قبل أن تهبط أي مركبة فضائية على المريخ، أو تحلق طائرات الشحن المستقبلية فوق المدن، يجب أن تُصمم هذه المركبات وتجتاز الاختبارات القاسية في الأنفاق الهوائية. حتى طائرات الركاب، مثل طائرات بوينغ 747 النفاثة التي تستخدمها شركات الطيران الكبرى، تخضع لمثل هذه الاختبارات. تتيح هذه المنشآت للمهندسين "تطيير" الطائرات والمركبات الفضائية على ارتفاعات لا تتجاوز بضع أمتار عن الأرض.
بدأت وكالة ناسا، التي تتمتع بخبرة 100 عام في استخدام هذه الآلات، ببناء نفق هوائي جديد أخيراً. هذا النفق مُحدّث بما يتوافق مع تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، وهو أول نفق هوائي تبنيه الوكالة منذ أكثر من 40 عاماً.
اقرأ أيضاً: مركبة فضائية بحجم السيارة تنطلق نحو الشمس قريباً
دور حاسم في تصميم المركبات الفضائية المستقبلية
سيتجاوز ارتفاع منشأة أبحاث ديناميات الطيران التابعة لوكالة ناسا المخطط افتتاحها في عام 2025 في مركز لانغلي للأبحاث في ولاية فيرجينيا الأميركية 30 متراً.
يعتقد المسؤولون في وكالة ناسا أن هذه المنشأة ستؤدي دوراً حاسماً في تصميم المركبات الفضائية المستقبلية وتصنيعها. تخطط الوكالة لاستخدام النفق الهوائي الجديد للتحضير لرحلات الفضاء البشرية إلى القمر والمريخ، بالإضافة إلى المهمات الروبوتية التي ستُرسل إلى عالمين في المجموعة الشمسية يتمتعان بغلاف جوي سميك: كوكب الزهرة والقمر تيتان، قمر زحل الغني بالميثان. سيؤدي النفق الجديدة دوراً بالغ الأهمية أيضاً في تطوير الجيل التالي من الطائرات الأرضية، التي تأمل ناسا في جعلها أكثر استدامة تماشياً مع هدفها المتمثل في الوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050.
قال مدير مركز أبحاث لانغلي التابع لوكالة ناسا، كليتون ترنر، في بيان صحفي في حفل وضع حجر الأساس للمنشأة: "ما سنفعله ببناء هذه المنشأة هو تغيير العالم حرفياً. سيتيح لنا كل من هذا المشروع والروح المتواضعة لباحثينا تحقيق إنجازات غير مسبوقة وكشف ما نجهله لتحقيق المنفعة للبشرية".
كيف تعمل الأنفاق الهوائية؟
تدفع الأنفاق الهوائية الهواء على جسم ثابت، وتستخدم عادة المراوح الضخمة لمحاكاة حركة الهواء حول المركبة الطائرة وفوقها وتحتها. يسمح هذا للمهندسين بتعديل تصميماتهم بناءً على نتائج التجارب؛ ما يعزز استقرار المركبات وديناميكيتها الهوائية. الأنفاق الهوائية هي مواقع آمنة لتجربة التكنولوجيات الجديدة، وكذلك فإنها تمثّل خطوة أساسية في اختبار سلامة أي مركبة قبل أن يستخدمها البشر.
تؤدي هذه الأنفاق أيضاً دوراً مهماً في تطوير الصواريخ والمركبات الفضائية؛ إذ يستخدمها المهندسون لضمان قدرة المركبات على التحرّك عبر الأغلفة الفضائية للكواكب بأمان. (حتى أن علماء الأحياء استخدموا الأنفاق الهوائية لدراسة الأوز الطائر، على الرغم من أن هذه الأنفاق لم تكن تابعة لوكالة ناسا).
منشأة مقاربة سرعة الصوت الوطنية هي أحدث نفق هوائي بني في مركز لانغلي؛ إذ إنه شُيِّد في عام 1980. ستبقى هذه المنشأة قيد التشغيل؛ لكن منشأة أبحاث ديناميات الطيران ستحل محل نفقين هوائيين يُستخدمان حالياً يبلغ عمرهما نحو 80 عاماً، وهما نفق الدوران المنخفض السرعة البالغ ارتفاعه 3.6 أمتار الذي بُني في عام 1939، ونفق الدوران العمودي البالغ ارتفاعه 6 أمتار الذي بُني في عام 1940. سيتمكن الخبراء في النفق الجديد من اختبار المركبات الطائرة التي لم يتخيل بناة الأنفاق القديمة أنها يمكن أن تُختبر. قال كبير المهندسين في مركز لانغلي، تشارلز "مايك" فريمو، مازحاً في محاضرة عامة حديثة حول المشروع: "لم نختبر أي مركبة تحتوي على جهاز دفع منذ عقود".
