منذ عقود طويلة كان إحساس الحكة، الذي لا يمكن تجنبه أو مقاومة الرغبة الشديدة به، موضعَ بحث العلماء لتحديد الآليات الجزيئية المسببة له، ولارتباطه ببعض الأمراض الجلدية مثل الإكزيما. واليوم، توصل باحثون من جامعة هارفارد لأصل هذه الظاهرة ووضحوا لأول مرة أنه يمكن لنوع من بكتيريا الجلد الشائعة أن تسبب الحكة، بتأثيرها في الخلايا العصبية الجلدية. في دراسة جديدة نُشرت في دورية سيل (Cell).
أسباب الحكة
إلى يومنا هذا، كان من المفترض أن الحكة المرافقة للإكزيما والتهاب الجلد التأتبي ناتجة عن التهاب الجلد المصاحب. حيث قال الأستاذ المساعد في علم المناعة في كلية الطب بجامعة هارفارد والباحث الرئيسي للدراسة إسحاق تشيو (Isaac Chiu)، إن الأبحاث السابقة حول الحكة الجلدية ركّزت على دور الاستجابة المناعية والالتهابات في توليد الإحساس بالحكة، مثل دور:
- الخلايا المناعية والمعروفة باسم الخلايا البدينة والقاعدية.
- المواد الكيميائية الالتهابية التي تُدعى الإنترلوكينات.
- الخلايا البيضاء، التي عادة ما تنشط في أثناء الحساسية وخلال الأمراض الجلدية.
لذا غالباً ما كان يعالج المصابون بالإكزيما بأدوية تستهدف جزيئات الجهاز المناعي.
المسببات الميكروبية للحكة
وفقاً للباحثة في كلية الطب بجامعة هارفارد وأحد المشاركين في الدراسة، ليوين دينغ (Liwen Deng)؛ ليس من الضروري وجود التهاب حتى تُصاب بالحكة، بل إن الحكة تجعل الالتهاب أسوأ. بينما قال تشيو: "لقد كشفنا أن إحدى الطرق التي يحدث بها هذا الإحساس ناتجة عن أحد أنواع البكتيريا الموجودة على جلدنا، وهي بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية (Staphylococcus aureus)".
وفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، تُعدُّ المكورات الذهبية شائعة جداً، حتى إنها توجد بشكلٍ طبيعي في أنوف نحو 30% من الأشخاص، دون أن تتسبب بأي ضرر. إلّا أنه في حال الإصابة بأمراض جلدية مثل الإكزيما أو الصدفية أو الحكة العقدية، يختل توازن ميكروبات الجلد، ما قد يؤدي إلى تحفيز نشاط بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية.
لمعرفة أسلوب تواصل الخلايا العصبية والخلايا المناعية والميكروبات مع بعضها بعضاً، حقن الباحثون بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية تحت جلد الفئران، فأصيبت بحكة شديدة لعدة أيام، تسببت خلالها الحكة بتلف للجلد امتد إلى ما هو خارج موضع الإصابة الأساسي، لكن لم يكن هناك التهاب؛ أي أن العصب الذي يكتشف الحكة استشعر البكتيريا حتى بغياب الاستجابة المناعية.
اقرأ أيضاً: عالم لبناني أميركي حائز على جائزة نوبل يحدد البروتينات المسؤولة عن الحكة ويمهّد الطريق لعلاجها
التفاعل التسلسلي
تسبب الميكروب بسلسلة من التفاعلات الجزيئية بلغت ذروتها لدى الرغبة في الحكة. علاوة على ذلك، ازدادت شدة حساسية الفئران للمنبهات غير الضارة التي لا تسبب الحكة عادة؛ وهي حالة تُعرف بـ "الحكة الناجمة عن المنبهات التي عادة لا تُثير الحكة" (Alloknesis)، وتشيع لدى المرضى الذين يعانون حالات جلدية مزمنة.
تتبع الباحثون 10 إنزيمات برويتاز تُطلقها هذه المكورات، وتمكنوا من تحديد إنزيم يُدعى البروتياز V8، يلتصق ببروتين موجود على الخلايا العصبية التي تنقل الإشارات من الجلد إلى الدماغ، يُعرف بمستقبل البروتيناز المنشط1 أو (PAR1)، فيشعر بها الدماغ على أنها حكة. عادة، يكون PAR1 خاملاً، ولكن عند ملامسته لإنزيم V8، يُنشط.
كما أظهرت العينات البشرية لجلد مصابين بالتهاب الجلد التأتبي احتواءها على نسبة أعلى من المكورات العنقودية الذهبية، ومستويات أعلى من البروتياز V8 مقارنة بالعينات السليمة.
إيقاف الحكة
من ناحية أخرى، استنتج الباحثون أن البروتين PAR1 يسهم في تخثر الدم، وأن الأدوية المضادة للتخثر يمكنها تثبيطه، ما يسمح بإيقاف الحكة. لذا طبّق الباحثون دواء فوراباكسار (Vorapaxar)، وهو دواء يمنع تجلط الدم، وبالتالي يثبط مستقبل PAR1،
أمّا الفئران المصابة والتي تنشط فيها المكورات الذهبية العنقودية، فقد شهدت تحسناً سريعاً، وتراجعت تدريجياً رغبتها الشديدة في الحك، وتضاءل تلف الجلد الناجم عن حكه، وتوقفت استجابتها للمنبهات غير الضارة.
تقول دينغ: "لقد حالفنا الحظ لأن هذا المُركّب وافقت عليه مؤخراً إدارة الغذاء والدواء. لقد عالجنا الفئران عن طريق الدواء الفموي، ما منع الحكة تماماً". أي عوضاً عن علاج الإكزيما التقليدي باستخدام حمامات مواد التبييض المخففة أو المضادات الحيوية عن طريق الفم على أساس النظرية القائلة بأن قتل المكورات العنقودية الذهبية قد يكون فعّالاً، استنتج الباحثون أن المادة الفعّالة في الدواء المضاد للتخثر يمكن أن تصبح أساساً للكريمات الموضعية المضادة للحكة.
علاوة على ذلك، لفت انتباه الباحثين أن كلاً من الخلايا المناعية التي تسبب عادة حساسية الجلد والإنترلوكينات والخلايا البيضاء، لم تنشط ولم تسبب الحكة بعد التعرض للبكتيريا.
اقرأ أيضاً: الدليل الشامل للتعرف على كل ما يهمك عن الحساسية الجلدية
حدود جديدة في أبحاث الأمراض الجلدية
انطلاقاً من هذه النتيجة، يسعى الباحثون خلال دراساتهم اللاحقة لاستكشاف فيما لو كانت هناك ميكروبات أخرى إلى جانب المكورات العنقودية الذهبية تسبب الحكة. فوفقاً لتشيو، هناك العديد من الميكروبات، بما في ذلك الفطريات والفيروسات والبكتيريا، تصاحبها الحكة، لكن ليس من الواضح كيف تسبب الحكة.
ويبقى السؤال من وجهة نظر تطورية، ما الذي تستفيد منه البكتيريا من التسبب في الحكة؟ لماذا نشعر بالحكة؟ هل يساعدنا ذلك أمْ أنه يساعد الميكروبات؟ وفقاً لدينغ يمكن للحكة أن تفيد في نقل الميكروبات، ما يسمح لها بالانتشار إلى أجزاء بعيدة من الجسم وإلى مضيفين غير مصابين. لكنها مجرد تكهنات حالياً.