منذ نحو عقد من الزمن، تمكّن رجل يبلغ من العمر 25 عاماً من ولاية أوريغون، ويُدعى روب سامرز، من السير مجدداً على جهاز المشي بعد 6 سنوات منذ أن صدمه سائق مخمور وسبب له شللاً في الأطراف السفلية. وفقاً لما ذكرته مجلة العلوم للعموم في عام 2011، كان سامرز من بين أوائل مرضى الشلل الذين حصلوا على جهاز كهربائي تجريبي عبارة عن محفّز كهربائي ساعده في استعادة قدرته على المشي بعد عامين من التدريب.
تنشيط الدارات العصبية الشوكية بزرع مجموعة أقطاب كهربائية
وجد الباحثون أن زرع مجموعة أقطاب كهربائية في أسفل ظهور المرضى يمكن أن ينشط الدارات العصبية الشوكية بطريقة تؤدي لاستعادة الوظيفة الحركية. تعمل الغرسات الإبرية على إيصال التيار الكهربائي مباشرة إلى مواقع محددة على طول العمود الفقري. ومع ذلك، فإن دور هذه النبضات الكهربائية في استعادة القدرة على المشي لا يزال لغزاً عصبياً يحير الباحثين.
في الواقع، يمكن أن تؤدي إصابة الحبل الشوكي إلى قطع الاتصال بين أطراف المصاب ودماغه، ما يفقده القدرة على تحريك أطرافه في بعض الحالات. لكي ينجح التحفيز الكهربائي في استعادة هذه القدرة، يجب على الخلايا في الجهاز العصبي للنخاع الشوكي إعادة تنظيم نفسها بطريقة تمكنها من معالجة الإشارات الكهربائية، وفقاً لما يفترضه العلماء الذين يقودون هذه التجارب. إذا تمكن الأطباء من تحديد كيف يتم ذلك ولماذا، يمكنهم تطبيق العلاج على المزيد من أنواع الشلل، وربما حتى تجديد الخلايا التالفة يوماً ما.
اقرأ أيضاً: هل سيصبح الشلل مرضاً قابلاً للعلاج بفضل التحفيز الكهربائي العصبي؟
الفجوات في علم الأعصاب
في السنوات الأخيرة، واصل الأطباء اختبار غرسات العمود الفقري، وفي بعض الحالات أدخلوا تحسينات على تصميمها. تقدم دراسة أجراها فريق دولي من الباحثين على الفئران، ونُشرت نتائجها في مجلة نيتشر في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني، دليلاً على التغييرات التي تحدث في الفقرات، حيث وجدوا أن بمقدور الإشارات الكهربائية التي تقوم الأقطاب بتوصيلها إثارة نشاط نوعٍ معين من العصبونات الموجودة في الأعصاب المحيطة بالحبل الشوكي. ويشير هؤلاء العلماء إلى أن هذه العصبونات ليست ضرورية عادةً لمساعدة القوارض في المشي، ولا يتم تنشيطها بغرض المشي إلا بعد العلاج بالتحفيز الكهربائي. كما أكدت الدراسة أن التحفيز الكهربائي أعاد القدرة على المشي عند 9 أشخاص مصابين بالشلل المزمن تم تصوير عمودهم الفقري باستخدام تكنولوجيا التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET) لقياس النشاط الخلوي.
تقول الأستاذة في جامعة فيينا الطبية والتي تدرس الطريقة التي تتحكم بها أجسامنا في الحركة، وغير المشاركة في الدراسة، أورسولا هوفستويتر: "يُعد تحديد هذه الخلايا خطوة مهمة لفهم كيفية تحكّم الحبل الشوكي في الحركة بشكلٍ أفضل، وكيف يمكن لهذا العلاج تحسين وظيفة المشي بعد إصابات الحبل الشوكي الشديدة". وتضيف أن النتائج ربما تقود إلى ابتكار عقاقير تستهدف هذه الخلايا العصبية في المستقبل.
يمكن لرسم خرائط للخلايا التي يتم تنشيطها والجينات التي تعبّر عنها أن يتيح للعلماء فهم كيف يعيد الحبل الشوكي تنظيم الشبكات الخلوية بعد الإصابة (حدد العلماء في حالة نموذج الفأر جيناً في العصبونات التي تُعرف بـ Vsx2)، وهذا هو المبدأ وراء علاج "التحفيز الكهربائي للمنطقة فوق الجافية"، والطريقة التي ساعدت سامرز و9 مرضى على المشي في الدراسة الجديدة. يشير مصطلح "فوق الجافية" (Epidural) إلى الحيّز الموجود بين النخاع الشوكي والعمود الفقري، ومن المتعارف عليه بالنسبة للأطباء أنه الموقع الأفضل لإعطاء المرأة الحامل المخدر أثناء المخاض.
