بعد 60 عاماً من التجارب والصعوبات والجهود المتواصلة، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) على أول لقاح للوقاية من فيروس الجهاز التنفسي المخلوي (RSV) في 3 مايو/ أيار. وتستمر الجهود لتطوير مزيد من اللقاحات الوقائية الأخرى المضادة لفيروس الجهاز التنفسي المخلوي في المستقبل القريب، وذلك لتوفير مزيد من الحماية والحد من انتشار هذا الفيروس.
لقاح أريكسفي: أول مجموعة من اللقاحات المشابهة
وافقت إدارة الغذاء والدواء على لقاح أريكسفي (Arexvy)، الذي طوّرته شركة غلاكسو سميث كلاين (GSK) للأدوية. وصُمم اللقاح لحماية الأشخاص الذين تجاوزوا سن الـ 60 عاماً من خلال تلقي جرعة واحدة فقط. تعمل شركة فايزر (Pfizer) حالياً على تطوير لقاح يستهدف الأشخاص البالغين والنساء الحوامل، لاستخدامه بوصفه لقاحاً أمومياً لتعزيز مناعة الأمهات ونقل هذه المناعة إلى الرضّع لحمايتهم من الإصابة بالفيروس.
كما تدرس إدارة الغذاء والدواء الأميركية علاجاً بالأجسام المضادة أحادية النسيلة للأطفال الرضّع، الذي قدّمته كلٌّ من شركتي سانوفي (sanofi) وأسترازينيكا (AstraZeneca)، إذ يوفّر هذا العلاج حماية شبيهة بالحماية التي يوفّرها اللقاح خلال فترة انتشار فيروس الجهاز التنفسي المخلوي. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت المرحلة النهائية من التجارب السريرية على لقاح مضاد لفيروس الجهاز التنفسي المخلوي، الذي طوّرته شركة موديرنا (Moderna)، والذي يستخدم تقنية الحمض النووي الريبي (mRNA)، نتائج مبشرة في التجارب النهائية.
من المتوقع أن يكون اللقاح متاحاً في الخريف المقبل، في انتظار توصية باستخدامه من اللجنة الاستشارية لممارسات التحصين التابعة لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، خلال اجتماعها القادم، المقرر انعقاده في يونيو/ حزيران. أعلنت شركة غلاكسو سميث كلاين (GSK) خلال عرضها التقديمي الأخير لاستعراض نتائجها المالية عن وجود ملايين الجرعات الجاهزة للشحن.
اقرأ أيضاً: أخيراً لقاح مخصص وآمن يثبت فعاليته ضد السرطان المتكرر
كبار السن: الحلقة الأضعف أمام فيروس الجهاز التنفسي المخلوي
يقول مدير مركز تقييم وأبحاث البيولوجيا التابع لإدارة الغذاء والدواء، بيتر ماركس (Peter Marks)، في بيان صحفي: "لا شك في أن كبار السن، ولا سيما الأشخاص الذين يعانون من الأمراض المزمنة، مثل أمراض القلب أو الرئة أو ضعف جهاز المناعة، هم الأكثر عرضة لخطر الإصابة بأمراض خطيرة ناجمة عن فيروس الجهاز التنفسي المخلوي، وتُعد الموافقة اليوم على أول لقاح مضاد لفيروس الجهاز التنفسي المخلوي إنجازاً مهماً في مجال الصحة العامة للوقاية من هذا المرض الخطير، كما تعكس التزام إدارة الغذاء والدواء الأميركية المستمر بتسهيل تطوير لقاحات آمنة وفعّالة للاستخدام في الولايات المتحدة".
يمكن أن يصيب فيروس الجهاز التنفسي المخلوي الفئات العمرية كافة، لكنه يعد مثيراً للقلق بصورة خاصة عند الرضّع وكبار السن. كما يعد هذا الفيروس شديد العدوى، ويسبب التهابات في الرئتين والمجاري التنفسية. وفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، يتسبب فيروس الجهاز التنفسي المخلوي سنوياً في دخول نحو 60,000 إلى 120,000 حالة مصابة إلى المستشفيات، وفي حدوث نحو 6,000 إلى 10,000 حالة وفاة بين الأشخاص الذين تجاوزوا سن الـ 65 عاماً. كما يعد سبباً شائعاً لأمراض الجهاز التنفسي السفلي لدى كبار السن. يصيب هذا المرض الرئتين، ويمكن أن يؤدي إلى الإصابة بالتهاب رئوي والتهاب القصبات الهوائية، ما يشكّل خطراً على الحياة.
