بعيداً عن موطننا الدافئ والآمن في الكون، تتصرف النجوم بطرائق غريبة وعنيفة لا يمكن تصورها. تصطدم النجوم النيوترونية-وهي بقايا نجوم ضخمة عالية الكثافة قد تزن ملعقة صغيرة من مادتها وزن جبل إفرست- ببعضها بعضاً، ما يؤدي لنشوء ثقوب سوداء وإطلاق ومضات ضوئية عالية الطاقة تُعرف بانفجارات أشعة غاما (GRBs).
انفجارات أشعة غاما
كانت دراسة انفجارات أشعة غاما هذه محور اهتمام علماء الفلك منذ اكتشافها أول مرة عام 1967، ومع ذلك لا يزال هناك الكثير الذي يجب تعلمه حول الآثار الناتجة عن تصادمات النجوم النيوترونية. في هذا الصدد، يكشف بحث جديد نُشر مؤخراً في مجلة نيتشر عن إشارات مفيدة تُعرف باسم "التذبذبات شبه الدورية" (QPOs) في الملاحظات القديمة لانفجارات أشعة غاما، والتي توفر وسيلة للعلماء للنظر في الفترة الوجيزة التي تلت تصادم النجوم النيوترونية مباشرة قبل انهيارها إلى ثقوب سوداء. تظهر هذه التذبذبات كيفية دوران المادة واختلاطها في أثناء عملية الاندماج.
منذ اكتشاف موجات الجاذبية في عام 2016، ركز العديد من علماء الفلك اهتمامهم على استكشاف عمليات اندماج النجوم النيوترونية من خلال تجارب مثل "مرصد الموجات الثقالية بالتداخل الليزري" (LIGO) والتجارب المماثلة. ومع ذلك، لا تقدم هذه الملاحظات سوى نصف الصورة، حيث إن أجهزة الكشف الحالية حساسة فقط لجزء من موجات الجاذبية الناتجة عن عمليات الاندماج. ربما علينا الانتظار لسنوات عديدة وربما لعقود إلى حين إنجاز مشاريع جديدة، مثل تلسكوب آينشتاين، لاكتشاف الموجات عالية التردد التي لا يمكن ملاحظتها حالياً.
يظهر البحث الجديد أن التكنولوجيا الحالية التي تستخدم أشعة غاما يمكن أن توفر بديلاً لدراسة نفس العمليات الفيزيائية التي تنتج الموجات عالية التردد. تزودنا التذبذبات شبه الدورية التي اكتُشفت في ملاحظات أشعة غاما القديمة برؤى حول فيزياء الاندماج، حيث حلل مؤلفو الدراسة حدثين أنتجا هذا النوع من التذبذبات لا يُعرف أصلها على وجه التحديد؛ ربما نشأت داخل مجرتنا أو خارجها.
دراسة التذبذبات شبه الدورية
تقول المؤلفة الرئيسية للدراسة وعالمة الأبحاث في مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا وجامعة ماريلاند، سيسيليا شيرينتي: «نحن ندرس ما يحدث في جزء من الثانية بين اندماج نجمين وإطلاق انفجار أشعة غاما، ولكن من المؤسف أن هذه الإشارات لا يمكن اكتشافها إلا في موجات الجاذبية بعد نحو عقد أو أكثر قليلاً من الآن. لكني لا أطيق الانتظار! إنه لأمر مثير أنه بإمكاننا البحث والتعلم عنها الآن باستخدام أشعة غاما».
اقرأ أيضاً: علماء الفلك يكتشفون آلية إصدار الثقوب السوداء الفائقة للنفاثات عالية الطاقة
يمنحنا اصطدام نجمين نيوترونيين فرصة عظيمة لاستكشاف فيزياء هذه الأجرام السماوية الغريبة والميتة. يعتمد المصير النهائي لهذه الأجرام على نقطة مهمة غامضة لفيزياء الطاقة العالية (فيزياء الجسيمات): المعادلة التي تشرح بنية النجوم النيوترونية وكيف تتحرك مادتها وتتدفق وتتفاعل مع العالم من حولها.
يقول عالم الفلك في جامعة ماريلاند والمؤلف المشارك في الدراسة، كول ميلر: "المادة داخل أنوية النجوم النيوترونية موجودة في شكل فريد لا يُرى بأي مكان آخر في الكون، حتى في المختبرات الأرضية. يمكن أن يوفر لنا قياس خصائص النجوم النيوترونية فهماً لعالم مادي لا يمكننا الوصول إليه بطريقة أخرى".
بحثاً عن "التذبذبات شبه الدورية"، استكشف فريق البحث أرشيف بيانات عدة تلسكوبات فضائية تابعة لوكالة ناسا: تلسكوب فيرمي الفضائي لأشعة غاما ومرصد سويفت الفضائي ومرصد كومبتون لأشعة غاما. على الرغم من اكتشاف انفجارات أشعة غاما منذ أوائل التسعينيات، إلا أن مدى تعقيد إشاراتها منع علماء الفلك من اكتشاف إشارات التذبذبات الدورية حتى الآن. يقول ميلر في هذا الصدد: "لقد عبّر زميلي مازحاً عن صعوبة معرفة ما إذا كان الذي تراه هو تذبذبات دورية أم أنه مجرد انفجارات أشعة غاما قائلاً: سيكون ما نراه انفجاراً لأشعة غاما بكل الأحوال".
اقرأ أيضاً: نجمان غريبان يرسلان إشارات راديوية فريدة إلى الأرض
تشير التذبذبات الدورية التي تم رصدها في كلا الحدثين إلى أن نجماً نيوترونياً ضخماً ربما كان قد تشكل قبل انهياره إلى ثقب أسود. يقول عالم الفلك من جامعة كولومبيا وجامعة برينستون، إيتاي لينيال، والذي لم يشارك في الدراسة، إنه ما يزال من غير الواضح عموماً ما إذا كان الثقب الأسود يتشكل على الفور أو أن نجماً نيوترونياً يظهر جزءاً من الثانية قبل أن ينهار إلى ثقب أسود خلال انفجار أشعة غاما، لكنه يتفق مع أن هذه الإشارات الجديدة قد تكون نتيجة لبقايا نجم نيوتروني سريع الدوران.
مع اكتشاف إشارات أشعة غاما هذه، بات لدى علماء الفلك الآن أداة جديدة يمكنهم استخدامها لاستكشاف عدد من أبرز الظواهر الغريبة في الكون. يأمل الفريق الآن، مع وجود كنز من البيانات القديمة، في استخدام هذه الأداة للعثور على المزيد من الأمثلة حول عمليات الاندماج الغريبة هذه.