لتتمكن وكالة ناسا من تحقيق هدفها في بناء قاعدة على سطح القمر، بحلول نهاية هذا العقد إن أمكن، ستكون الزراعة على القمر ذات أهمية خاصة بالنسبة لبرنامجها الخاص. لذا، شكل نجاح أولى تجارب الزراعة في تربة قمرية، والذي حققه علماء جامعة فلوريدا الأميركية، خطوة مهمةً للسفر إلى القمر، وما بعده.
القمر كقاعدة لمهام أكبر
منذ ما يقارب الخمسين عاماً، أطلقت ناسا برنامج أبولو للوصول إلى القمر. وفي عام 1969 خطا الإنسان أولى خطواته على سطح القمر في رحلة (أبولو 11)، تلتها عدة رحلات انتهت عام 1972، تمكن خلالها 12 رائد فضاء من السير على القمر وإحضار عينات لصخور القمر وتربته، وإجراء الأبحاث والاكتشافات عليها، حتى بعد أكثر من 50 عاماً على جمعها.
اقرأ أيضاً: لم ينته عصر استكشاف القمر بعد
ماذا يحدث عندما تزرع نباتات في تربة القمر؟ وكيف تستجيب النباتات بيولوجياً لتربة القمر؟ هل يمكن أن تكون هناك مزارع على القمر؟ في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات صمم فريق من الباحثين في جامعة فلوريدا الأميركية تجربة لزراعة تربة القمر. نجح العلماء لأول مرة في زراعة نبات (رشاد أذن الفأر) "Arabidopsis thaliana" في الثرى القمري.
لجأ العلماء لاستخدام نبات الرشاد لأنه النبات الذي تمكن العلماء من تحديد شيفرته الوراثية بالكامل، حيث يمكن من خلاله متابعة التأثير الذي قد تسببه التربة على النبات على جميع المستويات، بما في ذلك مستوى التعبير الجيني.
وفقاً لمدير ناسا "بيل نيلسون"، يساعد هذا البحث ناسا في تحقيق أهدافها الاستكشافية البشرية طويلة المدى في برنامج "أرتميس" (Artemis)، بتأمين مصادر غذاء لرواد الفضاء من الموارد الموجودة على القمر والمريخ خلال إقامتهم في قاعدتها التي تسعى لبنائها على سطح القمر.
يقول "روب فيرل"، كبير مؤلفي الدراسة وأستاذ علوم البستنة في جامعة فلوريدا: "بالنسبة للبعثات الفضائية المستقبلية الأطول، يمكننا استخدام القمر كمحور أو منصة انطلاق". علاوة على ذلك، تساهم الدراسة في البحث عن وسائل جديدة يمكن للنباتات بها أن تقاوم الظروف السيئة في المناطق التي يقل فيها الغذاء على الأرض. كما وضح جاكوب بليشر، كبير علماء الاستكشاف الذين يدعمون برنامج أرتميس: "سترسل ناسا رحلات إلى القطب الجنوبي للقمر؛ حيث يُعتقد بوجود مياه يمكن لرواد الفضاء في المستقبل استخدامها، لذا مهدت هذه الدراسة الطريق لتوسيع البحث على سطح القمر".
اقرأ أيضاً: الديدان الأرضية تنمو في تربة المريخ
زراعة نبات الرشاد في غرامات من الثرى القمري
في الدراسة التي نُشرت في دورية "كوميونيكيشن بيولوجي" (Communications Biology)، استخدم الباحثون عينات من رحلات أبولو (11-12-17)، بمقدار 12 غراماً من التربة، أي بضع ملاعق صغيرة فقط. كما استخدم الباحثون للمقارنة عينة مصنّعة من تربة رماد بركاني أرضي ومحاكية للثرى القمري، تُعرف بـ (JSC-1A)، وهي عبارة عن مسحوق من شظايا الزجاج. زرعوها جميعاً ببذور نبات الرشاد.
