تسببت جائحة المواد الأفيونية بنحو 645 ألف وفية في الولايات المتحدة منذ عام 1999، وهو رقم لا شك في أنه سيكون أعلى لولا النالوكسون، مضاد المواد الأفيونية القادر على عكس آثار الجرعة الزائدة بفعالية. مع ذلك، فإن توقيت إطلاق النالوكسون عامل بالغ الأهمية، وإذا لم يتلق المريض هذا العقار في الوقت المناسب، فإن فرصه في البقاء على قيد الحياة تنخفض بسرعة. وصف فريق من الباحثين في ورقة بحثية نشرتها مجلة ديفايس (Device) بتاريخ 14 أغسطس/آب 2024 جهازاً مصمماً للكشف عن علامات الجرعة الزائدة وإطلاق جرعة من النالوكسون تلقائياً خلال زمن أقل من 10 ثوانٍ.
اقرأ أيضاً: وداعاً للمسكنات الأفيونية: ابتكار أول زرعة تحارب الألم دون أدوية
نظام السلامة من المواد الأفيونية القابل للزرع
يحمل هذا الجهاز، الذي يصفه الباحثون بأنه "مستجيب أول روبوتي" اسم "نظام السلامة من المواد الأفيونية القابل للزرع" (أو آي إس أو إس). الجهاز الجديد قابل للزرع تحت جلد المستخدم، مثل أجهزة مراقبة القلب. يتيح ذلك مراقبة المؤشرات الحيوية بدقة أكبر من الأجهزة القابلة للارتداء المتاحة حالياً.
تحمّل المواد الأفيونية هو من العواقب التي تواجه استخدام أي نوع من الأجهزة المؤتمتة، ففي حين أن تحديد نسبة المواد الأفيونية في دم المستخدم قد يبدو وسيلة بسيطة للكشف عن خطر الإصابة بالجرعة الزائدة، فإن المستويات التي تتسبب بوفاة الأشخاص الذين لا يتلقون الأفيون يومياً على نحو مزمن قد لا تظهر لدى الذين يعانون الإدمان الطويل المدى. لذلك، تعتمد أغلبية أجهزة كشف الجرعات الزائدة على مراقبة معدل ضربات قلب المستخدم أو معدل تنفسه أو مستوى الأوكسجين في الدم. لسوء الحظ، هذه هي مؤشرات حيوية تتأثر بمختلف أنواع العوامل، ما يجعل هذه الأجهزة عرضة لتوليد نتائج إيجابية كاذبة.
كيف يعمل جهاز آي إس أو إس؟
يقول المؤلف المشارك للورقة البحثية، جيوفاني ترافيرسو، لبوبيولار ساينس إنه بدلاً من مراقبة مؤشّر حيوي واحد، يعتمد جهاز آي إس أو إس الجديد على أجهزة استشعار متعددة، منها جهاز لتخطيط القلب وجهاز استشعار يراقب نسب الأوكسجين في الدم وجهاز لمراقبة معدل ضربات القلب ومقياس لدرجة حرارة الجسم، والعديد من الميزات الأخرى. تنسّق عمل هذه الأجهزة جميعها وحدة معالجة مركزية بسرعة 64 ميغاهرتز من شركة أيه آر إم (ARM)، وهي تجمّع هذه البيانات وتعالجها. يقول ترافيرسو: "يتيح لنا دمج عدد من أجهزة الاستشعار معاً للتوصل إلى مؤشر حيوي فيزيولوجي للتسمم الأفيوني المبكر والجرعة الزائدة الكشف بدقة عن حالات الجرعة الزائدة من المواد الأفيونية وإطلاق النالوكسون على نحو سليم".
لاحظ الباحثون في الاختبارات الأولية التي أجروها على الخنازير أن نظام آي إس أو إس يعكس آثار الجرعات الزائدة في 96% من الحالات. يستطيع الجهاز الجديد التمييز بين الجرعات الزائدة "السريعة" و"البطيئة"، التي لها أعراض مختلفة. على الرغم من أن تصميم الوحدة متطور، ليس من المستحيل أن تولد النتائج الإيجابية الكاذبة في بعض الحالات. على سبيل المثال، يؤدي انقطاع النفس النومي إلى انخفاض نسب الأوكسجين في الدم وانخفاض معدل ضربات القلب وأعراض أخرى تشبه أعراض بداية الجرعة الزائدة من المواد الأفيونية. هل يستطيع الجهاز الجديد التمييز بين انخفاض تشبع الأوكسجين في الدم الناجم عن أن جهاز قياس ضغط المجرى الھوائي الإيجابي (CPAP) على وشك أن يتفعّل، وانخفاضه بسبب تناول جرعة زائدة من الفينتانيل؟
اقرأ أيضاً: كيف تساعد التشريعات الحكومية على الأمن الدوائي ووصول الدواء إلى الجميع؟
نتائج إيجابية كاذبة محتملة
يعترف ترافيرسو بأن الجهاز الجديد قد يولد النتائج الإيجابية الكاذبة، ويقول: "لا شك في أن انقطاع النفس النومي قد يتسبب بظهور إشارات فيزيولوجية مشابهة لتلك الناجمة عن الجرعة الزائدة من المواد الأفيونية. تشمل الحالات الأخرى ذات الصلة التسمم بالبنزوديازيبين، خاصة أن الأفراد الذين يعانون اضطراب تعاطي المواد الأفيونية قد يعانون أيضاً الاضطرابات المرتبطة بتعاطي المواد المخدرة الأخرى". وفقاً لترافيرسو، وضع الفريق هذه الحالات في الاعتبار عند تصميم خوارزميات الجهاز الجديد؛ إذ يقول: "تميّز الخوارزميات بين هذه السيناريوهات من خلال تحليل الاستجابة الديناميكية لمعدل ضربات القلب وإشارات التنفس".
