تعاني أوروبا الآن من أزمة في الطاقة. أدّت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والتي تسببت بإيقاف الإمدادات الروسية من الغاز، إلى ارتفاع أسعار مواد التدفئة والكهرباء بشكل كبير.
في قلب أوروبا، وعلى طول الحدود بين فرنسا وسويسرا، يواجه مختبر فيزياء الجسيمات التابع لمنظمة سيرن نفس الأزمة. في شهر سبتمبر/ أيلول 2022، تم الإبلاغ عن أن المسؤولين في منظمة سيرن يخططون لتقليل عدد التجارب التي يجريها مصادم الهادرونات الكبير (إل إتش سي) الذي عاد للعمل مؤخراً، أو حتى إيقافها بشكل كامل.
إذا توقّف هذا المصادم، والذي يعتبر مصادم الجسيمات الأكبر والأكثر تكلفة في العالم، عن العمل لفترة قصيرة، فلن يكون ذلك حدثاً غريباً في مجال أبحاث فيزياء الجسيمات. ولكن إذا اضطر المسؤولون إلى إيقافه لفترة أطول، فقد يتسبب ذلك ببعض المشكلات.
اقرأ أيضاً: ما أهم مشاريع مصادم الجسيمات الأكبر في العالم بعد عودته للعمل؟
سيرن تستهلك طاقة مساوية للطاقة التي تستهلكها مدينة صغيرة
يقول البعض إن منظمة سيرن تستهلك كمية من الطاقة تساوي تلك التي تستهلكها مدينة صغيرة، وهذا صحيح إلى حد ما. إذ إنه وفقاً لتصريحات المنظّمة نفسها، تستهلك هذه المنشأة خلال عام واحد ثلث كمية الطاقة الكهربائية التي تستهلكها مدينة جنيف في سويسرا. تتغير الأرقام الدقيقة من شهر لآخر ومن عام لآخر. ولكن من الواضح أن مسرّع الجسيمات يستهلك نحو 90% من الطاقة التي تستهلكها منظّمة سيرن بالكامل.
بالنسبة لمراقب خارجي، من السهل للغاية التساؤل حول سبب استهلاك الطاقة بهدف إجراء التجارب الفيزيائية الغامضة التي تتعلق بالجسيمات دون الذريّة والبلازما والمادة المظلمة. كتبت مايليس نيكوليه (Maïlys Nicolet)، المتحدّثة الرسمية باسم منظّمة سيرن في تصريح صحفي: "نظراً للأوضاع الحالية وكجزء من مسؤولياتها الاجتماعية، تصمم منظمة سيرن الآن خطة لتقليل استهلاكها للطاقة خلال فصل الشتاء المقبل".
مع ذلك، لا تعاني هذه المنظّمة من المشكلات الخدمية التي يعاني منها المواطنون الأوروبيون؛ إذ إن استراتيجيتها في استهلاك الطاقة مستدامة نوعاً ما. تستمد هذه المنشأة الطاقة من شبكة الطاقة الكهربائية الفرنسية، والتي تستمد بدورها أكثر من ثلثي طاقتها من محطات توليد الطاقة بالانشطار النووي (وهي نسبة تتجاوز كل بلدان العالم). لا يقلل ذلك من البصمة الكربونية لمصادم الهادرونات الكبير فقط، بل يجعله أقل اعتماداً بكثير على الوقود الأحفوري المستورد أيضاً.
اقرأ أيضاً: هل تحطم النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات؟
شبكة الطاقة الفرنسية وسيرن
لكن هناك مشكلة تتعلق بشبكة الطاقة الكهربائية الفرنسية. على عكس معظم الدول الأوروبية، والتي تعتمد على الغاز في التدفئة، تستخدم المنازل في فرنسا المدافئ الكهربائية. كنتيجة لذلك، يمكن أن تتضاعف فواتير الكهرباء الخاصة بتلك المنازل خلال الشهور الباردة. حالياً، تم إيقاف 32 من أصل 56 مفاعلاً نووياً في فرنسا بهدف الصيانة والإصلاحات. وتخطط الحكومة الفرنسية لتجهيز شبكتها الكهربائية لأزمة الطاقة من خلال إعادة تشغيل معظم هذه المفاعلات بحلول فصل الشتاء.
لكن إذا لم تتمكن الحكومة من فعل ذلك، فقد تواجه منظّمة سيرن نقصاً في إمدادات الطاقة. حتى ولو قامت هذه المنظّمة البحثية العملاقة بشراء الطاقة الكهربائية، فقد لا تتوفّر كمية كافية منها في المقام الأول، ويعتمد ذلك على أداء المفاعلات الفرنسية. قال سيرج كلوديه (Serge Claudet)، رئيس مجلس لجنة إدارة الطاقة في منظّمة سيرن لمجلة ساينس: "خلال خريف عام 2022، لم تكمن المشكلة في سعر الطاقة الكهربائية، بل بتوفّرها".