ملأ العلماء أربعة أطباق بنحو غرام من التربة لكل طبق، ثم زرعوا البذور في عينات التربة القمرية والأرضية، وأضافوا لها الماء مع محلول يحتوي عناصر غذائية لا تتوفر في القمر، وسلّطوا الضوء عليها، ثم سجلوا النتائج التي توصلوا إليها.
نجاح التجربة ولكن مع بعض التحفظات على نباتات الثرى القمري
قالت آنا ليزا بول، الأستاذة بجامعة فلوريدا والتي شاركت في تأليف الدراسة: "بعد يومين، بدأت تنبت! كل نبات، سواء في عينة قمرية أو في مجموعة تحكم، بدا كما هو حتى اليوم السادس تقريباً". بعد اليوم السادس بدأت بعض الاختلافات بالظهور، إذ بدت على نباتات الرشاد في الثرى القمري علامات الإجهاد، وانتهى الأمر بها إلى التقزّم.
على الرغم من الكم الضئيل للتربة، إلا أن جميع البذور استطاعت أن تنبت. كانت النتيجة مذهلة بالنسبة للباحثين، إذ لم يؤثر الثرى القمري على النظام الهرموني لعملية إنبات النبات. من ناحية أخرى، كان نمو النباتات في الثرى القمري ضئيلاً ومحدوداً مقارنة بنباتات عينة المقارنة ذات التربة الأرضية. بالإضافة إلى ذلك، أثبتت الصبغة السوداء الضاربة للحمرة على أوراق النبات استخدام النباتات لوسائل مقاومة لعوامل الإجهاد كالملح والمعادن والإجهاد التأكسدي. أما على المستوى الجيني، فقد قام العلماء بحصد النباتات بعد 20 يوماً وقبل أن تبدأ بالإزهار، ثم طحنوها ودرسوا الحمض النووي الريبي RNA، فتبين من تسلسله أن النباتات قد أبدت استجابة لظروف غير ملائمة مشابهة للطريقة التي يستجيب بها النبات عادة للظروف القاسية الأخرى، ما يدلّ على أن التربة القمرية مُجهدة بالنسبة للنباتات، وأنها كانت تحاول التكيف مع التركيب الكيميائي والبنيوي لتربة القمر.
اقرأ أيضاً: تمهيداً للبعثات المستقبلية: كيف يخطط العلماء للحصول على الأوكسجين والوقود من تربة القمر؟
الاختلافات بين عينات الثرى القمري
لم تكن عينات التربة بنفس السوء، حيث أشار الباحثون إلى أن استجابة النبات للثرى القمري قد تكون مرتبطة بالمكان الذي جمعت منه. كانت عينة أبولو 11 هي الأقل نمواً لأنها مستخرجة من الطبقة السطحية للقمر والأكثر تعرضاً للظروف الخارجية للقمر من حركة جسيمات وأشعة كونية، ما يغير من تركيبها (الأكثر نضجاً). تليها عينة التربة من أبولو 12 ثم عينة أبولو 17 الأقل نضجاً.
أثارت الدراسة العديد من التساؤلات حول المكونات الموجودة في الثرى القمري والتي تسببت بإجهاد النبات، والتي وصفوها بنقاط الضعف، لذا لا بد من تحديدها ليتمكنوا من تحسين الثرى القمري واستخدامه في زراعة النباتات.
تكمن أهمية هذا الإنجاز في تأمين غذاء بسيط لطاقم رواد الفضاء، وإنتاج الأوكسجين ضمن دورة مغلقة؛ حيث يمكن للنباتات امتصاص ثاني أكسيد الكربون المنبعث من البشر وإطلاق الأوكسجين.
تركت الدراسة العديد من الأسئلة دون إجابة، ولكنها شكلت ركيزة لدراسات لاحقة. يكتفي العلماء اليوم بالاحتفال بأولى خطواتهم نحو زراعة المحاصيل على القمر. يقول فيرل: "عندما يتحرك البشر كحضارات للبقاء في مكان ما، فإننا دائماً ما نأخذ زراعتنا معنا".