تشكل أمراض القلب ما يُعادل 25% من الأسباب الكامنة وراء وفيات البالغين حول العالم كل عام، إذ يموت نحو 660 ألفاً بسببها. ومن بين العديد من المرضى الذين يعانون من أمراض القلب الحرجة، ينتظر حو 3500 منهم دوره للحصول على قلبٍ جديد من أحد المتبرعين. وفي الوقت الذي يصمد جزء منهم لفترات تصل إلى أكثر من ستة أشهر للحصول على القلب، ينفد الوقت عند جزء منهم قبل أن تصبح عملية الزرع متاحة.
هذه الإحصائيات المقلقة هي التي دفعت إلى البحث عن حلول بديلة واستراتيجيات أكثر فعالية، إضافةً إلى قدرة العضلة القلبية المحدودة على التجدد، وذلك على عكس الأعضاء الأخرى التي يمكنها إصلاح نفسها بدرجات متفاوتة.
لهذا السبب تمت الاستعانة بتكنولوجيا الخلايا الجذعية، أو ما يُسمى بـ "هندسة الأنسجة"، للبحث في إمكانية تصميم خلايا قلبية تحاكي بنية الخلايا القلبية الطبيعية شديدة التنظيم وذات الوظائف المعقدة.
اقرأ أيضاً: لماذا لا يُصاب القلب بالسرطان؟
بناء عضلة قلب الإنسان خطوة بخطوة
طور فريق العالِمة جينيفر لويس في قسم من كلية هارفارد تابع للهندسة والعلوم التطبيقية ومعهد ويس للهندسة البيولوجية في جامعة هارفارد مجموعة من التقنيات الحديثة التي سمحت بتصميم أنسجة تحاكي عمل الأنسجة القلبية، إذ تمحور تركيز العلماء واهتمامهم حول إمكانية إحداث "انقباض" في هذه الأنسجة بالشكل الذي يَسمح للقلب بأداء مهمته على أكمل وجه.
باستخدام "الحبر الحيوي"، تمكن علماء جامعة هارفارد من بناء كتلة عضلية قلبية انطلاقاً من خلايا مُشتقة من الخلايا الجذعية البشرية متعددة القدرات. وتمكنوا من طباعة طبقات من هذه الأنسجة مع المحافظة على وجود تنظيم معقد مشابه إلى حد كبير لتنظيم طبقات عضلة القلب البشرية الفعلية، والأمر المثير للإعجاب أن هذه الطبقات النسيجية ذات خصائص فيزيولوجية فعالة فهي تتقلص وتنقبض بطريقة مشابهة لتلك التي تتقلص بها ألياف القلب البشري الطبيعي، فكيف تمكنوا من ذلك؟
اقرأ أيضاً: ما هي آفاق أول عملية زرع لأذن صُممت باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد؟
في البداية، تم عزل 1050 خلية بدائية، لكل منها عمودين مجهريين، وتم حقن كل من هذه الخلايا بمزيج من خلايا الأرومة الليفية والخلايا الجذعية متعددة القدرات وكولاجين المطرق الخلوي الخارجي. فهذه المركبات أساسية من أجل تطوير خلايا قلبية سليمة متطابقة مناعياً. ومع الوقت تحولت هذه الخلايا إلى أنسجة مجهرية كثيفة ذات معلومات وراثية مُطابقة للخلايا القلبية.
وفي المرحلة التالية "مرحلة الطباعة"، تم توجيه عملية الطباعة باستخدام "قوى الاقتطاع الميكانيكية" وتمت طباعة ألياف عضلية كبيرة، وأخرى أصغر تربط بين كل اثنين من الشعيرات الكبيرة.
هندسة القلب: هل تمكنت ألياف القلب الصناعي من الانقباض؟
تمت متابعة عملية الطباعة لعدة أيام، وبعد قياس ومراقبة القوة الانقباضية للألياف العضلية، وجدوا أن قوة وسرعة الانقباض كانت قد ازدادت على مدى سبعة أيام، ما يدل على أن الألياف القلبية استمرت في النضج حتّى تحولت إلى ألياف شبيهة بالألياف العضلية.
