ما الجديد الذي يقدمه التقاط أول صورة لذرة لصناعة المواد؟

ما الجديد الذي يقدمه التقاط أول صورة لذرة لصناعة المواد؟
ولّد مسرّع الجسيمات في مختبر أرغون الوطني الأشعة السينية المطلوبة لتصوير ذرات إفرادية. مختبر أرغون الوطني/فليكر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ربما تظن أن الأشعة السينية هي موجات غريبة قليلة نشطة إشعاعياً تمر عبر جسمك لمسح العظام أو الأسنان المكسورة. عندما تصوّر جزءاً من جسمك بالأشعة السينية، يستخدم الأطباء المختصون هذه الأشعة لكشف السمات المختلفة في جسمك وتوصيفه.

يستخدم العديد من العلماء الأشعة السينية لهدف مشابه للغاية، ولكن الأجسام التي يصورونها مختلفة؛ إذ إنهم يمسحون الجزيئات أو المواد بدلاً من مسح الكائنات الحية التي من المرجّح أن تموت بسرعة إذا تعرّضت للأشعة السينية المرتفعة الطاقة المستخدمة في الأبحاث العلمية. صوّر العلماء من قبل مجموعات من الذرات باستخدام الأشعة السينية لفهم ماهيتها والتنبؤ بسلوكها في بعض التفاعلات الكيميائية، ولكن لم يتمكن أحد من التقاط صور بالأشعة السينية لذرات إفرادية من قبل، حتى الآن. استخدم الفيزيائيون الأشعة السينية لدراسة الحيز الداخلي لذرتين مختلفتين، ونُشرت النتائج بتاريخ 31 مايو/ أيار 2023 في مجلة نيتشر (Nature).

يقول الفيزيائي في جامعة أوهايو ومختبر أرجون الوطني والمؤلف في الدراسة الجديدة، سو-واي لا (Saw-Wai Hla): “استُخدمت الأشعة السينية بعدة طرق مختلفة. ولكن ما لا يعرفه العلماء مذهل. لم نكن قادرين على قياس ذرة واحدة، حتى الآن”.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن صنع أكثر المواد برودة في الكون؟ وما الهدف من ذلك؟

ما وراء صور الذرات

لا يعني تحديد سمات ذرة ما توصيفها تصويرها فقط؛ إذ تمكّن العلماء من فعل ذلك لأول مرة في عام 1955. منذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت الأداة الأساسية التي استخدمها العلماء لتصوير الذرات هي المجهر النفقيّ الماسح. يكمن السر في آلية عمل هذا المجهر في طرفه الذي يبلغ حجمه حجم البكتيريا. عندما يحرّك العلماء طرف المجهر مسافة تساوي جزءاً من مليون جزء من عرض الشعرة الواحدة فوق سطح ذرة ما، تمر الإلكترونات عبر الفراغ بين طرف المجهر والذرة، ما يؤدي إلى توليد تيار كهربائي. يلتقط طرف المجهر هذا التيار ويحوّله المجهر إلى صورة. (تستطيع المجاهر النفقية الماسحة سحب الذرات وإفلاتها أيضاً؛ إذ إنه في عام 1989، أصبح عالمان من شركة آي بي إم أول عالمين يستخدمان هذه المجاهر لتشكيل عمل فني بعد أن كتبا الأحرف “آي” و”بي” و”إم” باستخدام ذرات الزينون).

لكن في الواقع، عملية توصيف ذرة واحدة، أي مسحها وتصنيفها تبعاً للعنصر الذي تنتمي إليه وتفسير خصائصها وفهم سلوكها في التفاعلات الكيميائية، هي مسعى أعقد بكثير.

تُتيح الأشعة السينية للعلماء توصيف مجموعات أكبر من الذرات. عندما تصطدم الأشعة السينية بالذرات تنقل طاقتها إلى إلكترونات تلك الذرات، ما يؤدي إلى استثارة هذه الإلكترونات. وعندما تنخفض استثارة تلك الإلكترونات تُطلق الطاقة التي اكتسبتها على شكل أشعة سينية أيضاً. يستطيع العلماء دراسة هذه الأشعة التي تصدرها الإلكترونات لتحليل خصائص الذرات التي تحتوي على هذه الإلكترونات.

هذه أداة مذهلة، وهي نعمة للعلماء الذين يحتاجون إلى التلاعب بالبنى الجزيئية. على سبيل المثال، ساعدت هذه العملية التي تحمل اسم مطيافيّة الأشعة السينية العلماء على ابتكار لقاحات كوفيد-19. تُتيح هذه التقنية للعلماء دراسة مجموعة من الذرات، أي تحديد العناصر الكيميائية الموجودة في المجموعة والتوزيعات الإلكترونية فيها عموماً، ولكنها لا تمكّن العلماء من فعل ذلك على مستوى الذرات الفردية. يقول الفيزيائي في مختبر أرغون الوطني وأحد مؤلفي الدراسة الجديدة، فولكر روز (Volker Rose): “قد نتمكن من رؤية فريق كامل من لاعبي كرة القدم أو الراقصين، لكن ذلك لا يعني أننا تمكنا من توصيف لاعب أو راقص واحد”.

