لا تعتبر أشجار صنوبر المستنقعات أول خيار لعشاق أشجار عيد الميلاد. ذلك أنها ليست متراصة مثل أشجار التَّنُّوب أو السرو، كما أن إبرها أطول، بالتالي لا تستطيع حمل زخارف وحُلي العيد بشكل جيد. مع ذلك فشجر صنوبر المستنقعات لديها تاريخ حافل وثري.
كانت «شجرة أيزنهاور» الشهيرة، المزروعة قرب الحفرة السابعة عشر في نادي «أوغوستا» الوطني للجولف، تعيق الرئيس الأمريكي الأسبق «دوايت أيزنهاور» أثناء لعبه للجولف، بسبب اصطدام الكرة في تلك الشجرة، حتى أنه طلب من مسؤولي النادي اقتلاعها. لكن مدير نادي الجولف أجل المباراة فجأة في تصرف دبلوماسي حتى لا يفصح عن اعتراضه على اقتلاع الشجرة صراحة. ومن الغريب أن أمنية الرئيس الأمريكي الراحل تحققت أخيراً سنة 2014، عندما تسببت عاصفة ثلجية قوية بأضرار فادحة للشجرة، تعيّن على مسؤولي النادي اقتلاعها. يذكر أن بذور شجرة صنوبر المستنقعات سافرت أيضاً على متن رحلة أبولو 14 ثم زُرعت عند عودتها في جميع أنحاء البلاد، بما فيها الحديقة المحيطة بالبيت الأبيض. تُعرف تلك الأشجار بـ«أشجار القمر - moos trees» ولازال بعضها حياً حتى الآن.
أما اليوم فها هي أشجار صنوبر المستنقعات تخدم هدفاً أكثر نبلاً، حيث تقدم يد العون لمساعدة البشرية في الحدّ من الاعتماد على استخدام الوقود الأحفوري. فقد اكتشف الباحثون والعلماء الذين أجروا بعض التعديلات على جينات هذا النوع من الأشجار طريقة لعكس هندسة إنتاج أشجار صنوبر المستنقعات للصمغ النباتي، وهو اكتشاف مهم نظراً لأنه يفتح أمامنا أفقاً اقتصادياً واعدة، من شأنها مساعدة الشركات المصنعة على إنتاج بدائل صديقة للبيئة لعدد كبير من السلع التي تصنع الآن باستخدام النفط والغاز، بما فيها دهانات السطوح والمواد اللاصقة، وحبر الطابعات والمنكهات والعطور والفيتامينات، ومنتجات التنظيف المنزلية، والدهانات ومواد الطلاء، وملمعات الأحذية ومُشَمَّعات الأرضية.
في هذا السياق، يقول «مارك لانغ»، أستاذ بمعهد الكيمياء الحيوية بجامعة واشنطن الحكومية أن التركيب الكيميائي للصمغ لا يختلف كثيراً عن بعض المركبات الكيميائية التي تصنع حالياً من النفط الخام. يسعى الأستاذ لانغ مع زملائه الباحثين لتحسين عملية إنتاج الأصماغ بغية الحد من اعتماد الصناعات الكيميائية على الوقود الأحفوري بجميع أنواعه.
ويقول: «يأتي الوقود الأحفوري من مصادر أحفورية تشكلت على مدى ملايين السنين. هذا يعني أن كمياتها مهما بلغت، فهي محدودة وغير قابلة للتجدد، الأمر الذي يعني أنه بمجرد نفاذها، ما من وسيلة لتجديدها في فترة زمنية معقولة. في الحقيقة وقبل انتشار النفط الخام بصفته مواد خام رخيصة الثمن، كانت الشركات العاملة في صناعة منتجات شجر الصنوبر البحري تستخرج أصماغ أشجار الصنوبر وتحولها إلى العديد من السلع المنزلية الشائعة الانتشار».
في الوقت الحالي، لا يوجد إلا صناعتان تولدان قيمة تجارية مهمة من أشجار الصنوبر، وهي صناعة الخشب وصناعة الورق. لذلك كان الباحثون في الدراسة، في خضم إجرائهم للتجارب «يفكرون في كيفية تقليص الاعتماد على المصادر الأحفورية، وفي ذات الوقت زيادة استخدام الموارد المتجددة» يقول لانغ. يذكر أن النتائج التي أسفرت عنها تجاربهم نُشرت في «مجلة علم النبات التجريبي -Journal of Experimental Botany».
