عادة ما تمر التكنولوجيا بالمراحل التالية: يُخترع شيء جديد ما، ثم يصبح قديماً، ومن ثم نستبدل به نسخةً أكثر تطوراً. ولكن في بعض الحالات النادرة، تكون التقنية متطورة إلى درجة أننا لسنا مستعدين للتخلي عنها عندما تصبح قديمة، ومن أبرز الأمثلة على هذا: الكونكورد.
كانت هذه الطائرة سابقة لزمنها (حرفياً)، فقد كانت تقطع المسافة من باريس أو لندن إلى نيويورك بسرعة كبيرة لدرجة أنها كانت تهبط قبل إقلاعها بأكثر من ساعتين! وهو ما لا يمكن فعله حالياً إلا بقطع خط التاريخ الدولي (الذي يحدِّد الانتقال من يوم إلى يوم آخر). فكان من المفترض بهذه النفاثة فوق الصوتية أن تكون فاتحة عصر جديد من النقل، ولكن بعد 27 عاماً فقط من انطلاق رحلتها التجارية الأولى (أي منذ 15 عاماً)، تقاعدت الطائرة المستقبلية دون خلف، وتوقف السفر التجاري فوق الصوتي.
حدث هذا لعدة أسباب، ولكنها عادة تتلخَّص في مشكلتين كبيرتين: الأولى أن الكونكورد لم تكن اقتصادية، والثانية أن ضجيج اختراق حاجز الصوت كان شديداً ومزعجاً للناس على الأرض لدرجة أنها كانت تحلِّق فوق المياه فقط. وقد وصل الجيل الأول والأخير من الكونكورد إلى الشيخوخة قبل أن يتمكن أحد من حل هاتين المشكلتين، ولهذا لم يظهر نموذج جديد وبرَّاق ليحل محله، ولكن الأمل عاد من جديد، ففي 2016 أعلنت ناسا عن برنامج جديد لتطوير طائرة فوق صوتية أكثر هدوءاً، ووقَّعت العقد مع لوكهيد مارتن، وهو ما يعني أن الجماهير قد تعود إلى اختراق سرعة الصوت مرة أخرى.
صعود وهبوط بسرعة الصوت
بعد 17 ديسمبر لعام 1903، عندما أجرى الأخوان رايت رحلتهما الأولى في كيتي هوك في نورث كارولينا، بدأ الطيران يتطور بوتيرة مذهلة. وخلال عقدين، انتقلت العمليات القتالية إلى الجو في الحرب العالمية الأولى، كما كان الطيران التجاري ينقل المسافرين حول العالم. وفي 14 أكتوبر لعام 1947، حقق الطيران خطوة كبيرة إلى الأمام، حيث أصبح الطيار الاختباري تشاك ياجر هو أول بشري يخرق جدار الصوت، محقِّقاً السرعة ماخ 1 (سرعة الصوت، وتساوي تقريباً 343 متراً في الثانية) في الطائرة بيل إكس 1 ذات المحرك الصاروخي، وهي مشروع تعاوني ما بين سلاح الجوي الأميركي والهيئة الاستشارية الوطنية للطيران (التي تحولت فيما بعد إلى ناسا)، ولكن الطائرة إكس 1 نفسها كانت مصمَّمة حصراً لإجراء الأبحاث، لا النقل التجاري.
وبعد ذلك بفترة قصيرة، بدأت تظهر الطائرات النفاثة العسكرية فوق الصوتية، ولكنها كانت -شأنها شأن إكس 1- قادرة على التحليق بسرعة ماخ 1 لفترة عدة ثوانٍ أو دقائق على الأكثر قبل أن ينفد منها الوقود. وربما كان هذا نافعاً لطائرات صغيرة تجري مناورات حادة، أما الطائرات التجارية الكبيرة -التي تسافر غالباً في خطوط مستقيمة أو منحنيات كبيرة- فكانت في حاجة إلى الاحتفاظ بهذه السرعات لفترات أطول بكثير.