اقرأ أيضاً: أذرع صناعية ذكية تبث الأمل في مريض الشلل الرباعي
يظهر لدى المرضى الذين يتلقون هذا النوع من التحفيز نمط غير عادي في أنظمة الأعصاب الشوكية، وقد يؤدي هذا النمط إلى تحسن حركتهم حتى بعد إيقاف التحفيز. ويقول عالم ما بعد الدكتوراة في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا ومؤلف الدراسة، جوردان سكوير: «بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المستوى العام لنشاط الخلايا في شبكات العمود الفقري العصبية يتناقص. تصبح الخلايا العصبية الشوكية بصورة أساسية أكثر كفاءة مقارنة بفترة بدء إعادة التأهيل، ولم تعد بحاجة إلى تنشيط مجموعة كاملة من الخلايا للقيام بوظيفة الحركة».
دفع ذلك سكوير وزملاءه إلى التحقق من العصبونات التي ينتهي بها المطاف إلى تولي زمام المبادرة. يقول جراح الأعصاب في جامعة كاليفورنيا بإيرفين، مايكل أوه: «في الواقع، تضطرب الدارات العصبية السليمة بعد إصابة الحبل الشوكي. من المرجح أن تكون الخلايا المُنشطة التي تم تحديدها في هذه الدراسة وسيطاً بين العصبونات المسؤولة عن الإحساس وتلك التي تتحكم في الحركة، ما يعمل على تخفيف هذا الاضطراب وتبسيط عمل هذه الدارات».
ويعتقد سكوير أن هذه الأنواع من العصبونات تتحكم في وظائف أخرى غير وظيفة المشي. لقد أثبتت ورقة بحثية نُشرت في عام 2021 في مجلة نيتشر وشارك فيها العديد من القائمين على الدراسة الجديدة أن علاج التحفيز الكهربائي فوق الجافية يمكن أن يساعد في تنظيم ضغط الدم لدى مرضى الشلل.
وتقول هوفستويتر إن التحفيز الكهربائي فوق الجافية كان ناجحاً للغاية في دراسات الحالة، ووصل التعافي للأشخاص الذين يعانون من إصابة شديدة في النخاع الشوكي إلى مستويات كانت يُعتقد في السابق أنها مستحيلة.
اقرأ أيضاً: بناءً على أبحاث اليوم: ما أبرز التطورات الطبية المتوقعة من الآن وحتى عام 2030؟
ماذا عن المحفّز؟
في معظم الحالات، بما فيها حالات 6 مرضى في الدراسة الأحدث المنشورة في مجلة نيتشر، تم اعتماد مصفوفات الأقطاب الكهربائية المزروعة من أجهزة مصممة أصلاً لعلاج ألم الاعتلال العصبي. بينما استخدم 3 مرضى في هذه الدراسة جهازاً تجريبياً كانت شركة "أونورد ميديكال" (Onward Medical) تطوره حالياً، واستند إلى بحث أجرته شركة "نيورو ريستور" (NeuroRestore) السويسرية، وكان سكوير مشاركاً فيه.
يقول سكوير: «نظراً لأن هذا الجهاز مصمم خصيصاً لاستعادة الوظيفة لدى مرضى الشلل، يمكنه استعادة الإحساس بشكل أسرع من الغرسات القديمة». ويضيف: «إذا ما أردنا تنشيط عضلات معينة، يجب أن نستهدف المكان الصحيح المرتبط بها على الحبل الشوكي، والأقطاب المصممة في الأصل لتخفيف ألم الاعتلال العصبي لا توفر هذه الإمكانية». يمكن أيضاً برمجة غرسات التحفيز الحديثة لتوليد إشارات متزامنة مع نمط الحركة.
وتوافق هوفستويتر على أن الغرسات الجديدة أكثر تطوراً وتكنولوجيا متطورة حقاً مقارنة بنسخة الغرسات المخصصة لتخفيف آلام الاعتلال العصبي. لكنها تشير إلى أنه لا توجد هناك دراسة حققت على وجه الخصوص فيما إذا كان هذا المستوى من التعقيد التكنولوجي سيكون أفضل من الأجهزة التقليدية.