يشرح الأستاذ لانغ قائلاً: «الهدف المباشر يتمثل في الشروع في فهم كيف تنتج أشجار الصنوبر كميات وافرة من الصمغ. أما رؤية الفريق طويلة المدى، فتتمثل في استخدام ما تعلمناه واكتشفناه لهندسة أشجار تنتج كميات أكثر من الصمغ. عندما نتمكن من زراعتها ستظل مصدراً مستداماً لصناعة الخشب وصناعة اللب والورق، إلا أن الصمغ الناتج عنها يمكن أيضاً أن يشكل قيمة اقتصادية مضافة بصفته مصدراً لتصنيع منتجات كيميائية صديقة للبيئة. بعبارة أخرى، نحن لا نفكر بالصمغ بصفته المنتج الأساسي هنا، بل بصفته منتجاً ثانوياً عالي القيمة. وهذا المنتج لن يواجه في طريقة العقبات نظراً لأن الكثير من البنى التحتية التجارية، بما فيها عمليات التوسع متوفرة وجاهزة بالفعل لهذه المنتجات».
قام الأستاذ لانغ وزملائه بتفكيك الآلية التي تتبعها أشجار صنوبر المستنقعات لإنتاج مادة الراتينج الزيتي، وهو مركب سام من الصمغ يشكل خط دفاع الشجرة المنيع ضد الحشرات والعوامل المُمرِضة. ذلك أن الحيوانات بمقدورها الهرب من مفترسيها، لكن الأشجار لا تمتلك هذه الميزة، لذلك تفرز أشجار صنوبر المستنقعات الراتينج الزيتي. تعد هذه المادة الكيميائية مركباً شديد السُمية إلى درجة أن الأشجار ذاتها تحتفظ به في حجيرات خاصة تسمى «أنابيب الصمغ» لتحفظ نفسها من التسمم به.
قام الباحثون، بغية فهم كيف تنتج الأشجار مادة الراتينج الزيتي، بدراسة الخلايا الواقعة قرب أنابيب الصمغ، حيث قطعوها باستخدام مجهر مزود بأشعة الليزر. في هذا السياق، يقول لانغ: «كل ما عليك فعله هو رسم المنطقة التي تريد استقطاعها، ومن ثم يقوم الليزر بعمل اللازم حيث يخترق لحاء الشجرة مستخرجاً لك القطعة المطلوبة».
بعد ذلك قام الباحثون بمقارنة الخلايا المجاورة لأنابيب الصمغ بالخلايا الواقعة بعيداً عنها، وذلك للعثور على الجينات المسؤولة عن عملية إنتاج مادة الراتينج الزيتي. ويضيف لانغ: «عملنا هذا ساعدنا على اكتشاف الآليات الكامنة وراء إنتاج الصمغ في أشجار الصنوبر، حيث أن هذه المواد المُفرزة يمكن أن تشكل أيضاً مصدراً أساسياً لصناعة المواد الكيميائية المتجددة والصديقة للبيئة». يشير لانغ إلى أن فهم الخريطة الوراثية لأشجار صنوبر المستنقعات سيساعد العلماء على زيادة إنتاجية الصنوبر للصمغ، أو حتى استنساخ آلية إنتاج الصمغ ودمجها في كائنات حية أخرى مثل الاشريكية القولونية «E. coli» أو فطر الخميرة. من شأن هذا أن يخفض من تكلفة إنتاج الصمغ، وجعله مادة خام ذات سعر منافس للمشتقات الكيميائية من النفط والغاز».
في وقتنا الحالي، أصبحت النباتات مصدراً ثميناً لإنتاج عدد من المنتجات الاستهلاكية، من ضمنها المنتجات الدوائية مثل المورفين وأدوية العلاج الكيميائي، والزيوت العطرية الأساسية المستخدمة في العلاجات العطرية (التدليك بالمواد ذات الروائح الفواحة والمنعشة)، والمركبات التي تحاكي عمل الإسترُوجِين، ومضادات الأكسدة، ومادة كانابيدْيُول (من مكونات الحشيش) الموجهة للتخفيف من الآلام (وليست تلك الموجهة للتعاطي)، والمادة المنشطة التي يدمنها الجميع تقريباً؛ الكافيين. ويضيف لانغ: «النباتات بصفتها مصانع طبيعية، لا يتفوق عليها أحد في مجالها».
من خلال تجنب استخدام النفط والغاز كمصادر، بمقدور النباتات دعم البشرية للتخلص من الوقود الأحفوري، مما يجعلنا نكافح بفعالية التغير المناخي. لذلك يجب على المصانع التي تعتمد الآن على النفط والغاز لإنتاج السلع أن تبحث عن بدائل أخرى للمواد الخام التي تصنع منها تلك المنتجات. والبديل متوفر بالفعل: إنه النباتات. ويختتم لانغ كلامه بقوله: «لا يختلف عالِمان على أن التغير المناخي أحد أصعب التحديات التي تواجه البشرية وأكثرها إلحاحاً. ومن خلال بحوثنا هذه أعتقد أن بمقدورنا أن نحدث فارقاً في قطاع الكيماويات عبر اتخاذ الصمغ كمنتجات ثانوية للعمليات التجارية القائمة فعلياً في الوقت الحالي (إنتاج الخشب والورق)، الأمر الذي سيسفر عنه الجم الوفير من المنافع الاقتصادية والبيئية على حد سواء».