من دون شك، كل نفاياتنا البلاستيكية تنتهي في القطب الشمالي

وايلديست آركتيك
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إن التصور الشائع لدينا عن القطب الشمالي، هو أنه حيّز متجمد يتأرجح بالمعنى المجازي والحرفي على حواف الحضارة البشرية. ظلّ بدائياً وبرياً دون أن تشوبه عدوى الحياة البشرية. قد تبدو هذه الفكرة جميلةً، لكنها لا تتوافق مع الواقع.

توضح دراسةٌ نُشرت في 12 أبريل من هذا العام 2017، في مجلة ساينس أدفانسس (Science Advances) أن القطب الشمالي، باعتباره مكاناً مادياً، يرتبط بالنظم البيئية ذاتها التي نتسبب نحن البشر بتلوثها بالقرب من مناطق إقامتنا. ومن الحماقة أن نظن أن الإضرار بجزء من نظام بيئي مترابط لا يلحق الضرر بباقي الأجزاء.

وجدت الدراسة أننا حتى في مناطق القطب الشمالي النائية لا يمكننا الفرار من ملايين الأطنان من النفايات البلاستيكية التي تلقيها البشرية على امتداد العالم. يكتب مؤلفو الدراسة في الورقة البحثية: “كانت معظم المسطحات المائية غير المتمجدة في الدائرة القطبية الشمالية ملوثةً قليلاً بالبقايا البلاستيكية”. ويتابعون بالقول: “كانت البقايا البلاستيكية منتشرة بكثرة وعلى نطاق واسع في بحار غرينلاند وبارنتس”.

أصبح وجود البلاستيك في محيطات العالم مصدرَ قلقٍ متنامي منذ العام 1997، عندما تعثّر تشارلز مور في بقعة نفايات المحيط الهادي العظمى بينما كان يعبره بعد مشاركته في مسابقة لليخوت عبر المحيط. نعلم اليوم أنه توجد على الأقل ست بقع رئيسية من النفايات المليئة بالبلاستيك تجتاح البحار. وفقاً لبعض التخمينات يقدر إجمالي كمية النفايات المنتشرة في محيطات العالم بنحو 300,000 طن من البلاستيك.

تتسرب بعض النفايات البلاستيكية التي تنتهي في القطب الشمالي من سفن الشحن، وينتهي البعض الآخر منها في المحيط نتيجة رميها بشكل متعمد. لكن معظم هذه النفايات تنتهي بهذا الشكل نتيجة اللامبالاة. تصل معظم القطع البلاستيكية إلى المياه نتيجة الإهمال في معالجة قمامتنا. يصل الكثير منها إلى المحيطات لأننا بينما كنا نصمم منتجاتنا عمداً من البلاستيك، مثل الميكروبيدات (جسيمات بوليميرية منتظمة)، لم نتوقف ولو لبرهة لنتساءل ما هو مصير قطعة البلاستيك المصممة للاستخدام البشري أثناء الاستحمام عندما تلقى في مياه المصارف.

آنا دينياود/ تارا إكسبيديشنز فاونديشن
عوالق ولدائن دقيقة

توصل الباحثون – وهم طاقم عالمي من 8 دول و12 جامعة منها جامعة قادش في إسبانيا، جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا في المملكة العربية السعودية، وجامعة هارفرد في أمريكا – إلى هذا الاستنتاج من خلال جرّ شبكات تجميع، بالمعنى الحرفي، عبر مياه القطب الشمالي والتحقق من كمية البلاستيك التي جمعت بواسطتها. جمعوا عينات من 42 موقعاً عبر كل من بحر غرينلاند، بارنتس، كارا، لابتيف، السيبيري الشرقي، تشاكتشي وبيوفورت، بالإضافة إلى الأرخبيل الكندي وخليج بافين وبحر لابرادور.

استخدم فريق البحث مجاهر تشريحية لتساعدهم في بحثهم، ليتأكدوا من أنهم تمكنوا من التقاط أكبر قدر ممكن من البلاستيك، حيث مكنتهم هذه المجاهر من الإمساك بقطع بلاستيكية دقيقة لا يتجاوز طولها 330 ميكرو متراً، وهذا أكبر بأربع مرات من سمك شعرة بشرية نموذجية. ثم قاموا بتحليلها وتصنيفها تبعاً للشكل والموقع المحتمل للمنشأ.

