصعب، هو توفر توائمَ حقيقيين من رواد الفضاء من بين هؤلاء لإجراء الدراسة عليهما. في الواقع، لدى ناسا الآن توأم واحد فقط تتوفر فيهما المواصفات المطلوبة، هما سكوت ومارك كيلي.

شارك الشقيقان التوأم، في السنوات القليلة الماضية، في دراسةٍ هي الأولى من نوعها، قامت بها ناسا بطول مدتها الزمنية وقد سميت لاحقاً باسم «دراسة التوأم في ناسا»، حيث قضى الشقيق الأول «سكوت» عاماً على متن محطة الفضاء الدولية، وبالمقابل وفي نفس الفترة الزمنية، قضى شقيقه التوأم «مارك» وقته على الأرض.  قامت ناسا، خلال عام التجربة والأعوام التي تلتها، بإجراء فحوصاتٍ وتحاليل على عيناتٍ من دم وبول وبراز الشقيقين بالإضافة لفحوصٍ طبية وفيزيولوجية ومقارنتها بهدف مساعدة الباحثين على فهم كيفية استجابة جسم الإنسان لمتغيرات الحياة في الفضاء، وقد نُشرت أحدث نتائج الدراسة مؤخراً في دورية «Science».

من الصعوبة فهم كيفية تأثير بيئة الفضاء على جسم الإنسان، فلا يمكن الجزم بدقة بأنها السبب الوحيد في أي تغيرٍ ما قد يحدث لرواد الفضاء. على سبيل المثال، قد يكون قضاء رائد الفضاء وقتاً من حينٍ لآخر في ظل ظروف انعدام الجاذبية أو تعرضه لجرعةٍ زائدة من الإشعاع سبباً في حدوث طفرةٍ طفيفة في «الحمض النووي – DNA»  لديه، أو تكون بعض الظروف البيئية على الأرض هي السبب، لا يمكن التحديد على وجه الدقة. ولكن في ظل هذه التجربة، إذا ظهر هذا التغير المحدد على أحد التوأمين، والذي قضى عاماً في الفضاء (340 يوم على وجه الدقة)، ولم يظهر نفس التغير على التوأم الآخر الذي قضى نفس المدة على الأرض، حينها يمكن للباحثين القول بشيءٍ من الثقة بأن العيش في الفضاء له دورٌ في حدوث ذلك التغيّر. مع ذلك، لا تزال ظروف تلك التجربة بعيدةً كل البعد عن المثالية ولا توفر إحصائياً ما يمكن الاعتماد عليه لتقييم التغيرات التي تطرأ على جسم الإنسان بسبب العيش في الفضاء لأنها لم تُجرى إلا على شخصين فقط، ولكن مقارنة التغيرات التي تحدث على رائد الفضاء مع توأمه (الحقيقي) أفضل من من مقارنته مع شخصٍ آخر غيره على الأرض.

ما هو هدف ناسا النهائي من التجربة؟

تأمل وكالة ناسا في إيجاد بعض الإجابات حول قدرة الجسم البشري على تحمل البقاء فتراتٍ طويلةٍ في الفضاء الخارجي، لأن لديها خططاً مبدئية لإرسال مهماتٍ طويلة الأمد إلى المريخ والقمر، ما يتطلب بقاء رواد الفضاء فتراتٍ أطول من المعتاد عليه كما في الرحلات القصيرة إلى محطة الفضاء الدولية.

فبدأت بهذه التجربة لتقييم التغيرات التي تحدث للجسم ببقائه عاماً في الفضاء الخارجي، وكانت النتائج مشجعةً نوعاً ما. تشير نتائج البحث  إلى أنّ جسم الإنسان قادرٌ على تحمل البقاء مدة عامٍ كامل في الفضاء وأن صحته ستكون على مايرام. فقد وجد الباحثون الذين أجروا الدراسة أن معظم التغيرات التي حدثت لدى سكوت خلال فترة وجوده في الفضاء كانت مؤقتةً وعادت ببطءٍ إلى طبيعتها إبّان عودته إلى الأرض، إلا أن بعض التغيرات البيولوجية (طفرات وراثية خفيفة وانخفاض درجات الاختبار المعرفي لدى سكوت) لم تعد كما كانت. سيستغرق فهم هذه التغيرات وتقييمها بعض الوقت، ولكن إليك الآن كل ما نعرفه حتى الآن.

طول التيلوميرات

التيلوميرات هي جزيئاتٌ خاصة من الحمض النووي تقع عند أطراف الكروموسومات تحميها من التلف والتدهور، ومع تقدم الإنسان في السن ونتيجة عوامل أخرى مثل الإجهاد والتغيرات البيئية، تميل هذه التيلوميرات لأن تصبح أقصر، وبالتالي قصور وظيفتها تدريجياً. وتكهن الباحثون أن ظروف العيش في الفضاء الخارجي ستؤدي لتدهور وظيفة التيلوميرات عند سكوت، لكن الغريب والمفاجئ حصول العكس تماماً، فقد طالت بدل أن تقصر، كأنها عادت لفترة الشباب. وجد الباحثون أيضاً زيادةً في نشاط البروتينات التي تنظّم طول التيلوميرات أعلى مما كانت عليه قبل مغادرته وعند عودته للأرض.

