الناس الذين يسمعون أصواتاً في رؤوسهم يمكنهم أيضاً إدراك الكلام الخفي

6 دقائق
لا يزال سماع بعض الأشخاص لأصوات غير موجودة لغزاً نفسياً محيراً منذ فترة طويلة.

يشتهر القاتل المتسلسل ديفيد بيركويتز - المعروف أيضاً باسم "ابن سام" - بادعائه سماع أصوات على هيئة كلب يخبره بارتكاب جريمة قتل. ولكن سماع الأصوات لا يكون بالضرورة علامة على الإصابة بالذهان. ووفقاً لمؤلفي إحدى الدراسات الحديثة التي نشرت في مجلة برين، فقد تتسبب المسارات العصبية المعززة المرتبطة بالاهتمام بحدوث هذه الأصوات الوهمية. فالناس يسمعون هذه الأصوات لأن أدمغتهم قد تكون مستعدة خصيصاً لالتقاط الكلام.

ويقول بن ألدرسون داي - باحث نفسي في جامعة دورهام، ومؤلف رئيسي للدراسة – في حديثه إلى بوبيولار ساينس: "صحيح أن الكثير من الناس الذين يسمعون هذه الأصوات يعانون من مشاكل خطيرة تتعلق بالصحة العقلية، ولكن ما يقرب من 5 إلى 15 في المئة من عامة السكان قد يعانون بعض الشيء من سماع أصوات غير عادية في مرحلة ما من حياتهم. ونحن نعتقد بأن ما تصل نسبته إلى واحد في المئة قد يعانون من ذلك بشكل متكرر جداً، ولكنهم لا يخبرون أحداً ويمضون في حياتهم اليومية".

وقد استرعت هذه النسبة التي تشكل واحداً في المئة اهتمام علماء النفس. لأن هذه المجموعة ليست مصابة بالذهان من الناحية السريرية، وبالتالي لا تأخذ عادةً الأدوية ذات التأثير النفسي، ويمكن للباحثين دراسة ميلهم لسماع أصوات دون وجود عوامل مربكة للأمراض النفسية. وهم يعتقدون بأن الأشخاص السليمين الذين يسمعون هذه الأصوات يمكن أن يقدموا بعض التفسير حول أسباب سماع البشر لهذه الأصوات، وربما الحصول على فهم أعمق للدماغ.

ويقول ألدرسون داي: "هناك نظرية يتزايد شيوعها حول كيفية إدراك الدماغ للعالم. فبدلاً من مجرد تلقي المعلومات الحسية بشكل سلبي، فإن دماغنا يقوم بالتنبؤ بإدراكه للعالم ويبحث عن أنماط ذات مغزى". تدعى هذه النظرية بالمعالجة التنبؤية أو الترميز التنبؤي وتنطوي على أن الكثير من إدراكنا للعالم الخارجي يدور بشكل أكبر حول ما نتوقع حدوثه بدلاً مما يحدث بالفعل. فعلى سبيل المثال، قد يفسر ذلك سبب ميلنا إلى رؤية أشكال في السحب وبقع الحبر في اختبار رورشاخ. فنحن نشعر بما نتوقع أن نشعر به، ولا نغير هذه التوقعات أو التنبؤات حتى يكون لدينا ما يكفي من الأدلة القوية.

ويضيف ألدرسون داي: "هناك فكرة تقول بأن الناس الذين يسمعون هذه الأصوات قد يكون لديهم أدمغة أكثر استعداداً للبحث عن أنماط ذات مغزى في البيئة المحيطة بهم وخاصة في الحالات غير العادية أو الغامضة".

ولمعرفة فيما إذا كان الاستعداد يلعب دوراً في سماع هذه الأصوات، قام ألدرسون داي وزملاؤه بالإضافة إلى باحثين من كلية لندن الجامعية وجامعة بورتو في البرتغال بأخذ مجموعتين من الناس - مجموعة من الأشخاص الذين ادعوا سماع الأصوات ولكنهم كانوا بصحة عقلية جيدة ومجموعة من أولئك الذين كانوا سليمين أيضاً ولكنهم لم يكونوا يسمعوا أي أصوات – وأجروا لهم التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI).

واستخدم الباحثون ما يسمى بمقياس الهلوسة "لوناي – سليد" والذي يقيس الهلوسة البصرية والسمعية لقياس عدد المرات التي كان فيها الأشخاص يسمعون أصواتاً. ولأن الكثير منا قد عانى من سماع هذه الأصوات - إذا كنت قد سمعت صوت (أمك ربما) وهي تنادي اسمك في منزل فارغ، فأنت قد واجهت بعض مستويات الهلوسة السمعية – فقد تم فقط تضمين الناس الذين عانوا مؤخراً وبشكل كبير نسبياً من سماع الأصوات في هذه المجموعة.

