الحرير هو نسيج مذهل، ولكنه يعتبر أيضاً مادة لها استخدامات عديدة. في أقوى حالاته، يمكن أن يكون الحرير أكثر متانة من الفولاذ عند شدّه. وإذا تمكّنا من الحصول على الحرير عالي الجودة، يمكننا صنع أجهزة استشعار الجسم والدروع الحريرية الواقية.
لكن هنا تكمن المشكلة، إذ إن الحصول على ما يكفي من الحرير صعب للغاية.
حرير العناكب الأمتن على الإطلاق
تصنع العناكب أمتن خيوط الحرير المعروفة. لكن لسوء الحظ، لا يمكن الحصول على حرير العناكب بسهولة، إذ إن تجميع ما يكفي منه لمعظم الاستعمالات يعتبر أمراً صعباً للغاية، إلا إذا وجدنا بديلاً له غير معروف حالياً. لكن من المحتمل أن العلماء قد وجدوا فعلاً مادة بديلة. وصف العلماء هذه المادة في ورقة بحثية نشرت بتاريخ 6 أكتوبر/ تشرين/ الأول 2022 في مجلة ماتر، وتمكّنوا من الحصول عليها من خلال معالجة الحرير الأضعف ولكن الأكثر انتشاراً الذي تصنعه ديدان القز بهدف جعله أقوى من حرير العناكب.
قالت عالمة الكيمياء الحيوية في جامعة تيانجين في شمال الصين، جي لين (Zhi Lin)، وهي واحدة من مؤلفي الدراسة الجديدة، في بيان صحفي: "نأمل أن تساهم الطرق التي اتبعناها في دراستنا في تطوير سبل واعدة لإنتاج الحرير الاصطناعي المربح وعالي الجودة".
تعتبر ديدان عث الحرير المستأنس التي تحمل اسم ديدان القز أغزر المصادر إنتاجاً للحرير. يبدو أن البشر الذين عاشوا في المناطق التي أصبحت اليوم جزءاً من الصين استأنسوا ديدان القز منذ نحو 6 آلاف سنة. واشتهرت المواد التي نسجوها باستخدام الحرير الذي تصنعه هذه الحيوانات حول العالم كسلع فاخرة. سمي طريق الحرير نسبةً للحرير الذي أنتجته هذه الجماعات البشرية، وهو شبكة من الطرق التجارية التي ربطت بين الشعوب والثقافات عبر قارة أوراسيا القديمة لقرون من الزمن. تم استخدام الحرير أيضاً في أقدم حدث تجسس صناعي موثق في التاريخ، والذي هرّب فيه راهبان بيزنطيان ديدان القز غرباً على طريق الحرير من خلال إخفائها في عصي القصب المجوفة.
ولكن حتى في فترة ما قبل الحداثة، كان البشر يعرفون أن الحرير الذي تصنعه ديدان القز ليس الحرير الأعلى جودة. تصنع الديدان الحرير لصنع الشرانق، ويعتبر هذا الحرير فعّالاً في صنع المنسوجات، لكنه لا يمتلك خصائص المرونة المرغوبة. بالإضافة لذلك، لا تصنع ديدان القز الكثير من الحرير؛ إذ يتطلب إنتاج نحو نصف كيلوغرام من الحرير مئات الديدان. كما أن جمع الحرير يتطلب عادة قتل الديدان.
حيوانات أخرى تصنع الحرير
تصنع الكثير من الحيوانات حول العالم الحرير، مثل أسماك الشبّوط وبلح البحر والعديد من أنواع الحشرات وغيرها الكثير. لكن العناكب تصنع الحرير الأكثر متانة. تستطيع العناكب صنع عدة أنواع مختلفة من الحرير، ويعتمد ذلك على الوظيفة التي ستؤديها هذه المادة؛ إذ تستخدم العناكب نوعاً لصنع أكياس البيوض، ونوعاً آخر لصيد الفرائس.
لماذا لا يُستخدم حرير العناكب على مستوى تجاري؟
إذا تساءلت لماذا لا يستخدم المهندسون حرير العناكب لصنع كابلات الجسور. فهناك سبب وجيه. لا يوجد ما يكفي من حرير العناكب للاستخدامات الصناعية. قال عالم المواد في كلية ويليام آند ماري في ولاية فيرجينيا، هانيس شنيب (Hannes Schniepp)، والذي يدرس مختبره أنواع الحرير الشبيهة بالشرائط التي تصنعها عنكبوت الناسك البني السامة (ولم يشارك في الدراسة الجديدة): "يعتبر الحصول على حرير العناكب صعباً للغاية".