لدى لمستخدمين مهلة قصيرة تتراوح بين 10 و30 ثانية لإيقاف عمل النظام القابل للزرع إذا ولّد الجهاز نتيجة إيجابية كاذبة، ويعتمد ذلك على إن كشف الجهاز جرعة زائدة بطيئة أو سريعة. يستطيع المستخدمون فعل ذلك من خلال تطبيق مخصص للهواتف الذكية، ويقول ترافيرسو: "يحتوي الجهاز أيضاً على نظام تنبيه مدمج مع إشارات سمعية ولمسية لإيقاظ المستخدم، ما يوفر حلاً بديلاً لأولئك الذين لا يمتلكون الهواتف الذكية أو في الحالات التي ينفد فيها شحن بطاريات الهواتف".
بخلاف ذلك، يطلق جهاز آي إس أو إس مخزونه من النالوكسون في جسم المستخدم، وتبلغ الكمية 10 ملليغرام يطلقها الجهاز تحت الجلد خلال ما يصل إلى 10 ثوان. يقول ترافيرسو إن هذه الجرعة "أعلى بكثير من الجرعات الأنفية النموذجية، مثل جرعات البخاخات الأنفية التجارية التي تحتوي على مادة النالوكسون، التي تبلغ عادة 4 ملليغرامات". يقول ترافيرسو إن الفريق اختار رفع الجرعة لحل المشكلة المتفاقمة المتمثلة في جرعات الفينتانيل الزائدة، التي يتطلب عكس آثارها في الكثير من الأحيان تناول أكثر من جرعة واحدة من رذاذ الأنف. على الرغم من أن أجهزة آي إس أو إس تحتوي حالياً على هذه الجرعة الكبيرة، يقول ترافيرسو إنه يمكن تزويد الأجهزة بجرعات متعددة من محلول النالوكسون الأكثر تركيزاً، ما يتيح إطلاق جرعات متكررة إذا فشلت الجرعة الأولى في إنعاش المستخدم.
الوقاية من الوفاة بسبب الجرعة الزائدة
لسوء الحظ، حتى جرعة واحدة تبلغ 10 ملليغرامات قد تكون لها آثار سلبية في المستخدمين في بعض الحالات، وكلما زادت جرعة النالوكسون، ازداد خطر إدخال المستخدم في حالة الانسحاب المسرّع. يتفق ترافيرسو على أن هذا خطير، لكنه يقول: "نتفق على أن حالة الانسحاب المسرّع مزعجة، لكنها أفضل من حالة الجرعة الزائدة التي قد تؤدي إلى الوفاة. تتمثل وظيفة الجهاز في الوقاية من الوفاة بسبب الجرعة الزائدة، وليس في تخفيف أعراض الانسحاب. قد تتسبب أغلبية جرعات النالوكسون الأنفية الإنقاذية ببعض أعراض انسحاب المواد الأفيونية".
سواء أدى تناول عقار النالوكسون إلى الدخول في حالة الانسحاب المسرع أم لا، فإن مستخدمي المواد الأفيونية الذين ينجون من الوفاة بفضل العقار يحتاجون غالباً إلى رعاية طبية في أعقاب الجرعة الزائدة. وفقاً لترافيرسو، على الرغم من أن الجهاز وتطبيق الهاتف الذكي المرتبط به لا يتيحان حالياً الاتصال المؤتمت بمسؤولي الاستجابة الأولية، فإن تزويد النظام بمثل هذه الميزة ممكن بالتأكيد؛ إذ يقول: "بينما تتمثل وظيفة الجهاز الرئيسية في تحسس الجرعات الزائدة وإطلاق النالوكسون، من المفترض أن ربط الجهاز بتطبيق الهاتف الذكي قد يتيح إضافة ميزات مثل الاتصال بمسؤولي الاستجابة الأولية، ونتصور أيضاً أن الجهاز سيوثق حدث كشف الجرعات الزائدة، ما سيتيح تقديم استشارات سلوكية أكثر تخصيصاً للأفراد الذين يخضعون لعلاج اضطراب تعاطي المواد الأفيونية مع التركيز على الوعي بأحداث الجرعة الزائدة".
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تربط بين استهلاك دواء للسكري وانخفاض خطر الإصابة بسرطان الدم
بطبيعة الحال، المشكلة الكبيرة التي يتجاهلها الجميع فيما يتعلق بالأجهزة مثل آي إس أو إس، خاصة في سياق النظام الصحي التمييزي في الولايات الأميركية، هي التكلفة. وفقاً لترافيرسو، فهو ليس لديه فكرة واضحة حالياً عن تكلفة الجهاز؛ إذ يقول: لم نحدد التكلفة الدقيقة للجهاز بعد، وستركّز الأبحاث المستقبلية على تحسين عملية التصنيع وتوسيع الإنتاج، ما سيساعد على تحديد التكلفة النهائية.
مع ذلك، نتوقع أن يكون استخدام هذا الجهاز ملائماً من حيث التكلفة، خاصة بالنظر إلى قدرته على إنقاذ الأرواح وخفض نسبة انتشار الحالات المرضية المرتبطة بالجرعات الزائدة من المواد الأفيونية. الفوائد الطويلة الأمد المتمثلة في الوقاية من الجرعات الزائدة المميتة وخفض تكاليف الرعاية الصحية المرتبطة بعلاج الجرعات الزائدة هي عوامل مهمة تعزز قيمة هذه التكنولوجيا".