البلاستيك في المحيط ليس منظراً قبيحاً وحسب، في الحقيقة تشكل بقايا البلاستيك التي نراها خطراً أقل من تلك التي لا نستطيع رؤيتها بسهولة لشدة صغرها. ذلك لأن البلاستيك لا يتحلل أبداً، فهو لا يتحول إلى العناصر الجزيئية المكونة له كما تفعل المواد الأخرى.

بعد مرور وقت كاف من سقوط ورقة الشجر على الأرض، ستبدأ الحشرات والميكروبات بأكلها، لتتحول بعد ذلك إلى تراب، لتغذي الشجرة من جديد. بينما تتحول قطعة من البلاستيك بعد مرور وقتٍ كافٍ إلى قطعة أصغر، ويتثقف الأمر عند هذا الحد. ذلك أن هذه المادة لا تتحلل أبداً، وفي نهاية المطاف، وبعد تعرضها للتفتت بفعل الشمس والمياه المالحة، تصبح صغيرة لدرجة أن الحيوانات البحرية تلتهمها ظناً منها أنها كسرات من الطعام البحري مثل الطحالب والعوالق.

وجدت دراسةٌ أُجريت عام 2015 أن البلاستيك موجود في بطون 20% تقريباً من الأسماك الصغيرة، كما وجد الباحثون أن بعض طيور الفولمار الشمالية – وهو طائر بحري يتجول غالباً في المناطق المحيطة بالقطب الشمالي – لديها مستوياتٌ عاليةٌ من البلاستيك المأكول. يبدو أن البلاستيك ليس وجبةً محيطيةً خفيفةً وحسب، بل هو جزء ثابت من نظامها الغذائي. ربما هذه الطيور تجده لذيذاً، من يدري؟

دون بياتي عبر فليكر
تلتهم طيور الفولمار الشمالية كميات مرتفعة من البلاستيك.

لا تكمن المشكلة في أن البلاستيك ليس طعاماً فقط؛ بل في أن تركيبته تحوي خليطاً من المواد الكيمائية التي يحتمل أن تكون ضارة. تُصنع بعض أنواع البلاستيك من مواد كيمائية تسبب السرطان، أو تخلخل النظم الهرمونية المرتبطة بالتكاثر الجنسي والصحة العامة. كما يمكن للبلاستيك في المحيط أن يجذب مواد كيميائية أخرى – مركبات الديوكسين، ومركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور PCBs – التي تسبب السرطان أيضاً وتتفاعل مع الهرمونات، والتي نلقيها أيضاً في المحيط. لا يزال البيولوجيون يحاولون معرفة ما يعنيه هذا بالنسبة لصحة الأسماك والبشر الذين يتناولون هذه الأسماك.

لا يعيش ما يكفي من الناس في القطب الشمالي لكي يتمكن فريق البحث من تفسير مستوى التلوث التي وجدوه. تمكن الباحثون في هذه الدراسة من تتبع رحلة البلاستيك التي ليس مستغرباً أنها تنتهي في مناطق الشمالية من المحيط الأطلسي، والتي تشمل: سواحل أوروبا الشمالية الغربية الأكثر اكتظاظاً بالسكان، والمملكة المتحدة، والساحل الشرقي للولايات المتحدة. تعمل تيارات المحيطات عادة – التي تتشكل نتيجة التغيرات في درجات الحرارة ونسبة الملوحة في مياه المحيطات – على إرسال المياه الدافئة شمالاً نحو المناطق الباردة من القطب الشمالي. والآن باتت هذه التيارات تحمل أيضاً قطع البلاستيك المتطفلة معها والتي تصادفها في طريق رحلتها.

يو إس كوست غارد
ديسم قطبي يستيقظ بعد تخديره من قبل باحثين يدرسون الدببة فوق المساحات الجليدية في القطب الشمالي، 5 أكتوبر، 2009.

ليس مفاجئاً أن يجد الباحثون البلاستيك في القطب الشمالي، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما نعلمه حول النشاطات البشرية والتيارات المحيطية. ولكن الأمر المحير هو أن الناس وبعد عقود من الأبحاث ما زالوا ينظرون إلى القطب الشمالي على أنه منطقة بكر. نعلم تماماً أن الحيتان القطبية تحمل مركبات PCB داخل أجسادها، وأن الدببة القطبية تلوثت ومنذ زمن طويل بالمواد المستخدمة في المبيدات الحشرية DDT، وحتى الحيوانات التي تعيش في أعمق المناطق من قاع المحيطات تتسمم بالمواد الكيمائية السامة. ليس الأمر المفاجئ هو أن هذا ما يحدث، بل أن يستمر هذا الأمر في الحدوث وأن نظل متفاجئين به طوال الوقت.