غير أن هذا التقدم أوحى لصناعة الطيران التجاري بالبدء في تطوير ما أشير إليه بطائرات SST، أي طائرات النقل أو الطائرات المدنية فوق الصوتية. ورغم ان إكس 1 أثبتت قدرتها على التحليق بسرعات فوق صوتية، إلا أنه كان من الضروري إجراء بعض التعديلات الهامة، مثل القدرة على التحليق بسرعة فوق ماخ 1 طوال فترة الطيران الطويلة نسبياً، إضافة إلى مسألة الجدوى الاقتصادية لمشروع كهذا. فبدأت العديد من البلدان -بما فيها الولايات المتحدة- بإجراء الأبحاث في الخمسينيات، وبسبب الصعوبات الكثيرة التي واجهت عمليات التطوير، لم تتمكن سوى ثلاث بلدان من بناء طائرات كهذه والتحليق بها، وهي: المملكة المتحدة، وفرنسا، والاتحاد السوفييتي.
يقول جون ليتل (المشرف المساعد على متحف الطيران في سياتل): "كانت فرنسا وبريطانيا الكبرى الدولتين الوحيدتين في أوروبا اللتين كان لديهما من الاهتمام والتكنولوجيا والتمويل ما يكفي لتصميم وبناء طائرة SST. وبطبيعة الحال، كانت كل دولة راغبة في تطوير طائرتها الخاصة بها، ولكن التكلفة كانت مرتفعة للغاية، وكان من المستحيل على أي منهما المضيُّ في المشروع بشكل منفرد. ولهذا -وبطريقة ما- وافقت فرنسا وبريطانيا العظمى على مضض أن يتشاركا في العمل على تطوير SST".
ومن ناحية أخرى تمكن الاتحاد السوفييتي من تصميم طائرته توبوليف تو 144 بشكل مستقل، على الرغم من أن الطائرة أجرت 55 رحلة تجارية للركاب قبل إلغاء المشروع نظراً لارتفاع معدل الأخطاء، مثل حادث التحطم الشهير أثناء العرض الجوي في باريس في 1973، ولكن الكونكورد كانت أكثر تفوقاً بكثير، وكانت تحلق يومياً على مدى ثلاثة عقود تقريباً.
الطيران المرتفع والتكاليف المرتفعة
اجتمع العديد من المهندسين لتصميم هذه الطائرة، كالشركة البريطانية للطائرات وشركة أيروسباسيال الفرنسية وغيرهما من الشركات، وذلك للعمل على أجزاء محددة من الطائرة (مثل رولز رويس التي قامت بتصميم المحركات)، وكان يجب عليهم أن يطوروا تقنيات جديدة أو يحسنوا تقنيات موجودة سابقاً، مثل أنظمة التحكم الإلكترونية في قِمرة القيادة (واجهات إلكترونية تختلف عن أنظمة التحكم التماثلية المستخدمة سابقاً)، والإطارات المقاومة للحرارة، والجناح المثلث الأنيق.
يقول ليتل: "أعتقد أن أكثر التقنيات ابتكاراً في الكونكورد هي قدرتها على الطيران لفترة طويلة بسرعة ماخ 2، أو ضعف سرعة الصوت. وفي حين أن معظم الطائرات العسكرية كانت قادرة على التحليق بسرعات فوق صوتية لبضعة دقائق فقط قبل أن يبدأ الوقود بالنفاد، كانت الكونكورد تحلق بضعف سرعة الصوت لأكثر من ثلاث ساعات".
وسارعت شركات الطيران إلى تقديم طلبات للحصول على الكونكورد حتى قبل أن يتم بناؤها، حيث قامت 16 شركة بطلب أكثر من 70 طائرة، ولكن مع تقدم العمل على الكونكورد، تصاعدت تكاليف المشروع أيضاً. يقول روس "راستي" أيمر (المدير التنفيذي لشركة آيرو كونسلتينج إكسبرتس)، وهو طيار سابق أيضاً: "كانت تجاوزات التكاليف التقديرية هائلة، وتتراوح ما بين 70 مليون و1.3 مليار جنيه إسترليني" (أي ما بين 91 مليون و 1.7 مليار دولار أميركي وفق قيمته الحالية).