هناك 6 شركات تعمل على تطوير مثل هذه الأنواع من محفزات الحبل الشوكي كما يشير مايكل أوه، ولكن بغض النظر عن مدى تطور جهاز التحفيز، فإن إحداث التأثير المطلوب ليس بهذه البساطة. وفقاً للتقرير المنشور في مجلة نيتشر، يحتاج المصابون بالشلل المزمن 5 أشهر من العلاج الفيزيائي حتى يستعيدوا قدرتهم على المشي، بالإضافة إلى ما يصل إلى 5 جلسات أسبوعياً تتراوح مدة كل منها من ساعة إلى 3 ساعات، وقد تكون هناك حاجة أيضاً للتدريب على حركات محددة لاستعادة وظيفة المشي.
اقرأ أيضاً: فعالية اليوغا في علاج آلام أسفل الظهر قد تكون مماثلة لفعالية العلاج الفيزيائي
يقول أوه: «مساعدة المرضى على الاستغناء عن الكرسي المتحرك والمشي دون مساعدة معجزة بحد ذاتها. لقد تمكن جميع المرضى التسعة في الدراسة الحالية من المشي، بعضهم بشكل مستقل وبعضهم الآخر مع مساعدة. لكن هذا العلاج ليس علاجاً سحرياً للشلل، إذ لا يمكنه استعادة القدرة على الجري أو الرقص أو حتى الركل كما قد يتخيل البعض».
لم يستجب جميع المشاركين للتحفيز بنفس الطريقة. وعند النظر إلى محفزات الحبل الشوكي بشكل عام، فإن الأجهزة المزروعة جراحياً والمستخدمة لتسكين الآلام على المدى الطويل تضر أحياناً بالمرضى. لقد ذكر تقرير أعدته وكالة أسوشيتد برس أنه تم الإبلاغ عن 80 ألف حادثة إلى إدارة الغذاء والدواء بين عامي 2008 و2018 في هذا الشأن.
مستقبل علاج الشلل
على الرغم من أن جراحي الأعصاب والعلماء يشيدون بالنتائج التي أظهرتها المحفزات الكهربائية في البيئات التجريبية، فإن وصول المرضى إليها على مدار العقد الماضي كان مقتصراً بشكل عام على المشاركين في التجارب الصغيرة. وتقدر هوفستويتر أن أقل من 50 شخصاً فقط ممن يعانون من إصابات في النخاع الشوكي في جميع أنحاء العالم لديهم أجهزة تحفيز كهربائية. ومع ذلك، فإنها تشكك في إمكانية تقديم المساعدة لمعظم المرضى الذين يعانون من إصابات النخاع الشوكي ما لم تكن الشبكات العصبية في الجزء السفلي من العمود الفقري، منطقة أسفل الظهر، سليمة. وتضيف هوفستويتر أن هناك حاجة إلى المزيد من العمل لسد الفجوة بين دراسات إثبات المفهوم وآلاف الأشخاص الذين يعانون من الشلل أو الاضطرابات الحركية.
اقرأ أيضاً: لماذا لا يستخدم معظم الأطباء كلمة «شفاء» عند التعامل مع مرضى السرطان؟
هناك تجربة سريرية صغيرة تُجرى حالياً بقيادة باحثين من سويسرا وتُدعى "ستيمو" (STIMO)، وقد تم تسجيل المرضى التسعة المشاركين في دراسة نيتشر في تلك التجربة. ومع ذلك، يجب إجراء اختبارات على نطاق أوسع قبل أن تسمح إدارة الغذاء والدواء أو الهيئات التنظيمية الأخرى باستخدام هذه الأجهزة خارج بيئات الاختبار. يقول سكوير في هذا الصدد: «يجب أن تكون هناك تجربة سريرية محورية (المرحلة الثالثة من التجارب السريرية)، وهي الخطوة الأولى التي يجب إنجازها».
يقول بعض المرضى المصابين بالشلل أيضاً إنهم يفضّلون علاج التحفيز لمعالجة وظائف أخرى غير المشي، مثل التحكم في الأمعاء أو الذراعين أو الأعضاء الجنسية. تشتمل الأبحاث الجارية على علاج التحفيز الذي يستهدف المثانة، وتشمل الدراسات الأخرى العمود الفقري العلوي في محاولة لتحسين وظيفة اليد. قد تكون استعادة القدرة على المشي مجرد البداية، إذ لا يزال هناك الكثير من الأسئلة التي ينبغي الإجابة عنها، ولا تزال الآلية الدقيقة لاستعادة هذه الوظيفة الحركية لغزاً. يقول أوه أخيراً: «لقد أصبح لدينا هدف الآن بفضل هذه الدراسة على العصبونات، لكننا لا نزال لا نعرف الآلية بعد».