قبل أكثر من عقد من الزمن، استخدمت شركات تصنيع منسوجات الحرير التي صنعتها أكثر من مليون عنكبوت لنسج قطعة قماشية بطول 3 أمتار وعرض متر واحد فقط. إن الحصول على مليون عنكبوت ليس بالأمر السهل، نظراً لأن استئناس العناكب صعب للغاية، إذ إنها كائنات عدوانية للغاية وتدافع بشراسة عن مواطنها.
من المحتمل وجود بعض الطرق التي يمكن للعلماء من خلالها صنع الحرير دون اللجوء للحيوانات. ولكن لم يتقن العلماء أياً من هذه الطرق بعد. تحاول بعض الشركات الناشئة حالياً القيام بذلك. ولكن على الرغم من أنها وعدت بإنتاج كميات كبيرة من الحرير، لم ترقَ منتجاتها تماماً لمستوى خصائص الحرير العضوي المثير للإعجاب.
محاولات لإنتاج حرير بجودة حرير العناكب من دود القز
حاول العلماء تطبيق عدد من الطرق لصنع الحرير الذي يمتلك نفس خواص حرير العناكب. تتضمن إحدى الطرق الحديثة حقن حمض العناكب النووي في ديدان القز. ومؤخراً، تعاون العلماء من عدد من المعاهد الصينية لإنشاء خرائط لجينوم ديدان القز لتحقيق هذا الهدف. لكنهم لم ينجحوا في إنتاج الحرير الاصطناعي عالي الجودة.
اتّبع العلماء الذي ألّفوا الدراسة الجديدة مقاربة مختلفة، وهي تتضمن نسج حرير ديدان القز بالطريقة التي تتّبعها العناكب.
يتألف الحرير الذي تصنعه ديدان القز عادة من ألياف البروتين المغلفة بمادة تشبه الغراء. تساعد هذه المادة الألياف الحريرية في الالتصاق ببعضها على شكل شرانق، ولكنها تعيق عملية نسجها. لذلك، تعين على الباحثين التخلص من هذه المادة، وقاموا بذلك من خلال غسل الألياف في حمض يحمل اسم الإيزوبروبانول سداسي الفلور (هيكسافلوروإزوبروبانول)، وهي مادة يستخدمها علماء الكيمياء العضوية عادة لتذويب البروتينات.
بعد عملية الغسل الأولى، تم غسل الألياف أيضاً بمحلول من الزنك وأيونات الحديد، والتي ارتبطت بالألياف وزادت من متانتها. استخدم الباحثون في عملية الغسل الثانية آلة مصممة خصيصاً لنسج الألياف، والتي تقوم بشد كل منها وتزيد من طولها ليبلغ 3 أضعاف طولها الأصلي.
بعد تجفيف الخيوط، حصل الباحثون على ألياف حريرية لا تطابق مقاومة الشد التي تتمتع بها تلك التي يتمتع بها حرير العناكب فقط، بل تتجاوزها. بعد اختبار الألياف الجديدة، وجد العلماء أنها أقوى من حرير السحب الذي تصنعه العناكب بنسبة 70%، على الرغم من أن شكلها مطابق تماماً لشكله. لاحظ العلماء أيضاً أن الألياف الجديدة أقوى بمرتين من الحرير الطبيعي الذي تصنعه ديدان القز بعد إزالة المادة اللاصقة منه.
تقول لين: "تثبت مكتشفاتنا أن حرير ديدان القز يمكن بالفعل أن ينافس حرير العناكب من ناحية الأداء الميكانيكي".
وفقاً لشنيب، الطريقة التي استخدمها الباحثون في الدراسة ليست جديدة تماماً. إذ حاول العلماء الذين يدرسون الحرير إيجاد طرق لتحسين خواص حرير ديدان القز لزمن طويل. لكن لم يتمكّن هؤلاء من صنع "حرير ديدان القز الذي يعتبر أداؤه أفضل من حرير العناكب. وهو أمر لم أتوقع أبداً أن يكون بهذه السهولة"، حسب تعبير شنيب.
لا يحل النهج الذي اتبعه الباحثون في الدراسة الجديدة جميع المشكلات التي تواجه توسيع نطاق تصنيع الحرير. إذ إنه لا يزال معتمداً على الحصول على الحرير من ديدان القز بدلاً من تركيب البروتينات في المختبر كما يفعل بعض الباحثين. بالإضافة إلى ذلك، لا يعتبر الإيزوبروبانول سداسي الفلور ملائماً لعمليات الإنتاج واسع النطاق؛ إذ إنه مكلف وسام للغاية.
لكن يقول العلماء إن الدراسة الجديدة قد تمثل حجر أساس يعتمد عليه الباحثون في المستقبل.