الغبار الكوني أقدم من البشر والأرض، حتى إنه أقدم من الشمس.
بمرور الوقت، تجمّعت جزيئات كثيرة من الغبار الكوني في كواكب النظام الشمسي، ثم تحولت هذه الأجرام إلى الشمس والكواكب والأقمار التي نعرفها اليوم، بينما بقي بعض ذلك الغبار بشكله الأصلي نقياً ومحصوراً في أماكن مثل النيازك القديمة، ويطلق عليه العلماء اسم الغبار ما قبل الشمسي، لأنه تشكل قبل نشأة الشمس.
يحتوي بعض ذرات الغبار ما قبل الشمسي على أجزاء صغيرة من الكربون، مثل الماس أو الغرافيت، بينما يحتوي بعضها الآخر على مجموعة من العناصر الأخرى مثل السيليكون أو التيتانيوم، ويحتوي أحد أشكال هذه الذرات على مادة غريبة شديدة الصلابة تسمى كربيد التيتانيوم (titanium carbide)، وتستخدم في صناعة الآلات على كوكب الأرض.
تشكيل ذرات غبار التيتانيوم
ويعتقد علماء الفيزياء والمهندسون اليوم أنهم توصلوا إلى طريقة تشكل ذرات الغبار هذه. في دراسة نُشرت بتاريخ 13 يناير/ كانون الثاني في مجلة ساينس أدفانسز (Science Advances)، يعتقد الباحثون أنهم يستطيعون استخدام هذه المعلومات لصنع مواد أكثر متانة على كوكب الأرض.
غالباً ما تكون ذرات الغبار هذه أصغر من عرض شعرة الإنسان، وهي نادرة جداً. يقول عالم الفيزياء الفلكية في معهد كارنيغي للعلوم في العاصمة واشنطن، ينس باروش، والذي لم يشارك في تأليف الدراسة: "كانت هذه الذرات موجودة عندما تشكل النظام الشمسي ولم تتأثر به، ويمكن العثور عليها الآن في أجرام النظام الشمسي الأولية، مثل النيازك".
اقرأ أيضاً: ناسا تنشر صوراً مذهلة من تلسكوب جيمس ويب الفضائي لأعماق الكون
فحص مؤلفو الدراسة نوعاً فريداً من ذرات الغبار المؤلفة من قشرة من الغرافيت تغلف نواة من كربيد التيتانيوم، وهو مركب من مادتي التيتانيوم والكربون اللتين تشكلان مادة متينة تشبه السيراميك وصلبة كالماس. في بعض الأحيان، تتجمع العشرات أو حتى المئات من هذه النوى المغطاة بالكربون معاً في ذرات أكبر.
ولكن كيف تشكلت ذرات غبار كربيد التيتانيوم في الأصل؟ لم يستطع العلماء معرفة ذلك حتى الآن، لأن اختبار هذه الذرات على كوكب الأرض صعب جداً بسبب تأثير الجاذبية. لكن يمكن للعلماء الآن إجراء تلك الاختبارات في مكان لا تشكل فيه الجاذبية أي مشكلة؛.
تجارب على متن صاروخ
فقد أُطلق صاروخ تجارب في 24 يونيو/ حزيران عام 2019 من مدينة كيرونا السويدية الشديدة البرودة في شمال الدائرة القطبية الشمالية، ولكنه لم يصل إلى مداره، بل اتخذ مساراً منحنياً عبر السماء كغيره من الصواريخ التي أُطلقت قبله وبعده، وبلغ ذروته على ارتفاع 241 كيلومتراً تقريباً، قبل أن يعود إلى الأرض.
ومع ذلك، فقد كانت تلك الرحلة القصيرة كافية لتجمع مكونات الصاروخ بعض المعلومات عن ظروف الجاذبية الصغرى التي يتعرض لها رواد الفضاء في المدار. تشمل هذه المكونات أداة خاصة يجمع العلماء داخلها ذرات الغبار ويسجلون العملية.
يقول أحد مؤلفي الورقة البحثية، عالم الفيزياء في جامعة هوكايدو في اليابان، يوكي كيمورا: "تجارب الجاذبية الصغرى ضرورية لفهم كيفية تشكل الغبار".
بعد 3 ساعات تقريباً من إطلاق الصاروخ الذي واجه فيها الجاذبية الصغرى مدة 6 دقائق ونصف، سقط الصاروخ على بعد 74 كيلومتراً تقريباً من موقع الإطلاق. أرسل كيمورا وزملاؤه ذرات الغبار التي تم جمعها إلى اليابان لتحليلها، ومن خلال هذه الصور والاختبارات اللاحقة التي جرت في مختبر إيرث باوند (Earthbound lab)، أعدّ الفريق طريقة لصنع ذرات غبار كربيد التيتانيوم.
أولاً، نحتاج لنواة من ذرات الكربون في شكل الغرافيت؛ ثانياً، ننثر التيتانيوم على نوى الكربون حتى تختلط وتشكل كربيد التيتانيوم؛ ثالثاً، ندمج العديد من هذه النوى ونغلفها بالغرافيت حتى نحصل على ذرات ذات حجم جيد.
اقرأ أيضاً: كيف يقترب المهندسون من تحقيق قفزة على مستوى أجهزة القياس؟
فوائد لتصنيع الجسيمات النانوية
من المثير للاهتمام أن نأخذ فكرة عن كيفية تشكل هذه الأشياء القديمة، لكن علماء الفلك ليسوا وحدهم من يهتمون بذلك، إذ يعتقد كيمورا وزملاؤه أن فهم هذه العملية يمكن أن يساعد المهندسين والبنائين في صنع مواد أكثر متانة على كوكب الأرض، لأننا بالفعل نصنع منذ عقود جسيمات لا تختلف كثيراً عن ذرات الغبار
يطلق عليها اسم الجسيمات النانوية، ويمكن للعلماء إدخال هذه الجسيمات في صناعة البوليمرات، مثل البلاستيك، لتعزيز متانتها. كما يمكن لبنّائي الطرق استخدامها لتعزيز متانة الإسفلت. ويمكن للأطباء الاستفادة منها في صنع الأدوية، أو المساعدة في تصوير الأجزاء التي تصعب رؤيتها في جسم الإنسان.
يصنع المهندسون الجسيمات النانوية عادة عن طريق زراعتها داخل محلول سائل، يقول كيمورا: "تولّد هذه الطريقة آثاراً بيئية خطِرة، مثل النفايات السائلة"، ومن الممكن أن يساعد الغبار الكوني في تقليص حجم هذه النفايات.
يستخدم مصممو الآلات بالفعل أدوات مدعّمة بطبقة من جزيئات كربيد التيتانيوم النانوية، فمركب كربيد التيتانيوم يشبه الماس في صلابته، ويساعد في عملية القص بقوة أكبر، لذا، من الممكن أن يسهم هذا المركب المستوحى من الغبار النجمي في صنع المركبات الفضائية يوماً ما.