قال مؤسس الإنترنت «تيم بيرنرز» في 12 مارس/ آذار 2019، في الذكرى الثلاثين لتأسيس شبكة الإنترنت العالمية في بيانٍ له، أننا بحاجةٍ لإصلاح شبكة الإنترنت. أثار تصريحه هذا اهتماماً كبيراً حينها.
لكّن البيان الذي أصدره في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، والتي أطلق فيه حملة «Contract for the Web» كان مخيباً للأمل كثيراً.
تسعى الحملة التي تلقّت دعماً من أكثر من 80 شركة ومنظمة غير حكومية عبر العالم، للعودة إلى الإنترنت المفتوح، الذي كان سائداً في تسعينيات القرن الماضي وأوائل القرن العشرين، والذي كان بعيداً كل البعد عن سيطرة الشركات على المحتوى.
بالرغم من أنّ الحملة جذابةٌ من حيث محتواها نظرياً، إلا أنها تتجاهل العديد من التحديات الرئيسية. فهي لا تأخذ بعين الاعتبار أن جزءاً كبيراً من محتوى الإنترنت تسيطر عليه عدد قليل من المنصّات الرقمية، مثل جوجل وفيسبوك.
في الواقع، خلقت ظاهرة «platformisation of the internet» -التوجّه نحو جعل الإنترنت خدمة تجارية أكثر من كونه فائدةً إنسانية-؛ العديد من المشكلات التي أصبحت في صلب الإنترنت، وهو المجال الذي ينبغي التركيز عليه الآن.
اقتراح غير معدّ جيداً
حدد بيرنز التحديات الرئيسية التي تهدّد مستقبل الإنترنت؛ مثل تداول المحتوى الضار وظاهرة «المحفزات الخبيثة» التي تشجّع على الضغط على الروابط الضارة التشعبية التسويقية «Clickbait»، والاستقطاب المتنامي للجدل على الإنترنت. وعد بيرنز -باعتباره لعب دوراً رئيسياً في تطوير الإنترنت- باستخدام نفوذه لتشجيع التغيير الرقمي الإيجابي.
زعم أن بيان حملة «Contract for the Web» الذي أطلقه ثوريّ وتجديدي بكل ما للكلمة من معنى. إلا أنه في الحقيقة، لم يكن أكثر من مجرّد بيانٍ محافظ جداً.
يدّعي بيرنز أن «إنقاذ الإنترنت» هي مسؤولية أخلاقية تقع على عاتق الجميع. يعني ذلك أن حل المشكلة يتطلب اشراك الأخلاقيات المدنية، وأخلاقيات الشركات والتعاون بينهما، بدلاً من سَنّ قوانين ولوائح أكثر تشدداً تجاه المنصّات الرقمية.
تعتبر الحملة أن الحكومات -وليست الشركات-؛ هي التهديد الرئيسي للوصول إلى الإنترنت المفتوح. لكن تأثير الحكومات يقتصر على بناء البنية التحتية الرقمية (مثل توفر حزم الإنترنت العريضة)، وتسهيل الوصول عبر الإنترنت وإزالة المحتوى غير القانوني، والحفاظ على أمن البيانات.
حلقاتٌ مفقودة
لا تنص الحملة على تدابير لمعالجة سوء استخدام السلطة من قِبل المنصات الرقمية، ولا تقدّم حلاً لاختلال القوّة بين هذه المنصّات ومنشئي المحتوى، وذلك بالرغم من وجود أكثر من 50 مشكلة عامّة حالية يجري التحقيق بها تتعلّق بهذه المنصّات الرقمية.
تدور الفجوات الأكثر وضوحاً في حملة بيرنز حول التزامات شركات المنصّات الرقمية. وبالرغم من اقتراحها لبعض الالتزامات الجيدة مثل تعزيز خصوصية المستخدم وحماية البيانات؛ إلا أنها تتجاهل الإشارة إلى كيفية ظهور مثل هذه المشكلات أساساً.
كذلك لا تأخذ الحملة بعين الاعتبار ما إذا كان جمع بيانات المستخدمين بهدف زيادة الإيرادات من الإعلانات إلى الحدّ الأقصى؛ ليس نتيجةً «أنماط تصميم واجهة المستخدم»، أو إذا كانت تلك البيانات تُدخل وتُعالج في نماذج تجارية في منصّات الشركات الرقمية.
