على مدار معظم تاريخ البشرية، قمنا بقياس الوقت باستخدام موقع الأرض في الفضاء. كانت الثانية جزءاً فرعياً من اليوم الأرضي، واليوم الأرضي جزءاً من السنة أرضية؛ لقد تم تحديد النطاق الزمني من خلال مكان الأرض. ثم جاءت الساعة الذرية.
درس العلماء ذرات عنصر السيزيوم، والتي يجري فيها عملية تُدعى «الانتقال فائق الدقة» (hyperfine transition) وهي عملية تنبعث عنها موجات دقيقة "ميكروويف" وتمتصها، حيث يمكن للعلماء تحديد توقيتها بدقة متناهية بمساعدة بلورة كوارتز مهتزة. يشكل هذا الأساس لكيفية قياس العلماء للوقت اليوم، وقد سمح لهم بصياغة تعريفٍ أكثر دقةً للثانية عام 1967.
دقة الساعات الذرية
لم يتغير هذا التعريف بشكل كبير خلال أكثر من نصف قرن، ولم يتغير أيضاً توقيت الساعات الذرية المستخدمة في إنشائه. هذه الساعات لم تكن لتضيع ثانية واحدة منذ انقراض الديناصورات، لكن توجد بالفعل ساعات ذرية أفضل لا تحدد الوقت فحسب، بل إنها أيضاً أدوات فيزيائية رائعة.
طورت مجموعتان مختلفتان مؤخراً ساعاتٍ يمكنها قياس العمليات الفيزيائية الدقيقة في الساعات نفسها، ونشر فريقا البحث النتائج التي توصلا إليها في مقالتين منفصلتين في دورية «نيتشر» في 16 فبراير/ شباط 2022. يمكن لهذه الساعات الجديدة قياس أحد تنبؤات ألبرت أينشتاين- تمدد الزمن بسبب الجاذبية- على أصغر مقياس تم التوصل إليه حتى الآن.
لا تعتمد هذه الساعات الذرية المتطورة على السيزيوم أو الكوارتز. بدلاً عن ذلك، فإن أساسها هو هياكل تشبه الفطيرة من ذرات السترونشيوم فائقة التبريد. حيث يمكن لمشغليها التحكم في الذرات باستخدام الليزر الذي يصدر الضوء المرئي، ومن هنا أتت تسميتها: الساعات الضوئية.
توجد إحدى هذه الساعات الضوئية في جامعة ويسكنسن ماديسون. تحتوي هذه الساعة على ستة فطائر من السترونشيوم- أي ست ساعات أصغر- في نفس الإطار. يقول شيمون كولكويتز، عالم الفيزياء في جامعة ويسكنسن ماديسون: «هذا الرقم ليس فريداً؛ يمكن أن يكون أكثر أو أقل. ستةٌ رقم اعتباطي فقط».
اقرأ أيضاً: إلى أي مدى يمكنك الرجوع بالزمن إلى الوراء عندما تنظر إلى السماء؟
ساعة ماديسون الذرية: ثانية واحدة لكل 300 مليار عام
تبلغ نسبة الخطأ في ساعة ماديسون ثانية واحدة لكل 300 مليار سنة، أي في مدى زمني أكثر من 20 ضعفاً من عمر الكون. ربما تعتقد أن هذا الرقم أعلى دقة يمكن تحقيقها، ولكن هذه الساعة ليست أقوى ساعةٍ على الإطلاق، إذ أن هناك ساعاتٌ تتفوق عليها في مشروع معهد بحوث الفيزياء «جيلا» (JILA)، وهو مشروع مشترك بين المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا «نيست» (NIST) وجامعة كولورادو، بولدر.
ليس بالضرورة أن يكون وجود "ساعات" متعددة في نفس الجهاز مفيداً لحفظ الوقت (كم ساعةً تحمل معك مثلاً)، لكنها تسمح لك بمقارنة الساعات مع بعضها بعضاً. نظراً لأن هذه الساعات بالغة الدقة، يمكنها قياس عمليات فيزيائية دقيقة جداً أيضاً. على سبيل المثال، يمكن لمجموعة ساعات جامعة بولدر اختبار تمدد الوقت داخل ساعة واحدة.
يقول توبياس بوثويل، طالب دراسات عليا في معهد جيلا ونيست: «إنه شيءٌ تكتشفه من خلال مقارنة ساعاتٍ تفصل بينها مسافة».
اقرأ أيضاً: قد تصبح واحدةً من حالات المادة: ما هي بلورات الزمن؟
اختبار تتجاوزه النظرية النسبية بنجاح
وفقاً لنظرية النسبية، يتباطأ الزمن أكثر كلما اقتربت من سرعة الضوء. ويمكن أن تتسبب حقول الجاذبية بتباطؤ الزمن أيضاً؛ حيث كلما كانت الجاذبية أقوى، زاد تمدد الزمن. على الأرض، على سبيل المثال، كلما اقتربت من مركز الأرض، زادت الجاذبية الأرضية التي تشدك للأسفل وزاد تمدد الزمن الذي تشعر به».