قالت مؤلفة الورقة البحثية والعالِمة والمهندسة في العلوم التطبيقية في جامعة هارفارد "جينيفر لويس": "إن القدرة على محاكاة نظام عضلي قابل للانقباض، انطلاقاً من الخلايا الفردية إلى الأنسجة القلبية السميكة المكونة من طبقات متعددة، أمر أساسي وجوهري لإيجاد علاج بديل ومنقذ للأشخاص الذين لا يستطيعون انتظار أشهر على لوائح زراعة القلب".
تم تصميم تركيب نسيجي قلبي ذو كثافة خلوية عالية نموذجية مشتقة من الخلايا الجذعية والأرومات الليفية وذلك باستخدام الطابعة ثلاثية الأبعاد والحبر الحيوي، حيث عرّفوا هذه العملية باسم "الكتابة في الأنسجة الوظيفية". توفر هذه العملية أيضاً القدرة على معالجة بعض التحديات التي تواجه هندسة الأنسجة ألا وهي إنشاء وتصميم شبكة الأوعية الدموية الداعمة للأنسجة الجديدة.
اقرأ أيضاً: القلب الصناعي: تاريخ طويل من البحث عن قلب دائم
يقول "جون آرينز" طالب الدراسات العليا في الهندسة النسيجية وعضو من فريق العالمة لويس: "أردنا معالجة الكثافة الخلوية ومقياس الأنسجة بمساعدة البرمجة والذكاء الاصطناعي، حتّى تصبح مُطابِقة للبنية الدقيقة لعضلة القلب". وأضاف: "نحن نقترب في كل مرة أكثر فأكثر من هندسة أنسجة القلب الوظيفية للإصلاح أو الاستبدال".
اقرأ أيضاً: بعد تحديد الخلايا المسؤولة عن إصلاح القلب لنفسه: ما هي الآفاق المستقبلية لعلاج الأمراض القلبية؟
متى سنشهد زراعة أول قلب صناعي؟
من حيث المبدأ، يمكن للخلايا الجذعية متعددة القدرات أن تزود القلب الجديد بكافة أنواع الخلايا التي يتكون منها القلب الطبيعي، بما في ذلك الخلايا الوعائية. لكن من الناحية العملية، توجد بعض المشكلات التي لا يمكن تجاوزها وعلى رأسها الحجم الهائل لقلب الإنسان، فصنع ألف خلية شيئ، وصنع 100 مليون أو 50 مليار خلية شيء آخر تماماً.
أحد العوائق التي تواجه الباحثين هي أنهم لا يعلمون فيما إذا كانت أنواع الخلايا الصحيحة ستنمو بالشكل المتوقع عند استخدام الخلايا الجذعية للوصول إلى حجم قلب فرد صحيح بالغ. كما أن سلامة الأوعية الدموية مُشكلة جوهرية، فما زالت هذه الأنسجة تعمل كأرض خصبة للجلطات الدموية القاتلة، وينبغي إيجاد طريقة لتصميم بطانة سليمة لا تُحرض حدوث الجلطات الدموية.
اقرأ أيضاً: كيف تعزز الرياضة من صحة العضلة القلبية؟ وما خصوصية ممارستها عند مرضى القلب؟
على الرغم من كون زرع أول قلب صناعي أولوية هذا البحث، إلا أن ما توصل إليه الباحثون حتى الآن قد ساهم في تطبيقات طبية أخرى، كإنشاء رقعة عضلية قلبية لاستبدال الندب والأنسجة الليفية غير المرنة الناجمة عن نوب الاحتشاء. كما تُستخدم لإغلاق الفوهات غير الطبيعية في قلوب الأطفال المولودين بعيوب القلب الخلقية، وخاصةً أن الأنسجة التي تم تصميمها تمتلك خاصية النضج والنمو مع التقدم بالعمر كأي نسيج طبيعي آخر، الأمر الذي لا يستلزم استبدال هذه الرقع مع نمو الطفل، على عكس الرقع الصناعية المُستخدمة سابقاً.