مثل العديد من الأطباء الآخرين؛ كانت التوصية بالنشاط البدني مجرّد عمل روتيني بالنسبة لي، حتى سنوات قليلة مضت. السبب وراء ذلك هو أني لم أكن نفسي نشيطاً للغاية؛ ولكن مع مرور الوقت، وبعد أن بدأت بممارسة الملاكمة وأصبحت أكثر نشاطاً؛ لاحظت بشكلٍ مباشر فوائد التمارين على صحتي العقلية، كما أني بدأت بالبحث حول آثار الرقص وعلاجات الحركة على الصدمات والقلق عند الأطفال اللاجئين، وتعلّمت الكثير عن الحقائق العلمية العصبيّة وراء ممارسة الرياضة وتأثيرها على صحة الدماغ.
أنا طبيب نفسي وعالم أعصاب أبحث في التفسيرات العصبية للقلق والطرق التي يمكن أن تؤثر فيها التدخّلات الطبية بالدماغ، بدأت أفكّر بتوصية المرضى بممارسة التمارين على أنها دواء «شافي»، والآن؛ بمعرفة أهمية ممارسة الرياضة، يلتزم معظم مرضاي بممارسة التمارين بمستوىً معيّن، وقد رأيت كيف يحسّن هذا العديد من مجالات حياتهم ومعيشتهم.
كلنا سمعنا معلومات عن الطريقة التي تحسّن بها ممارسة الرياضة صحة الجهاز العضلي الهيكلي، والصحة القلبية الوعائية والاستقلابية ومشاكل صحية أخرى؛ لكن ما قد لا تعرفه هو كيفية حدوث ذلك داخل الدماغ.
الطريقة التي تحسّن فيها الرياضة صحة الدماغ:
بيولوجيا الدماغ والنمو
ممارسة التمارين بشكلٍ منتظم تؤثر على صحة الدماغ حيث تغيّر بالفعل بيولوجيا الدماغ، وأنا لا أعني فقط «الكليشة» التي تقول: «امشِ قليلاً وستشعر بشعور أفضل». ممارسة التمارين بشكلٍ منتظم؛ وخصوصاً التمارين القلبية، تغيّر الدماغ بالفعل. على عكس ما قد يعتقده البعض، فالدماغ عضوٌ مرن للغاية؛ إذ لا تتشكّل وصلات عصبية داخله يومياً فقط؛ بل يتم توليد خلايا جديدة في مناطق هامة فيه أيضاً؛ إحدى هذه المناطق هي «الحُصين»، وهو له علاقة بالتعلّم والذاكرة وتنظيم المشاعر السلبية.
يساعد جزيء اسمه «؛ أي أن هذه السلوكيات تؤثر على طريقة التعبير عن المورثات؛ مما يؤدي إلى تغيّرات في الوصلات والوظائف العصبية.
يبدو أن ممارسة التمارين بشكلٍ معتدل لها آثار مضادة للالتهابات، وتنظّم عمل الجهاز المناعي، وتخفف نسب الالتهابات الزائدة؛ هذا أمر مهم نظراً للمعلومات الجديدة التي يكتسبها علماء الأعصاب حول الدور المحتمل للالتهابات في الإصابة بالقلق والاكتئاب.
أخيراً؛ هناك أدلة تبيّن أن ممارسة التمارين الرياضية لها آثار إيجابية على النواقل العصبية؛ وهي مواد كيميائية دماغية تُرسل الإشارات بين الخلايا العصبية؛ مثل الدوبامين والأندورفينات التي تساهم في تحسين المزاج وتعزيز الدوافع.
ممارسة الرياضة تحسّن الأعراض السريرية للقلق والاكتئاب
فحص الباحثون آثار ممارسة الرياضة على صحة الدماغ والوظائف الدماغية القابلة للقياس، وأعراض الاكتئاب والقلق. ممارسة التمارين الرياضية تحسن الذاكرة والأداء الإدراكي والتحصيل الأكاديمي. تبيّن الدراسات أيضاً أن ممارسة الرياضة بشكلٍ منتظم لها آثار معتدلة على أعراض الاكتئاب تشابه آثار العلاج النفسي. بالنسبة لاضطرابات القلق، فإن ممارسة التمارين لها آثار طفيفة إلى معتدلة في تخفيف الأعراض. ضمن دراسة أجريتها مع باحثين آخرين على الأطفال اللاجئين؛ وجدنا أن أعراض القلق والاضطراب التالي للصدمة تخفّ عند الأطفال الذين مارسوا العلاج بالرقص والحركة لمدة 8-12 أسبوعاً.
يمكن لممارسة التمارين الرياضية أيضاً أن تخفف حساسية الأشخاص للأعراض الجسدية للقلق، ويعود هذا للتشابه بين الآثار الجسدية للتمرين؛ وخصوصاً التمارين عالية الكثافة، وآثار القلق الجسدية؛ ومن ضمنها ضيق النفس، تسرّع القلب وتضيّق الصدر. أيضاً، يمكن أن تؤدي ممارسة التمارين الرياضية إلى تعزيز بيئة داخلية أكثر هدوءاً بالنسبة للدماغ؛ عن طريق تخفيض معدّل ضربات القلب عند الراحة.
