هل يمكن للنظم البيئية التعافي بعد الحرائق الهائلة؟

بيئة, حرائق الغابات, الحرائق, النظم البيئية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أدّى انتشار الحرائق الواسع في غابات أستراليا إلى انتشار مشاهد رهيبة تصدرت الصفحات الأولى في وسائل الإعلام، في جميع أنحاء العالم. فقد دُمّر نحو 10 ملايين هكتار من أراضي الغابات منذ الأول من يوليو/ تموز الماضي، وخسر 28 شخصاً حياتهم على الأقل، ويُقدر عدد الحيوانات النافقة حتّى الآن بأكثر من مليار حيوان. وطبعاً سيكون العدد أكبر بكثير لو ضُمّنت أعداد مجموعاتٍ حيوانيةٍ أخرى ضمن هذه الأرقام، مثل الحشرات.

ينبغي على الناس إدراك أن تأثيرات التغير المناخي، خصوصاً آثار التواتر المتزايد لحوادث الطقس القاسية على الحياة، باتت واضحةً وخطيرة، ويبدو أخيراً أنهم باتوا يأخذون هذا الأمر على محمل الجد، ولكن لا يزال هناك شكوكٌ خفّية حول مدى حدوث حرائق الغابات بشكلٍ طبيعي. ولا يزال البعض يشكك في دور التغير المناخي في حرائق الغابات الأسترالية.

في الواقع، تحدث حرائق الغابات بشكلٍ طبيعي في أجزاء كثيرة من العالم، وهي تفيد بتجديد النباتات والحيوانات في النظم البيئية التي تشكّلت بفعل الحرائق على مر الزمن التطوري. وقد استخدمت الشعوب القديمة النار منذ آلاف السنين لإدارة النظم البيئية، ويمكننا تعلّم تقنيةٍ أو أكثر من التقنيات التي استخدمتها تلك سكّان أستراليا الأصليين تقليدياً لمنع حرائق الغابات.

ولكي لا تذهب بتفكيرك بعيداً، تظهر الأدلة العلمية أن التغير المناخي الناجم عن النشاط البشري؛ هو المحفّز الرئيسي للزيادة السريعة وغير المسبوقة في نشاط الحرائق الهائلة. وما يثير القلق فعلاً، هو تدني مرونة النظم البيئية الحديثة، وقدرتها على الصمود في مناطق واسعة. صحيحٌ أنه يمكن القول أنّ معظم النباتات والحيوانات تستعيد عافيتها بعد الحرائق عندما يُعاد تشكيل النظام البيئي، إلا أنّ الآثار البيئية الضخمة والمتكررة للحرائق على النظم البيئية، قد تكون هائلةً ولا يمكن تعويضها.

خارج السيطرة

مناطق الحرائق في ولاية نيو ساوث ويلز في أستراليا
مناطق الحرائق في ولاية «نيو ساوث ويلز» في أستراليا

من غير الواضح إلى أي مدىً يمكن أن تتحمّل الطبيعة مثل هذه الاضطرابات الكبيرة. فحرائق الغابات تزداد شدتها، وتكبر رقعتها في جميع أنحاء العالم، وقد كانت حرائق الغابات الأسترالية الأخيرة غير مسبوقةٍ في شدتها مقارنةً ببعض أشد حوادث الحرائق السابقة. كما باتت حوادث الحرائق تنتشر في النظم البيئية التي يم تكن تشيع فيها مثل هذه الحوادث سابقاً، كالحرائق التي شهدتها بعض المناطق في بريطانيا في العامين الماضيين، ناهيك عن الحرائق المُتعمدة للغابات الغنية بتنوعها الحيوي لصالح الزراعة؛ كما حدث مؤخراً في أجزاء واسعة من غابات الأمازون البرازيلية لصالح مزارع لحوم الأبقار، وفي أندونيسيا لصالح مزارع إنتاج زيت النخيل.

يتسائل العديد، في ظلّ نفوق أعدادٍ هائلة من الحيوانات، وفقدانٍ للغطاء النباتي في الحرائق، عمّا إن كان بمقدور النظم البيئية تعويض خسارتها الهائلة من التنوّع الحيوي. ففي أستراليا مثلا، يقدّر البعض أن الحرائق يمكن أن تتسبب بانقراض أكثر من 700 نوع من الحشرات.

في الحقيقة، يتعرّض التنوّع الحيوي في العالم لضغوطٍ شديدة بالفعل، نحن في خضّم ما يصفه العلماء بأنّه «الانقراض الجماعي السادس». وقد أظهر تقريرٌ حديث أن حوالي ربع الأنواع المُقيّمة مهددةٌ الانقراض. ولدى أستراليا حالياً أعلى معدّل لنفوق الثدييات في العالم، مما يشير إلى هشاشة النظم البيئية الحالية التي قد تكافح من أجل البقاء في عالمٍ حرارته آخذة بالارتفاع، وتنتشر الحرائق فيه بكثرة.

وقد أعرب نشطاء الحفاظ على البيئة عن مخاوفهم بشأن الحيوانات الأليفة والجذّابة التي تأثرّت بحرائق الغابات، مثل حيوان الكوالا. وفي الوقت نفسه، فإن حالة الأنواع المهددة بالانقراض أصلاً، مثل آكلات العسل (فصيلة من الطيور الصغيرة تنتشر في أستراليا) والببغاوات الأرضية، غير مؤكدة. ولكن من أجل تحديد التكاليف البيئية الحقيقية لحرائق الغابات، من المهم مراعاة التنوع البيولوجي من حيث الشبكات، وليس من حيث الأنواع أو أعداد معينة من الحيوانات.