هذه النتيجة مغايرة للمتوقع وغير واضحة الأسباب. يدرك الباحثون أن اتباع نظام غذائي صحيّ وممارسة التمارين الرياضية -وهو ما قام به سكوت على متن المحطة الدولية- قد يكون له هذا التأثير على التيلوميرات، حيث يلتزم رواد الفضاء بنظامٍ غذائي صارم، وممارسة التمارين الرياضية للحيلولة دون حدوث ضمور العضلات لديهم، وبذلك يكون نمط حياتهم في الفضاء صحياً أكثر مما لو كانوا على الأرض. لكن العلماء يقولون  أن الذهاب للفضاء والتحول الجذري في الظروف المحيطة ربما قد دفع الجسم لإنتاج خلايا جديدة تمتلك تيلوميراتٍ أطول كآليةٍ وقائية ودفاعية للجسم.

تغير نشاط الجينات

يتغير نشاط جيناتنا دائماً- والذي يؤدي لحدوث تغيراتٍ دائمة في حمضنا النووي- بمرور الوقت والتقدم في السن، فتصبح بعض البروتينات نشطةً أكثر بينما تخمل أخرى ما يقود في النهاية للشيخوخة بتقدم العمر. قد تؤدي تغيرات جينية معينة إلى الإصابة ببعض الأمراض، والبعض الآخر يزيد اللياقة أو صحة القلب والأوعية الدموية. في الواقع، قد يتأثر نشاط الجينات أيضاً عند تعرض الجسم للإشعاع في بعض الظروف مثل السفر في الفضاء، نظراً لأن بيئة الفضاء تفتقر للحماية منها بعكس الأرض، وقد وجد الباحثون تغيراً في نشاط العديد من الجينات لدى سكوت، بينما وبالمقارنة مع شقيقه مارك بقيت تلك الجينات خاملةً.

لم يبدو أن العلماء متيقنين من السبب، إلا أنهم عزوا ذلك التحول في النشاط الجيني جُزئياً إلى تعرّض سكوت لمقدارٍ من الإشعاع أكثر مقارنةً بأخيه، وقد يكون ذلك السبب الذي دفع الخلايا لمحاولة إصلاح التالف منها، وبالتالي زيادة نشاط جيناتٍ معينة.

ومن بين التغييرات الدائمة الأخرى التي وجدها العلماء بعضٌ من الطفرات الجينية التي اكتسبها سكوت في الفضاء ولم تحدث عند أخيه، ولا تثير هذه الطفرات القلق عموماً حال حدوثها، إلا أن نشاطها وتراكمها عند قضاء فتراتٍ أطول من عام في الفضاء قد يكون عاملاً مؤدياً للإصابة بالسرطان، وهو مايثير قلق العلماء.

تغيير بكتيريا الجسم

للبكتريا التي تعيش داخل أجسامنا- أو ما يُطلق عليه العلماء، «الميكروبيوم – Microbiome»- تأثير بالغ الأهمية على صحتنا، فهي تؤثر على الهضم وعملية التمثيل الغذائي، وتلعب دوراً هاماً في نظام الجسم المناعي وصحة العضلات والدماغ. وقد قام العلماء بأخذ عيناتٍ من براز سكوت لدراسة الميكروبيوم البشري وكيفية تأثره في الفضاء قبل وأثناء بقائه في الفضاء وإبان عودته أيضاً، وقارنوها بعيناتٍ مماثلة من توأمه مارك.

وجد العلماء أنه، وعلى الرغم من التغير الشديد الحاصل على بكتريا الأمعاء تحديداً أثناء وجود سكوت في الفضاء، إلا أنها سرعان ما عادت إلى مستوياتها الطبيعية إبان عودته للأرض، حيث لم يخسر كثيراً من تنوع البكتريا والذي يعتقد العلماء أنه جزء مهمٌ جداً من الميكروبيوم الصحي، ويشير ذلك إلى أنه لن يكون هناك آثارٌ خطيرة لاضطراب الجهاز الهضمي الحاصل على المدى الطويل. (وفي نفس السياق، فقد أظهرت دراساتٌ سابقة أن الميكروبات المعوية يمكن أن تتغير جذرياً بعد أسابيع قليلة من اتباع حمية غذائية مختلفة أو عند العيش في بيئةٍ مختلفة).

ماذا يقول العلماء الآن؟

يقول العلماء أنه، وبعد توفر هذه المعلومات، يمكنهم الآن طرح أسئلةٍ أكثر تحديداً حول آلية تكيّف جسم الإنسان مع ظروف الفضاء، والإجابة بثقةٍ أكبر عمَّا إذا كان من الآمن لرواد الفضاء في الأساس السفر في رحلاتٍ طويلة إلى المريخ أم لا، وما يمكنهم فعله أيضاً حيال التحديات التي ستواجههم، سواءً باستخدامهم عقاقير جديدة أو أية إجراءاتٍ أخرى في سبيل توفير الأمن والسلامة لجميع الرحلات الفضائية، بغضّ النظر عن المدة التي ستستغرقها.