اقرأ أيضاً: قد تتحول الصين إلى قوة عظمى فضائية بحلول العام 2050
بنت وكالة ناسا أول نفق هوائي (الذي كان أول نفق هوائي أميركي حكومي) في عام 1921 في مركز لانغلي. تألّف هذا النفق من صندوق كبير يحتوي على مراوح قوية. منذ ذلك الحين، بنت الوكالة أكثر من 40 نفقاً هوائياً، واستُخدم العديد منها لأغراض تخصصية. كان بعض هذه الأنفاق صغير الحجم ومخصصاً فقط للطرازات المصغّرة من المركبات، بينما كان بعضها كبيراً بما يكفي ليتّسع إلى طائرة كاملة.
تمتّع كل نفق بدرجة حرارته وضغطه وسرعة رياحه المختلفة، ويعود الاختلاف في هذه المتغيرات إلى السعي لمحاكاة الظروف المختلفة التي قد تواجهها المركبات في العالم الحقيقي. يستطيع بعض أنفاق الرياح تحريك الهواء بسرعة تزيد على 6,400 كيلومتراً في الساعة، وهي سرعة أكبر بكثير من سرعة طائرة بوينغ 747 المعتادة التي تبلغ نحو 965 كيلومتراً في الساعة.
اختبار مركبات المهمات الفضائية في الأنفاق الهوائية
اختُبر العديد من مركبات المهمات الفضائية في الأنفاق الهوائية. على سبيل المثال؛ اختُبرت مظلة مركبة كيوريوسيتي الجوالة لأول مرة في مجمّع الديناميكا الهوائية الوطني الكامل النطاق في مركز أميس التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا، قبل فتحها في الغلاف الجوي للكوكب الأحمر بكثير. في السنوات القليلة الماضية، اختُبرت الأجزاء الرئيسية من مهمات أرتميس التابعة لوكالة ناسا (التي تهدف إلى إعادة رواد الفضاء الأميركيين إلى القمر) مثل كبسولة طاقم أورايون وصاروخ إس إل إس، في الأنفاق الهوائية.
سيكون النفق الهوائي الجديد في منشأة أبحاث ديناميات الطيران أكثر كفاءة من الأنفاق السابقة؛ ما سيقلل التكاليف. بالإضافة إلى ذلك، سيكون العمل في المنشأة الجديدة أكثر أماناً بالنسبة إلى الموظفين الذين يُجرون الاختبارات في النفق الهوائي، الذين كانوا عرضة لخطر أن تسحبهم الآلة في أثناء تجربة النماذج.
اقرأ أيضاً: عندما هبطت كاسيني باتجاه زحل وهبطت قلوبنا معها
قال فريمو في العرض الذي قدّمه: "سيشغّل فني ماهر للغاية النماذج يدوياً، تماماً كما نفعل الآن، وهذه ليست مهمة سهلة". وقع بعض الإصابات الطفيفة فقط في الماضي، مع العلم أن أغلبية الحوادث تسببت بالضرر للمنشأة نفسها. أما الآن، سيُطبّق المزيد من إجراءات الأمان تحسباً للحوادث بهدف تقليل المخاطر.
قد يمهّد بناء المنشأة الجديدة أيضاً الطريق لتطوير السيارات الطائرة، وذلك من خلال اختبار تكنولوجيا الإقلاع العمودي مثل التي تعتمد عليها السيارات الحوّامة التي ظهرت في فيلم "عودة إلى المستقبل" (Back to the Future)، أو السيارات الطائرة الكلاسيكية التي ظهرت في مسلسل "جيت سونز" (Jetsons). هذه أفكار سابقة لأوانها؛ لكن لا يمكن تحويلها إلى واقع من دون استخدام الأنفاق الهوائية التي تثبت فعاليتها عبر الزمن.