بكلامٍ آخر، تندرج جميع الأنواع في شبكاتٍ معقّدة من التفاعلات التي تعتمد على بعضها البعض بشكلٍ مباشر وغير مباشر أيضاً. وتُعدّ شبكة الغذاء مثالاً جيداً عنها. يمكن أن يكون لخسارة المتزامنة لمثل هذه الأعداد الكبيرة من النباتات والحيوانات (التي تشكّل الشبكات) عواقب متتالية على طرق تفاعل الأنواع فيما بينها، وبالتالي قدرة النظم البيئية على التعافي واستعادة عملها وظيفياً بشكلٍ صحيح بعد حرائق الغابات الشديدة.

نظام بيئي هشّ

من المهم النظر إلى الخسائر في التنوع الحيوي الناجمة عن حرائق الغابات من حيث تأثيرها على شبكاتٍ كاملة من الكائنات الحيّة المتفاعلة فيما بينها، بما في ذلك البشر، وليس النظر فقط إلى مجرّد خسارة حيوانٍ واحد أو اثنين من الحيوانات المشهورة. وفي هذا الصدد، قمت بإجراء دراسةٍ ونشرتها مؤخرّاً تتناول خسائر النباتات والحيوانات الحاصلة في حرائق الغابات في البرتغال، وقد استخدمت طرقاً بيئية جديدةً يمكنها التحقق من مرونة النظم البيئية في حماية الأنواع من الانقراض. وقد وجد فريقي البحثي أن شبكات النباتات والحيوانات المتفاعلة في المواقع المحروقة أصبحت هشّةً وأكثر عرضةً لانقراض الأنواع.

تناولت دراستنا آثار حرائق الغابات الكبيرة التي حدثت عام 2012، على أحد التفاعلات البيئية التي تحافظ على صحّة النظام البيئي، وهو عملية التأبير (نقل حبوب الطلع بين النباتات) التي تقوم بها الحشرات المُلقّحة. درسنا ردّة فعل العثّ على الحرائق، لما لها من دورٍ هام في عملية التلقيح والذي غالباً ما يتم تجاهله، وذلك بمقارنة العثّات التي جمعناها من المناطق المحروقة بتلك التي جمعناها من المناطق المجاورة التي لم تتعرّض للحرائق.

وقد تمكنا من خلال خلال جمع حبوب اللقاح التي تحملها هذه العثّات من تحديد شبكة الحشرات/النباتات للأنواع المتفاعلة. وبهذه الطريقة، كان من الممكن دراسة ردّة فعل النباتات والحيوانات على الحرائق، وبشكلٍ أساسي، دراسة تأثير الحرائق على عملية تلقيح النباتات ضمن هذه الشبكات.

ثم استخدمنا هذه الشبكات لنمذجة مرونة النظام البيئي بشكلٍ عام. وقد وجدنا وفرةً في الأزهار في المناطق المحترقة بسبب نمو النباتات التي بقيت بذورها وجذورها في التربة بعد الحرائق. بالمقابل، لاحظنا انخفاض أعداد العثّ في المناطق عينها. وإجمالاً، انخفضت عملية نقل حبوب الطلع في المناطق المحترقة لتصبح نحو 20% فقط بالمقارنة من نسبة عمليات التلقيح التي تتم في المناطق غير المتضررة.

لقد كشف تحليلنا عن اختلافاتٍ مهمة في الطريقة التي تفاعلت بها هذه الأنواع نتيجة حرائق الغابات. بالرغم من أن الدراسة كانت مجرد تحليل حالةٍ في الوقت المناسب عند حدوثها، إلا أننا تمكنا من إظهار أن مجتمعات الحشرات/النباتات في المواقع المحترقة كانت أقل قدرةً على مقاومة آثار أي اضطرابات أخرى، دون أن تعاني من حدوث انقراضٍ بين أنواعها.

بما أن الناس بدأت بإعادة تأهيل منازلها وسبل عيشها ومجتمعاتها في أستراليا بعد حرائق الغابات المدمرة، فمن المهم أن تبادر الحكومات ومديري الأراضي في جميع أنحاء العالم لاتخاذ قراراتٍ معقولة، تساعد على تأسيس أنظمةٍ بيئيةٍ مرنة. يتطلّب ذلك أخذ شبكات التفاعل البيئي بعين الاعتبار بدلاً من النظر إلى الأمر كمشكلةٍ تخصّ أنواعاً محددة. نعتقد أن مفهوم الشبكات المتطوّر الذي عملنا عليه في هذه الدراسة، والذي يدرس الطرّق المعقّدة التي تتفاعل مجتمعاتٍ كاملة من الأنواع فيما بينها، يجب أن يساعد في ذلك.

لقد كتب عالم البيئة التطوري الأميركي «دان جانزن» منذ أكثر من 45 عامًا: «هناك نوع أكثر خطراً من انقراض الأنواع بحدّ ذاتها، وهو انقراض التفاعلات البيئية». يجب أن نشعر جميعنا بالقلق، ولكن ليس فقط بشأن انقراض الحيوانات، ولكن بشأن اختفاء تفاعلات الأنواع فيما بينها داخل الأنظمة البيئية، والتي نعتمد عليها جميعاً من أجل بقائنا.

تم نشر هذا المقال في موقع ذا كونفيرسيشن