مع ذلك، لا يعتبر الإيقاف المؤقت لمصادم الهادرونات الكبير حدثاً غريباً. ففي الماضي، أوقفت منظّمة سيرن مسرّع الجسيمات بهدف الصيانة خلال فصل الشتاء. ولن يكون الشتاء المقبل استثناءً؛ إذ تخطط منظّمة سيرن لإيقاف هذا المصادم من شهر نوفمبر/تشرين الثاني إلى مارس/آذار من عام 2023. إذا استمرت أزمة الطاقة التي تمر بها القارة الأوروبية لعام 2023، قد يستمر الإيقاف المؤقت لمصادم الهادرونات الكبير حتى الأشهر الدافئة، وقد يستمر لفترة أطول أيضاً.
اقرأ أيضاً: لماذا تحتاج محطات الطاقة النووية إلى الكهرباء لتبقى آمنة؟
تبعات إيقاف عمل مصادم الهادرونات الكبير
وفقاً للمتحدّثة الرسمية باسم منظّمة سيرن، يدرس مدراء هذه المنظّمة الآن خياراتهم. قد تقرر الحكومة الفرنسية إيقاف عمل المصادم في فترات ذروة الطلب على الطاقة الكهربائية، مثل فترات الصباح والمساء. ولتجنّب إيقاف هذا المصادم الرائد، قد تحاول منظّمة سيرن إيقاف بعض المسرعات الأصغر التي تعمل في الموقع نفسه.
لا يتفّق جميع علماء فيزياء الجسيمات على منح الأولوية في استهلاك الطاقة إلى أحد المصادمات؛ إذ تقول كريستين لوفاسر (Kristin Lohwasser)، عالمة فيزياء الجسيمات في جامعة شيفيلد في المملكة المتحدة وإحدى المتعاونين في تجربة أطلس (ATLAS)، إحدى التجارب التي يتم إجراؤها في مصادم الهادرونات الكبير: "لا أعتقد أنه يمكن تبرير الاستمرار في تشغيل مصادم الهادرونات الكبير وإيقاف تشغيل جميع المصادمات الأخرى".
من ناحية أخرى، ستكون الخسائر أكبر بالنسبة لمصادم الهادرونات الكبير في حال إيقافه لمدة غير محددة من الزمن. إذا اضطرت المنظّمة إلى إيقاف المصادم لسنة أو أكثر، فقد تبدأ المعدّات فيه بالتلف، مثل الكواشف التي تستخدم لمراقبة التصادمات على المقاييس بالغة الصغر. تقول لوفاسر: "هذا هو السبب الذي يمنع المسؤولين من الدعوة بصراحة لإيقاف المصادم لمدة 5 سنوات مثلاً". بالإضافة لذلك، إن إبقاء المصادم في حالة من السبات يتطلب استهلاك الطاقة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يكون تصغير المفاعلات حلاً لمشكلة توليد الطاقة النووية؟
حتى لو لم يتم تشغيل المسرعات التابعة لمنظّمة سيرن، هناك الكثير من البيانات التي يجب على علماء فيزياء الجسميات حول العالم دراستها. تولّد التجارب في هذا المجال كمية هائلة من النتائج، مثل مواضع الجسيمات وسرعاتها وعدد لا يحصى من المواد الغامضة التي تنتج عن آلاف الاصطدامات. يمكن للباحثين إيجاد العلامات التي تشير لوجود الجسيمات دون الذرية في القياسات التي تم إجراؤها منذ فترة تصل إلى عقد من الزمن. وبالتأكيد، لن يتوقّف تدفق الدراسات الفيزيائية نتيجة لأزمة الطاقة التي تمر بها الدول الأوروبية.
حالياً، لم يتم حسم القرار بشأن بدء الجولة الثالثة من تجارب مصادم الهادرونات الكبير بعد. سيقدّم مسؤولو منظّمة سيرن خطة للهيئة المسؤولة عن هذه المنظّمة تتعلق بالفترة المستقبلية في أواخر شهر سبتمبر/أيلول. وسيتم تقديم هذا الحل إلى الحكومتين الفرنسية والسويسرية للحصول على استشارة. ثم سيتم إعلان القرار النهائي.
تقول لوفاسر: "حتى الآن، لا أعتقد أن هنالك ما يدعو الفيزيائيين للقلق بشأن هذه الخطط". إذا اضطرت منظّمة سيرن للعب دور ثانوي في أبحاث فيزياء الجسيمات، فسيتقبّل الكثيرون في المجتمع العلمي هذه الحقيقة.