في الواقع، يمر عليك الزمن أبطأ من الزمن الذي يمر على الطائر الذي يحلق فوقك في السماء، بينما يمر الوقت بشكلٍ أبطأ بالنسبة للأجسام التي توجد على ارتفاع أقل من ارتفاعك. نواة الأرض في الواقع أقدم من قشرة الأرض بـ 2.5 سنة. قد يبدو هذا الزمن طويلاً جداً، ولكن بالنظر إلى تاريخ كوكبنا البالغ 4.6 مليار سنة، فإن هذا الزمن ليس أكثر من حتى قطرةٍ من المحيط. ومع ذلك، ظل العلماء يقيسون هذه الاختلافات الدقيقة لعقود من الزمن باستخدام أشعة جاما وإرسال إشارات الراديو إلى المريخ واستقبالها وحتى الساعات الذرية.
في عام 1971، حمل عالمان ساعات ذرية على متن رحلات جوية تجارية حلقت حول العالم، كل منها في اتجاه. وتمكنا من قياس فارقٍ زمني دقيق يبلغ عدة مئات من النانو ثانية، حيث كان ذلك متوافقاً مع تنبؤات النسبية. في عام 2020، استخدم العلماء ساعتين في برج طوكيو سكاي تري، بحيث ترتفع إحداها عن الأخرى بمقدار 450 متراً، واكتشفوا فارقاً زمنياً دقيقاً يثبت صحة نظرية أينشتاين مرة أخرى.
تظهر هذه التجارب أن النسبية يمكن أن تنطبق على أي مكانٍ في العالم. يقول ألكساندر إيبلي، طالب دراسات عليا في جيلا ونيست: «الأمر نفسه في كل مكانٍ من الأرض. إذا كان بإمكانك قياس فارقٍ زمني بمسافة فاصلة تبلغ سنتيمتراً واحداً هنا، فيمكنك قياس نفس الفارق في مكان آخر من العالم».
لقد قام معهد نيست بقياس الفارق الزمني حتى بمسافةٍ فاصلة تبلغ سنتيمتراً واحداً بالفعل. في عام 2010، كان المعهد قد أجرى قياساً مشابهاً مستخدماً ساعاتٍ مختلفة تفصل بينها مسافة قدمٍ واحدة (30.48 سنتيمتراً) فقط.
اقرأ أيضاً: ما هو الزمن؟ ولماذا نشعر به متحركاً للأمام فقط؟
آفاق واعدة
وفي إحدى الدراسات الجديدة، تم فصل فطيرتين من السترونشيوم في جهاز واحد بمقدار أقل من المسافة: نحو ميلليمترٍ واحد. بعد 90 ساعة من جمع البيانات، تمكنت ساعات مجموعة بولدر من تمييز الاختلاف الدقيق في الضوء، ما جعل القياس أكثر دقة بـ 50 ضعفاً من أي قياس سابق.
يشير بوثويل إلى إن الرقم القياسي الذي تم تسجيله ذه من قبل كان عبارةً عن تمددٍ- اختلاف في تردد الضوء- تصل دقته إلى 19 خانة عشرية. يقول بوثويل: «أما الآن، فقد وصلنا إلى دقة 21 خانة عشرية. عندما تزداد الدقة منزلةً عشرية واحدة، تشعر بالإثارة. لقد كنا محظوظين حقاً لأننا انتقلنا بتجاربنا إلى دقة أكبر بخانتين عشريتين».
وفقاً لكولكويتز، فإن النتائج رائعة جداً ومثيرة.
لكن كولكويتز، الذي لم يشارك في دراسة نيست، يقول إن لساعة نيست عيباً واحداً: «من الصعب أن تعمل خارج المختبر. تمتلك مجموعة ساعات نيست أفضل ليزر في العالم، ولكن لا يمكن نقلها خارج المختبر بسهولة».
ويعتبر كولكويتز أن عمل المجموعتين متكامل. يمكن لساعة بولدر أن تقيس الوقت والخصائص الفيزيائية الأخرى بدقة متزايدة، وفي الوقت نفسه، يعتقد أن ساعة أكثر مرونة من ناحية إمكانية نقلها خارج المختبر، كتلك التي توجد في ماديسون، يمكن حملها إلى عددٍ البيئات المختلفة، بما في ذلك الفضاء للبحث عن المادة المظلمة أو موجات الجاذبية.
على الرغم من أنه من الرائع إثبات أن الفيزياء الأساسية تعمل كما تخيلها أينشتاين وأصدقاؤه، إلا أن هناك أيضاً عدد غير قليل من التطبيقات الواقعية الأخرى لهذا النوع من العلوم. على سبيل المثال، يمكن أن تستفيد الملاحة من الساعات الأكثر دقة؛ إذ يحتاج نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) إلى تصحيح تمدد الزمن. كما يمكننا قياس قوة تمدد الزمن من قياس مجالات الجاذبية بشكل أكثر دقة، وبالتالي سبر أعماق الأرض مثلاً.
يقول إيبلي: «يمكنك سبر مكان وجود الصهارة تحت الأرض، والتنبؤ متى يمكن أن ينفجر البركان مثلاً. هناك العديد من الأشياء من هذا القبيل يمكن استخدام الساعات الذرية فيها».