مقترحات الحملة مألوفة وعادية. مثلاً، معالجة الفجوة الرقمية بين الأغنياء والفقراء، الارتقاء بمستوى الخدمات الرقمية، تشجيع التنّوع في ممارسات التوظيف، وتوظيف التصميم الرقمي لخدمة الإنسان وتقديم الحلول لمشاكله، وما إلى ذلك.
لكن الحملة تتجاهل السؤال فيما إذا كان من المحتمل أن يكون الإنترنت أقل انفتاحاً؛ نتيجة لتحكّم عدد قليل من التكتلات التجارية عليه. هناك أدلة على أن منصاتٍ مثل جوجل تهيمن على محركات البحث، وفيسبوك تسيطر على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات الرقمية المرتبطة بهما.
ليست مسؤوليةً مدنية
يبدو أن الكثير من العمل في المبادرة يقع على عاتق المواطنين الذين يُتوقع منهم "«لكفاح من أجل الإنترنت». فهم يتحملون مسؤولية نشر خطابٍ مدني ملائم، وحماية المستخدمين الضعفاء، واستخدام إعدادات الخصوصية لهم بشكلٍ صحيح، وتوليد محتوى ‘بداعي (يفترض أنّه بلا أجر).
تبدو حملة «Contract» وكأنها وثيقةٌ من أواخر التسعينيات، محمّلةٍ بروح «التفاؤل النضالي» بخصوص الإنترنت.
تقدّم الحملة تنظيماً زائفاً لعمالقة التكنولوجيا ليس إلا. حيث تشير المبادرة إلى أنه إذا استطاع عمالقة التكنولوجيا إظهار المزيد من التنوع في ممارسات التوظيف، والسماح للمستخدمين بادارة إعدادات الخصوصية الخاصة بهم بشكل أفضل، والقيام ببعض الاستثمارات في المجتمعات المحرومة؛ فإن ذلك سيعفيهم من العواقب التنظيمية الخطيرة.
تراث ثقافة الإنترنت
السؤال الكبير هنا: لماذا وقعت المنظمات غير الحكومية الرائدة مثل «Electronic Frontier Foundation»، و«Public Knowledge» على هذه الحملة الضعيفة ودعمتها؟
قد يرجع ذلك إلى أن عنصرين من الإرث الأصلي لثقافة الإنترنت (التي بدأت تتطور في التسعينيات) لا تزال قابلةً للتطبيق حتى اليوم.
يعدّ إحداها أن الحكومات تمثّل تهديداً أكبر للمصلحة العامة مما تمثله الشركات. وهذا يقود المنظمات غير الحكومية إلى تأييد الأطر الملزمة قانونياً التي تقيد نفوذ الحكومات، بدلاً من معالجة قضايا هيمنتها على السوق. حيث لا تشير المبادرة، على سبيل المثال، ما إذا كان هناك دورُ للحكومات في سنّ التشريعات التي تُلزم المنصّات الرقمية بمعالجة خطاب الكراهية على الإنترنت. بالرغم من أن هناك أدلةً على أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي تُستخدم لنشر الكراهية وسوء المعاملة والتطرف العنيف.
الأمر الآخر هو الميل للاعتقاد بأن الإنترنت فضاء مختلف عن المجتمع إلى حدٍ كبير، لذلك تعتبر القوانين المطبّقة على الجوانب الأخرى لبيئة الإنترنت غير ملائمةٍ لشركات المنصات الرقمية.
وكمثالٍ عن ذلك، عدم تطبيق قانون التشهير على المنصّات الرقمية مثل فيسبوك في أستراليا، ولكن يتم تطبيقه على قسم التعليقات على مواقع الأخبار.
في الواقع، الحملة التي أطلقها بيرنز والمتعلقة بمستقبل الويب هي أكثر تحفظاً من المقترحات التي تقدمها الجهات التنظيمية الحكومية، مثل التحقيقات والفحوص التي تجريها لجنة المنافسة والمستهلك الأسترالية (ACCC) حول المنصّات الرقمية.
تقوم لجنة «ACCC» بإجراء تقييمٍ دقيق للمشاكل الناشئة بسبب المنصات الرقمية، في حين تبدو حملة بيرنز وكأنها تنظر إلى «الإنترنت المفتوح» في التسعينيات بحسرةٍ، وتعتبره طريقاً إلى المستقبل.
الحملة تبدو غير واقعية من ناحية معالجة الاقتصاد السياسي المتغير للإنترنت، وصعود المنصّات الرقمية أيضاً، والذي يُعتبر عائقاً أمام معالجة المشكلات بشكلٍ عملي، والتي تعاني منها شبكة الإنترنت حالياً.