وقام الباحثون بتعريض المجموعتين إلى جولتين مدة كل منهما عشرين دقيقة من كلام جيبي الموجة (SWS). ويقوم الكلام جيبي الموجة بأخذ الكلام وتشويهه من خلال محاكاة وتيرة الجملة الفعلية ومداها. ويبدو هذا الكلام مثل صوت الشخصية R2D2 في عالم حرب النجوم كما يقول ألدرسون داي. ويفسر ذلك بقوله: "إذا ما تم أخذ هذه الأصوات الترددية من نفس الجملة الأصلية، فإنه من الممكن أن تكون مفهومة، بمجرد أن تخضع للتدريب وبمجرد أن تتوقع سماع الكلام."

وتضمنت كل جولة 45 تجربة لكلام جيبي الموجة مفهوم و45 تجربة لكلام جيبي الموجة غير مفهوم. وكان الكلام غير المفهوم يشبه الكلام المفهوم، ولكن إذا قمت بأخذ الترددات والأصوات من جملتين مختلفتين وقمت بإجراء تراكب لها فوق بعضها البعض بحيث لا يتمكن الدماغ من التعرف عليها فعلاً. كما كان هناك أيضاً 18 صوتاً هدفاً. إذ أن الأشخاص الذين قيل لهم بأن الدراسة هي حول كيفية معالجة الدماغ للأصوات غير العادية، تم إبلاغهم بالاستماع عن كثب للصوت الهدف وضغط زر في كل مرة يتم فيها سماع الصوت الهدف.

بعد الجولة الأولى، وبينما كان المشاركون لا يزالون في جهاز التصوير، تم سؤالهم عما إذا كانوا قد لاحظوا أي كلمات أو جمل في الأصوات التي سمعوها. وإذا أجابوا بنعم، كان يتم سؤالهم عما إذا كان بإمكانهم ملاحظة وقت سماع الصوت أول مرة، وفيما إذا كانوا قد فهموه، وإذا ما كانوا يستطيعون تكرار أي من الكلمات الواردة فيه.

ووجد الباحثون بأن ثلاثة أرباع الأشخاص الذي سمعوا الأصوات تمكنوا من اكتشاف وجود كلام، بالمقارنة مع أقل من نصف المشاركين بقليل في مجموعة المراقبة. وذكر أحد المشاركين سماع كلام من أول ثلاث أو أربع جولات. ومن المثير أن كلتا المجموعتين استخدمتا شبكة نموذجية من المناطق المرتبطة بالكلام واللغة، ولكن الأشخاص الذي سمعوا الأصوات استخدموا أيضاً مناطق إضافية في الدماغ.

ويقول ألدرسون داي: "لقد استخدم الأشخاص الذي سمعوا الأصوات منطقتين - التلفيف الحزامي والتلفيف الجبهي العلوي - والذين غالباً ما ترتبطان ببسط اهتمامنا ورصد أنواع مختلفة من الإشارات الهامة. وهما ليستا بالضرورة خاصتين باللغة ولكنهما مرتبطتان بكيفية تخصيص اهتمامنا للعالم من حولنا. وقد تم تفعيلهما على وجه التحديد بالكلام جيبي الموجة عندما كان هناك كلام خفي".

أما الجولة الثانية فكانت تقريباً مثل الأولى، إلا أنه تم تدريب المجموعتين على التعرف على أنماط الكلام. بعد هذا التدريب، اختفى الفرق بين المجموعتين من حيث القدرة على التعرف على الأصوات في الكلام جيبي الموجة. وبمجرد إخبار الأشخاص الذين لم يسمعوا الأصوات بأنه كان هناك كلام، كانوا يتمكنون من سماعه، ولكن يجب أن يكونوا مستعدين.

وكانت عينة الدراسة صغيرة جداً - أقل من 20 شخصاً لكل مجموعة - لذلك يحذر أندرسون داي من استخلاص استنتاجات واسعة النطاق. ومع ذلك، فهو يقول بأن هذه النتائج الأولية تتماشى مع نظرية المعالجة التنبؤية. كما أضافت دراسة منفصلة نشرت في وقت سابق من هذا العام في مجلة سيانس من قبل باحثين في جامعة ييل سياقاً إضافياً لدراسة أندرسون داي.

وقامت تلك الدراسة بتعريض الأشخاص الذين يسمعون الأصوات والذين لا يسمعونها ومرضى الفصام إلى محفز معروف بإثارة الهلوسة السمعية. ويقوم المحفز بتعريض الشخص لنغمة من الصعب سماعها أحياناً وضوء في نفس الوقت. ومع مرور الوقت، وعند كل ظهور للضوء، يميل الناس إلى القول بأنهم يسمعون نغمة على الرغم من عدم وجودها.

وكان هذا الميل لسماع نغمة بالرغم من عدم وجودها غالباً ما يحدث لأولئك الذين يسمعون الأصوات، سواءً كانوا مصابين أو غير مصابين بالذهان. ومرة أخرى، فإن ذلك يوحي بأن الأشخاص الذين يسمعون الأصوات هم مستعدون لسماع الأصوات في بيئتهم. وكان الفارق الأكبر بين أولئك الذين سمعوا أصواتاً وأولئك الذين سمعوا أصواتاً وكانوا يعانون من الذهان هو قدرتهم على تقبل أن النغمة لم تكن حقيقية. فالأشخاص الذين سمعوا الأصوات دون أن يكونوا مصابين بالذهان تقبلوا بأن ذلك كان يحدث في رؤوسهم، الأمر الذي يؤدي مرة أخرى إلى مصداقية نظرية المعالجة التنبؤية بأن توقعاتنا قد تؤثر فعلاً.

ويقول ألدرسون داي: "إن القيام بهذا النوع من الأبحاث خاصة مع الأشخاص غير السريريين والذين يسمعون الأصوات هو أمر أساسي جداً لإظهار ما ندركه حول العالم، فما نتوقع سماعه يمكن أن يشكل تجاربنا الحسية حقاً".

الكلام جيبي الموجة هو شكل من أشكال الكلام غير المفهوم بشكل مصطنع ويمكن أن يفهمه الإنسان مع التدريب المناسب. ولكن الكثير من الناس الذين يعانون من الهلوسة السمعية يمكن أن يفهموا الكلام جيبي الموجة دون تدريب.

 

وهذا يثير بطبيعة الحال مسألة كيف يمكن للناس الذين يسمعون الأصوات دون أن يكونوا مصابين بالذهان أن يدركوا تجاربهم؟ إذ أنهم يستخدمون مجموعة من التقنيات.

ويقول ألدرسون داي: "في كثير من الأحيان قد لا يدركون في المرة الأولى أن الآخرين لا يستطيعون سماع الصوت أو الأصوات، ولكن ما يمكنهم فعله مع مرور الوقت هو تطوير تفسير لأنفسهم لإدراكه. والذي قد يكون بأنهم يعتقدون بأنه مجرد شيء ينتجه دماغهم مثل حدوث نوع من موجات الراديو الدماغية غير الواعية. وأنا أعرف شخصاً واحداً أو شخصين على الأقل من شأنهم تسميته بذلك". بينما يعتقد آخرون بأنه يتعلق بصوت عابر لشخص يحبونه، أو أنه يتعلق بالإطار الروحي. ويتم تمثيل الأشخاص الذين يسمعون الأصوات بشكل جيد بين الناس الذين يسمون أنفسهم بالوسطاء.

ومع مرور الوقت، إذا صمدت نظرية المعالجة التنبؤية، فقد يغير ذلك من الطريقة التي نعالج بها بعض الأمراض النفسية. ففي الوقت الحالي، فإن الممارسة الشائعة لعلاج نوبات الذهان المتكررة هي بالأدوية. ولكن ألدرسون داي يعتقد بأ الفهم الأفضل لسبب سماع الناس لهذه الأصوات يمكن أن يساعد العاملين في مجال الصحة النفسية لعلاجهم بطريقة أكثر استهدافاً، وربما مساعدة هؤلاء الأفراد على تدبير وإعادة تشكيل أحاسيسهم إلى أحاسيس أقل إيلاماً. وبغض النظر عن ذلك، يريد ألدرسون داي من أولئك الذين يعتقدون بأنهم يسمعون هذه الأصوات أن يطلبوا المساعدة بشكل دائم من أخصائي الصحة الطبية أو الصحة النفسية.

لا يزال هناك الكثير مما لا نعرفه عن الدماغ. ولكن في الوقت الحالي، يذكرنا هذا البحث بأن إدراكنا للعالم هو مجرد إحساسنا الفريد، مدفوعاً بالطريقة التي تثار بها الخلايا العصبية. وهذا يطرح السؤال: ما هي الطرق الأخرى التي يمكن أن توجهنا؟

المحتوى محمي