اقرأ أيضاً: كيف يقترب المهندسون من تحقيق قفزة على مستوى أجهزة القياس؟

الرصد بدقة باستخدام أشعة عالية الطاقة

لا تستطيع أجهزة التصوير بالأشعة السينية البسيطة مثل التي تُستخدم في عيادات أطباء الأسنان تصوير الجزيئات، فهو يتطلب استخدام أشعة أكثر سطوعاً بكثير وتتمتّع بطاقة أعلى بكثير، ويجب استخدام مسرّع جسيمات يحمل اسم المسرّع الدورانيّ التزامنيّ.

يوجد الجهاز الذي استخدمه مؤلفو الدراسة الجديدة في مختبر أرغون الوطني، وهو يسرّع الإلكترونات في حلقة تقع في منطقة سهول ولاية إلينوي الأميركية ويبلغ طولها نحو كيلومتر واحد. بدلاً من صدم الجسيمات بعضها بعضاً، يمرّر المسرع الدوراني التزامني الإلكترونات العالية السرعة عبر جهاز يحمل اسم المموّج المغناطيسي. مع عبور الإلكترونات في هذا الجهاز تُطلق كمية كبيرة من طاقتها على شكل أشعة سينية.

رسم تخطيطي يبيّن الأشعة السينية التي تضيء ذرة حديد (الكرة الحمراء باسم "Fe") وتوفّر معلومات تتعلق بعنصر الحديد ومعلومات كيميائية عندما يتحسس طرف المجهر (أعلى الصورة) إلكتروناً مستثاراً. سو-واي لا
رسم تخطيطي يبيّن الأشعة السينية التي تضيء ذرة حديد (الكرة الحمراء باسم “Fe”) وتوفّر معلومات تتعلق بعنصر الحديد ومعلومات كيميائية عندما يتحسس طرف المجهر (أعلى الصورة) إلكتروناً مستثاراً. سو-واي لا

جمع المؤلفون بين قوة حزمة الأشعة السينية هذه ودقة المجهر النفقيّ الماسح. في هذه الحالة، رفعت الأشعة السينية طاقة إلكترونات الذرات، ثم انتزع المجهر بعض الإلكترونات من الذرات، ما منح العلماء نظرة أقرب بكثير. أطلق العلماء على هذه العملية اسماً يبدو مناسباً للعبة تزلج على الجليد في جهاز بلاي ستيشن 1، وهو مطيافية الأشعة السينية النفقية الماسحة بالمسرّع الدوراني التزامني (أو إس إكس-إس تي إم اختصاراً).

الجمع بين الأشعة السينية والمجاهر النفقية الماسحة ليس سهلاً؛ إذ إنهما نوعان منفصلان من التكنولوجيا تستخدمهما مجموعتان مختلفتان تماماً من العلماء، ويتطلب الجمع بينهما أكثر من مجرّد تطبيق الحيل التقنية البسيطة. استغرقت هذه العملية سنوات من العمل.

اكتشف المؤلفون بنجاح باستخدام تكنولوجيا إس إكس-إس تي إم ترتيب الإلكترونات داخل ذرتين مختلفتين، ذرة حديد وذرة تربيوم، وهو عنصر نادر في الأرض (رقمه هو 65 في الجدول الدوري) يُستخدم غالباً في الأجهزة الإلكترونية التي تحتوي على المغناطيس والمصابيح الفلورية الخضراء. يقول روز: “هذا إنجاز جديد تماماً لم يتمكن العلماء من تحقيقه من قبل”.

يعتقد العلماء أن التقنية الجديدة التي طوّروها يمكن أن تُستخدم في مجموعة واسعة من المجالات. تستطيع الحواسيب الكمومية تخزين المعلومات في حالات إلكترونات الذرات، ويمكن للباحثين استخدام هذه التقنية لقراءة هذه الحالات، وإذا أصبحت هذه التقنية واسعة الانتشار فقد يتمكن علماء المواد من التحكّم في التفاعلات الكيميائية بصورة أدق بكثير.

اقرأ أيضاً: لماذا سيؤدي قياس كتلة بوزون دبليو إلى إعادة صياغة نظريات فيزياء الجسيمات؟

يعتقد لا أن تحليل المواد باستخدام تكنولوجيا إس إكس-إس تي إم يمكن أن يُضيف المزيد إلى المعلومات التي توصل إليها علماء الأشعة السينية بالفعل؛ إذ يقول: “غيّرت الأشعة السينية حياة الكثيرين في الحضارة البشرية”. على سبيل المثال، معرفة سلوك ذرات معينة أمر بالغ الأهمية لتركيب مواد أعلى جودة ودراسة البروتينات، ربما من أجل التوصل إلى طرق جديدة للتحصين ضد الأمراض.

يقول لا إنه بعد أن أثبت هو وزملاؤه أنه من الممكن فحص ذرة أو ذرتين فقط في وقت واحد، أصبح بإمكان العلماء الآن توصيف مجموعات من الذرات في وقت واحد. يقول لا: “إذا تمكّنا من رصد ذرة واحدة، فيمكننا رصد 10 أو 20 ذرة”.