ربما يكون العلماء قد صنعوا أخيراً نموذجاً رقمياً كاملاً للّوحة الفلكية لجهاز ميكانيكي عمره 2000 عام يسمى «آلية أنتيكيثيرا»؛ الذي يُعتقد أنه أول جهاز كمبيوتر في العالم استُخدم للتنبؤ بحركات الأجرام السماوية؛ إذ اكتُشف لأول مرة في حطام سفينة من العصر الروماني بواسطة غواصين يونانيين عام 1900، وحيّر وأذهل أجيالاً من الباحثين منذ ذلك الحين.
خطوة كبيرة.. لكن لم تكتمل قطع الأحجية بعد
لم تُشكل الأجزاء المُكتشَفة سوى ثلث الجهاز الكلي؛ وهو علبةُ تروس متطورةٌ للغاية تعمل بالطاقة اليدوية، قادرةٌ على التنبؤ بدقة بحركات الكواكب الخمسة المعروفة لدى الإغريق القدماء؛ عطارد، والزهرة، والمريخ، وزحل والمشتري، وكذلك الشمس، وأطوار القمر، و الخسوف الشمسي والقمري، ويعرضها جميعاً بالنسبة لتوقيت الأحداث القديمة مثل الألعاب الأولمبية.
ومع ذلك، على الرغم من سنوات من البحث والمناقشات المضنية، لم تمكّن شظية النحاس المتآكلة التي اكتُشفت في الحطام العلماء أبداً من تكرار أو محاكاة الآلية التي دفعت الجهاز المذهل للعمل، أو الحسابات المستخدمة في تصميمه لكن الباحثين الآن في جامعة كوليدج لندن البريطانية أعلنوا أنهم أعادوا تصميم الجهاز بالكامل، من الحسابات القديمة المستخدمة في إنشائه، وهم الآن يجمعون أدواتهم الخاصة لمعرفة ما إذا كان تصميمهم يعمل أم لا؛ وذلك في ورقة بحثية نُشرت في دورية «ساينتيفيك ريبورتس» العلمية.
الفائدة من إعادة إنشاء أنتيكيثيرا
المسافة بين تعقيد هذا الجهاز والأجهزة الأخرى المصنوعة في نفس الوقت غير محدودة، ولا يوجد شيء مثله تم العثور عليه من قبل. إنه خارج هذا العالم؛ بحسب تعبير الباحثين. لذا، أرادوا إعادة إنشاء الجهاز بسبب كل الغموض المحيط به، كطريقةٍ محتملة للوصول إلى جوهر العديد من الأسئلة.
التروس المعقدة التي تتكون منها آلية الجهاز هي ذاتها التي يمكن أن توجد في الساعات الكلاسيكية القديمة، لكن المثير للاهتمام أن التروس الأخرى الوحيدة التي تم اكتشافها من نفس الفترة تقريباً هي التروس الكبيرة التي دخلت في أشياء مثل المقذوفات أو الأقواس الكبيرة والمنجنيق.
يثير هذا التطور الكثير من الأسئلة حول عملية التصنيع التي كان من الممكن أن تصنع مثل هذه الأداة المعقدة الفريدة، بالإضافة إلى سبب اكتشافها باعتبارها الجهاز الوحيد المعروف من نوعه على متن سفينة قديمة غارقة قبالة جزيرة أنتيكيثيرا؛ الواقعة قبالة السواحل اليونانية.
كما أثار اكتشافها عدة تساؤلات لدى العلماء؛ مثل «ماذا تفعل على تلك السفينة؟»، و «وجدنا الثلث فقط؛ أين هما الثلثان الآخران؟ هل تآكلا بعيداً؟»؛ و «هل عملت هذه الآلة من قبل؟». جميعها أسئلة لا يمكننا الإجابة عليها حقاً إلا من خلال علم الآثار التجريبي.
صناعة أول كمبيوتر في التاريخ
اعتمد الباحثون لإنشاء النموذج على جميع الأبحاث السابقة على الجهاز؛ بما في ذلك بحث «مايكل رايت»؛ أمين المتحف السابق في متحف العلوم في لندن، والذي قام سابقاً ببناء نسخة طبق الأصل باستخدام النقوش الموجودة على الآلة والنموذج الرياضي لكيفية تحرك الكواكب؛ الذي ابتكره لأول مرة الفيلسوف اليوناني القديم «بارمينيدس»؛ إذ تمكنوا من إنشاء نموذج حاسوبي لآلية تداخل التروس التي تتناسب داخل حجرة طولها بوصة واحدة بالكاد.
يعيد نموذجهم إنشاء كل ترس وقرص دوار، لإظهار كيفية تحرك الكواكب والشمس والقمر عبر دائرة الأبراج -الخريطة القديمة للنجوم- على الوجه الأمامي، ومراحل القمر والكسوف على الظهر؛ فهو يكرر الافتراض اليوناني القديم؛ الذي عفا عليه الزمن الآن، بأن كل الأجرام السماوية تدور حول الأرض.
يريد الباحثون الآن إنشاء نسخٍ مادية منه الآن، بعد أن تم تصنيع نموذج الكمبيوتر؛ ذلك باستخدام التقنيات الحديثة أولاً، حتى يتمكنوا من التحقق من عمل الجهاز، ثم استخدام التقنيات التي كان من الممكن أن يستخدمها الإغريق القدماء، وفي ظل عدم وجود دليل على أن الإغريق القدماء كانوا قادرين على بناء شيء كهذا، فالطريقة الوحيدة لاختبار ما إذا كان بإمكانهم ذلك بالفعل هي محاولة بنائه بالطريقة اليونانية القديمة.
كما أن هناك أيضاً الكثير من الجدل حول من قام ببنائه ومن امتلكه، الكثير من الناس يقولون إنه كان العالم «أرخميدس»؛ فقد عاش في نفس الوقت تقريباً الذي تم بناء الجهاز فيه، ولم يكن لدى أي شخص آخر نفس المستوى من القدرة الهندسية التي كان يتمتع بها، كما أن وجوده في حطام سفينة رومانية يدعم ذلك الادّعاء؛ إذ قتل الرومان أرخميدس خلال «حصار سيراكيوز»، بعد أن فشلت الأسلحة التي اخترعها في منعهم من الاستيلاء على المدينة.
تبقى الألغاز أيضاً حول ما إذا كان الإغريق القدماء استخدموا تقنياتٍ مماثلةً لصنع أجهزة أخرى لم يتم اكتشافها بعد، أو ما إذا كانت هناك نسخ من «آلية أنتيكيثيرا» في انتظار العثور عليها؛ إذ قال أحد الباحثين: «إن الأمر يشبه إلى حد ما ظهور التارديس في العصر الحجري»، في إشارة إلى مركبة «دكتور هو» الفضائية التي تسافر عبر الزمن.