ينتشر الفيروس بشكل موسمي، إذ يبدأ عادةً في الخريف ويبلغ ذروته في الشتاء. بدأ موسم انتشار الفيروس لهذا العام مبكراً، إذ شهدت المستشفيات والأقسام الطبية الخاصة بالأطفال في أنحاء الولايات المتحدة ارتفاعاً كبيراً في عدد الحالات المصابة، ما أدّى إلى فرض قيود على بيع الأدوية الخاصة بالأطفال في الصيدليات.
اقرأ أيضاً: لقاح واحد يكفي: كورونا يتطور بالصدفة العشوائية دون ضرر
وفقاً لنتائج تجربة سريرية شملت نحو 25,000 من الأشخاص البالغين، كان اللقاح الذي قدّمته شركة غلاكسو سميث كلاين فعّالاً بنسبة 83% في الوقاية من أمراض الجهاز التنفسي السفلي الناجمة عن الإصابة بالفيروس. كما كان فعّالاً بنسبة 94% في الوقاية من الأمراض الشديدة كالالتهابات الرئوية الحادة لدى كبار السن.
وعرّف الباحثون المرض الشديد بأنه الحاجة إلى أوكسجين إضافي أو مساعدة ميكانيكية داعمة للتنفس (مثل استخدام جهاز التنفس الاصطناعي). نشرت مجلة نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسين (New England Journal of Medicine) نتائج التجربة في شهر فبراير/ شباط.
آلية عمل اللقاح
يعمل اللقاح عن طريق استخدام جزء صغير من الفيروس يسمى بروتين الاندماج، أو بروتين إف (F-protein). يبرز بروتين الاندماج على سطح الفيروس ويساعده على الالتصاق بالخلايا في مجرى الهواء العلوي، ما يسمح للفيروس بدخول الخلية والتكاثر فيها، وبالتالي يؤدي إلى الإصابة بالعدوى (لحث الجهاز المناعي على التعرف على هذا البروتين وتطوير الحماية ضد الفيروس). صُنعت بروتينات الاندماج في المختبر باستخدام خلايا مصممة خصيصاً لهذا الغرض.
عادةً يكون هذا البروتين متذبذباً ويغيّر شكله بشكل طبيعي عند اندماجه بالخلية، لكن في عام 2013، اكتشف الباحثون في المعاهد الوطنية للصحة كيفية تثبيت هذا البروتين في شكله الأساسي الذي يكون عليه قبل أن يندمج في الخلية. وبذلك يمكن للجهاز المناعي التعرف عليه والتعامل معه بصورة فعّالة أكثر من خلال تشكيل أجسام مضادة له. يستخدم لقاح شركة غلاكسو سميث كلاين هذا الشكل من البروتين قبل الاندماج بالإضافة إلى مكوّن آخر يسمى مساعد المناعة؛ الذي يمكنه تعزيز النشاط المناعي.
بدأ البحث عن لقاح مضاد لفيروس الجهاز التنفسي المخلوي في ستينيات القرن الماضي، لكنه واجه العديد من الصعوبات؛ إذ توفي طفلان صغيران في ستينيات القرن الماضي بعد تلقيهما حقنة تجريبية أدّى استخدامها إلى إصابتهما بشكل غير متوقع بسلالة خطيرة جداً من الفيروس. لذلك، تُطبّق تدابير السلامة المعتمدة حالياً في تجارب اللقاحات السريرية بعد فشل التجارب الأولية للقاح في الماضي.
اقرأ أيضاً: لأول مرة استخدام كريسبر لتحرير الجينات في علاج مرضٍ وراثي
عمل عالم اللقاحات في كلية مورهاوس للطب (Morehouse School of Medicine)، بارني غراهام (Barney Graham)، مع عالم الأحياء الهيكلية في جامعة تكساس في مدينة أوستن (the University of Texas at Austin)، جيسون مكلالن (Jason McLellan)، وعالم اللقاحات في المعاهد الوطنية للصحة، بيتر كوانغ (Peter Kwong)، على إعادة إطلاق العمل في مجال تطوير لقاح مضاد لفيروس الجهاز التنفسي المخلوي بعد عقود من الفشل.
يقول غراهام لصحيفة واشنطن بوست: "استغرق هذا العمل جزءاً كبيراً من حياتي، لذلك، من المدهش رؤية هذا الإنجاز يتحقق أخيراً، وأود أن أعبّر عن امتناني وتقديري للأشخاص الذين سبقوني في العمل على تطوير هذا اللقاح وأسهموا في وصولنا إلى هذا الإنجاز، وللأسف، البعض منهم لم يعد موجوداً معنا. أتمنى لو كانوا هنا للاحتفال بهذا الحدث، كانت رحلة طويلة وشاقة ومليئة بالتحديات".