من الضروري ذكر أن معظم الدراسات نظرت في آثار ممارسة التمارين الرياضية وحدها بدون العلاجات السريرية الفعالة الأخرى للقلق والاكتئاب؛ مثل العلاج النفسي والأدوية. لنفس السبب، أنا لا أدّعي أن ممارسة التمارين الرياضية هي بديل عن الرعاية الصحية الضرورية للصحة العقلية التي يجب الحصول عليها عند الإصابة بالاكتئاب والقلق؛ بل يجب أن تترافق مع هذه العلاجات، ويجب اتّباعها للوقاية.
هناك فوائد أخرى بالإضافة إلى الفوائد العصبية لممارسة التمارين الرياضية. عند المشي مثلاً، يتعرّض الجسم للمزيد من أشعة الشمس والهواء الطلق والطبيعة. صادقت إحدى مرضاي جارتها خلال رحلات المشي المعتادة خاصتها، وخصصت يوم الثلاثاء لتناول «التاكو» مع هذا الصديق الجديد، وأقمت أنا علاقات صداقة جديدة رائعة في صالة ممارسة الملاكمة، وهم لا يقدّمون التحفيز لي فحسب؛ بل يمثّلون شبكة دعم اجتماعي أيضاً. قد يختار أحدهم كلبه كشريك أثناء ممارسة الجري، وقد يحصل أحد آخر على موعد غرامي أثناء ممارسة التمارين، أو يستمتع بالطاقة العالية التي يشعر بها في الصالة الرياضية، يمكن أن تمثّل التمارين الرياضية تدريباً على اليقظة أو فترة راحة من عوامل الضغط اليومية والأجهزة الإلكترونية.
تحسّن التمارين الرياضية صحة الدماغ، ويمكنها أيضاً تحسين الصورة الذاتية والثقة بالنفس عن طريق زيادة الطاقة، ومستوى اللياقة.
طرق عملية لممارسة الرياضة خلال الحياة المزدحمة
كيف يمكن أن تجد الوقت لممارسة التمارين الرياضية؛ خصوصاً في ظروف الجائحة والعوائق التي فرضتها؛ مثل محدودية القدرة على الذهاب للصالات الرياضية؟ إليك هذه الطرق.
- اختر نشاطاً يمكن أن تحبّه، فليس بالضرورة أن تمارس الجري على جهاز الجري المتحرّك (أنا لا أفضّله كثيراً). التمارين التي تناسب شخصاً ما قد لا تناسب الآخر، حاول ممارسة مجموعة متنوّعة من النشاطات لتعرف أي منها يناسبك: الجري، المشي، الرقص، ركوب الدرّاجات، ركوب قوارب الكاياك، الملاكمة، رفع الأوزان، السباحة. يمكنك أيضاً أن تمارس أكثر من نوع بالتناوب، أو القيام بتغييرات موسمية كي لا تشعر بالملل. ليس بالضرورة أن يُعتبر النشاط تمريناً، فأي نشاط يزيد معدّل ضربات قلبك مفيد، حتى الرقص أمام التلفاز أو اللعب مع الأطفال.
- استفد من ضغط المقربين لمصلحتك. لقد أنشأت مجموعة دردشة لصالة الملاكمة، لأنه عند الخامسة والنصف مساءً، وبعد يوم من العمل في العيادة، قد أجد صعوبة في إيجاد دافع للذهاب إلى الصالة أو لممارسة التمارين عبر الإنترنت. يصبح إيجاد الدافع أكثر سهولةً عندما يقول أحد الأصدقاء أنه سيذهب للصالة. حتى لو لم تكن مرتاحاً بالذهاب إلى الصالة خلال الجائحة، فيمكنك أن تنضم إلى مجموعة لممارسة التمارين على الإنترنت.
- لا تنظر للأمر بعقلية «كل شيء أو لا شيء»، فخياراتك ليس محصورةً بين القيادة لمدّة ساعة بالسيارة للوصول إلى الصالة والعودة منها، أو ركوب الدراجة لساعة من الزمن أو الجلوس في المنزل وعدم ممارسة التمارين. أنا أقول لمرضاي دائماً: «خطوة إضافية أفضل من ولا خطوة، وممارسة 3 عدّات من تمرين القرفصاء أفضل من عدم ممارسته إطلاقاً». عندما تشعر بأنك لست مُحفّزاً، أو في بداية ممارسة التمارين، كن لطيفاً مع نفسك، وافعل ما بوسعك. الرقص لمدة 3 دقائق على أنغام الموسيقى التي تفضّلها يعتبر تمريناً.
- امزج الرياضة مع النشاطات الأخرى: المشي لـ 15 دقيقة أثناء إجراء مكالمة هاتفية مع صديق؛ حتى لو كان المشي في المنزل، يُعتبر نشاطاً جسدياً.
- عندما تكون متردداً أو غير محفّز، اسأل نفسك: متى كانت آخر مرة ندمت فيها بسبب ممارسة الرياضة؟
- على الرغم من أن الرياضة تساعد؛ إلا أنها ليست آلية تخفيف الوزن المثالية؛ بل الحِمية هي الحل. تناوُل قطعة واحدة من «البراونيز» قد يجعلك تكتسب نفس عدد السعرات الحرارية التي يمكن تفقدها خلال ساعة من الجري. لا تتوقّف عن ممارسة التمارين الرياضية إذا لم تفقد الوزن، لأنها من جهة أخرى تمنحك كل الفوائد التي تحدّثنا عنها مع ذلك.
حتى لو لم تكن تشعر بالقلق أو بالاكتئاب، تعوّد على ممارسة التمارين الرياضية واستخدمها لوقاية دماغك.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً