نجح اكتشاف البنسلين وانتاجه بكميّات ضخمة في فترة نهايات الحرب العالمية الثانية؛ في إنقاذ أرواح آلاف الجنود من العدوى البكتيرية التي حدثت آنذاك. ومنذ ذلك الحين، استخدم البنسلين -والكثير من المضادات الحيوية الأخرى- في علاج مجموعة واسعة من الالتهابات التي تسببها البكتيريا.
وعلى عكس المضادات الفيروسية؛ فالمضادات الحيوية لا تعمل على الفيروسات. يتسبب فيروس كورونا في مرض كوفيد-19، ومنذ بدء انتشار الفيروس؛ بذل الباحثون جهوداً كبيرة لإيجاد مضاد للفيروس يمكنه القضاء عليه.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا: لماذا توجد أنواع قليلة من مضادات الفيروسات؟ يكمن الجواب في علم الأحياء، حيث تستخدم الفيروسات خلايانا من أجل التكاثر، مما يُصعّب من القضاء عليها دون التسبب بقتل خلايانا في هذه العملية.
* يتحقق الباحثون حالياً من فعالية عقار «ريميدسفير» في علاج فيروس كورونا، لكنّه أظهر نتائج مختلطة في التجارب السريرية.
استغلال ثغرة الاختلاف بين البكتيريا والخلايا البشرية
في الواقع؛ ما يجعل استخدام المضادات الحيوية ممكناً هو الاختلاف بين الخلايا البكتيرية والخلايا البشرية. فالبكتيريا هي شكل من أشكال الحياة قائم بحدّ ذاته، ويمكن أن تعيش بشكلٍ مستقل بدون كائن مضيف. فهي تشبه خلايانا لكّنها تتميّز بالعديد من الخصائص غير الموجودة في الخلايا البشرية.
على سبيل المثال، تأتي فعّالية البنسلين لأنه يؤثر على جدار الخلية البكتيري، حيث تتكون جدران الخلايا البكتيرية من بوليمر يسمى «الببتيدوجلايكان»، بينما لا تحتوي الخلايا البشرية على جدارٍ خلوي أو بوليمر مشابه، لذا يمكن للمضادات الحيوية استهداف جدار الخلايا البكتيرية، وبالتالي منعها من صنع «الببتيدوجلايكان» دون الإضرار بالخلايا البشرية. يُعرف هذا المبدأ باستهداف البكتيريا بالسمّية الانتقائية.
تستخدم الفيروسات الخلايا البشرية للتكاثر
على عكس البكتيريا؛ لا يمكن للفيروسات أن تتكاثر بشكلٍ مستقل خارج الخلية المضيفة. وما يزال الجدل في الساحة العلمية دائراً حول اعتبار الفيروسات كائنات حية بالفعل أم لا.
تدخل الفيروسات إلى الخلية المضيفة، ثم تسيطر عليها حتى تدفعها للعمل على إنتاج الفيروس. بعد أن يدخل الفيروس إلى الخلية، يبقى بعضها خاملاً وبعضها يتكاثر ببطءٍ ويتسرّب خارج الخلايا على المدى الطويل، بينما تقوم بعض الفيروسات بإجبار الخلية المضيفة على عمل نسخ كثيرة من الفيروس؛ لدرجة أن الخلية المضيفة تنفجر وتموت. وبالتالي تنتشر النسخ الجديدة من الفيروس لتصيب خلايا جديدة.
يمكن أن يتدخّل المضاد الفيروسي في دورة «الحياة» الفيروسية هذه، ويوقف عمل الفيروس. لكن المشكلة تكمن في حال قيام المضاد الفيروسي باستهداف الخلية المضيفة أيضاً، حيث يصبح تأثيره حينها ساماً عليها. لذلك فإن قتل الفيروسات أمرٌ سهل، لكن الحفاظ على حياة الخلايا المضيفة أثناء قتل الفيروس هو الجزء الأصعب.
تستهدف مضادات الفيروسات الناجحة عملية تكاثر الفيروس وتعطّلها، أو تستهدف بنية الفيروس، بالتالي تمنع تكاثر الفيروس، وتقلل الضرر الناتج عنها على المريض. كلما زاد اعتماد الفيروس على الخلايا المضيفة، كان عدد نقاط الضعف التي يمكن أن يستهدفها المضاد الفيروسي أقل، ولسوء الحظ، لا تُظهر معظم الفيروسات إلا بضع نقاط اختلاف فريدة يمكن استهدافها.
ومن التعقيدات الأخرى هي أن الفيروسات نختلف عن بعضها البعض بشكلٍ كبير؛ أكثر من الاختلاف بين أنواع البكتيريا. تحتوي جميع أنواع البكتيريا على شريط مضاعف من الحمض النووي (دنا)، وتتكاثر بشكلٍ مستقل عن طريق نموها إلى حجمٍ أكبر، ومن ثمّ انقسامها إلى خليتين بكتيريتين على غرار الخلايا البشرية.
بينما هناك تنوع كبير بين مختلف الفيروسات. فالمادة الوراثية لدى بعضها مكونة من الحمض النووي (دنا)، في حين أن بعضها الآخر حمض نووي ريبوزي (رنا)، وبعضها لديه شريط مفرد من المادة الوراثية، والبعض الآخر مزدوج. كل هذا يجعل من الصعب تركيب دواءٍ مضاد للفيروسات يعمل على أنماطٍ مختلفة من الفيروسات.
قصص نجاح مضادات الفيروسات
بغض النظر عمّا سبق، هناك بعض نقاط الاختلاف بين الخلايا البشرية والفيروسات، وقد ساعد استغلالها على تحقيق بعض النجاح في مكافحتها. أحد الأمثلة على ذلك هو فيروس الأنفلونزا «إيه» الذي يسبّب أحد أشكال نزلات البرد.
يخدع فيروس الأنفلونزا الخلايا البشرية حتى يتمكن من الدخول إليها، وبمجرد حدوث ذلك يتخلى الفيروس عن جداره الخارجي، ويطلق مادته الوراثية (رنا) في الخلية المضيفة. يعتمد الفيروس أساساً على البروتين الفيروسي المسمى «ماتركس-2»، والذي يقوم بتسهيل مهمّة دخوله إلى الخلية، وإطلاق حمضه النووي الذي ينتقل بالتالي إلى نواة الخلية المضيفة لحثّها على البدء بإنتاج نسخ جديدة من الفيروس.
ولكن إذا قام دواء ما بإيقاف عمل بروتين «ماتركس-2» الفيروسي، فلن يتمكّن الحمض الريبي النووي الفيروسي من الخروج من جزيء الفيروس، والوصول إلى نواة الخلية كي ينسخ نفسه، لذلك تتوقف العدوى. تعتبر عقاقير «الأمانتادين» و«الريمانتادين» من أول المضادات الفيروسية الناجحة التي تستهدف بروتين «ماتركس-2» وعلاج نزلات البرد التي يسببها فيروس الأنفلونزا «إيه».
كما تعد مضادات الفيروسات؛ «زاناميفير» و«أوسيلتاميفير/ تاميفلو» من الأدوية الجديدة الناجحة في علاج الأنفلونزا التي يسببها فيروسا الأنفلونزا «إيه وبي». تعمل هذه المضادات على إيقاف عمل الإنزيم الفيروسي الرئيسي، وعرقلة إطلاق مادّة الفيروس الوراثية ضمن الخلية، وبالتالي إبطاء انتشار العدوى داخل الجسم وتقليل ضررها.
*عقار «تاميفلو» هو عقار مضاد للفيروسات نجح في إبطاء انتشار الأنفلونزا في البشر.
نحتاج إلى شيء ما يجعل فيروس كورونا فريداً
قد يكون من الصعب إنتاج لقاح لفيروس كورونا، لذلك هناك ضرورة لاختبار مضادات فيروسية مختلفة من أجل العثور على عقارٍ يمكن أن يعالج الفيروس، حيث يظل ذلك هدفاً مهماً. يعتمد الكثير ضمن هذه العملية على الكشف عن مزايا الفيروس الدقيقة وتفاعلاته مع الخلايا البشرية. فإذا تمكّن الباحثون من تحديد نقاط فريدة في عملية تكاثر الفيروس، يمكن عندئذٍ استغلال هذه النقاط لإضعاف الفيروس، وإنتاج مضاد فعّال له يعمل على إيقاف تكاثره، وبالتالي إبطاء العدوى والضرر الناجم عنها.