وبعد ذلك تعرَّضت الكونكورد إلى مشاكل أخرى غير متوقعة، فعلى الرغم من أن زيادة السرعة كانت تعني استهلاكاً أقل للوقود في الرحلة مقارنة بالطائرة العادية، فقد اعترض الناشطون البيئيون على المعدل المرتفع لاستهلاك الوقود (والبالغ 6,700 جالون في الساعة، مقارنة بمعدل استهلاك بوينج 747 البالغ 3,600 جالون في الساعة)، إضافة إلى الأذى الذي يمكن أن تتسبب فيه الملوثات التي تطلقها الكونكورد لطبقة الأوزون أثناء تحليقها على ارتفاعات كبيرة تصل إلى 18 كيلومتر.
أما الضربة الكبرى التي تلقتها الطائرة فقد كانت حظر طيرانها فوق البر، الذي فرضته سلطات النقل بسبب الضجيج الهائل لخرق جدار الصوت، الذي كان يمتد خلف الطائرة على شكل أثر عرضه 25 كيلومتراً. ولهذا، كانت رحلات الكونكورد محدودة بالمسارات فوق الماء، وبما أن مدى طيرانها كان يبلغ تقريباً 7,200 كيلومتر، فقد كانت قادرة بالكاد على عبور المحيط الأطلسي، ناهيك عن عبور المحيط الهادي.
يقول أيمر: "بدأت شركات الطيران حول العالم تلغي طلبياتها لشراء الكونكورد في حالة مشؤومة من الذعر الجماعي، واضطرت شركتا الطيران البريطانية والفرنسية إلى طلب عدد صغير من الطائرات بسبب الضغوطات السياسية، ومراعاة للكبرياء الوطنية". وفي نهاية المطاف، بلغ عدد الطائرات التي بُنيت فعلياً 20 طائرة فقط، بما فيها 6 نماذج أولية، أي أن الطائرات التي دخلت في الخدمة الفعلية بلغت 14 طائرة، توزعت مناصفة ما بين الشركتين الفرنسية والبريطانية.
وعلى الرغم من كثرة المشاكل التي واجهت الطائرة أثناء تطويرها، فقد كانت تعتبر من أجمل الطائرات في العالم، وأكثرها أماناً أيضاً، كما أنها أخذت صفة حصرية ومميزة، نظراً لقلة عدد المقاعد المتاحة وارتفاع أسعار البطاقات (كانت رحلة في اتجاهين على متن الكونكورد تكلِّف -وفقاً لقيمة الدولار الحالية- ما يصل إلى 20,000 دولار، في حين تكلف رحلة للشركة الفرنسية على متن طائرة تحت صوتية في الدرجة الأولى حالياً ما بين 6,000 و 10,000 دولار) مما أدى إلى ارتفاع الطلب بشكل كبير، وظهور مجموعة كبيرة من المعجبين من عشاق الطيران والمسافرين من الشخصيات الهامة، مثل المشاهير والسياسيين، فحلَّقت أسعار البطاقات جنباً إلى جنب مع الطائرة نفسها.
وكان التحليق على متن الكونكورد تجربة فاخرة، شبيهة بركوب الدرجة الأولى في الطائرات الحالية، وعلى الرغم من ازدحام قِمرة الركاب وارتفاع الضجيج فيها، إلا أن الركاب كانوا يستمتعون برحلتهم إلى أقصى حد، ويرتشفون الشمبانيا من كؤوس زجاجية خاصة، ويتلذَّذون بوجبات عشاء مكونة من ثلاثة أطباق تقدم إليهم باليد بدلاً من نقلها على العربة، متبوعة بمشروبات ما بعد العشاء.
يقول آلان فيرشوير (مسؤول الحسابات الأساسية في شركة الطيران الفرنسية، والذي عمل مضيف طيران على متن الكونكورد منذ 1999 حتى تقاعدها في 2003): "كنا مُدرَّبين على العمل بفعالية وأناقة، بما يتناسب مع شهرة الشركة بهذا النوع من الرقي، كما كانت الخدمة رائعة للغاية، تماماً مثل زيِّنا الموحَّد وديكورات الطائرة الداخلية. لقد كنا فخورين للغاية بالتحليق على متن هذه الطائرة، وحتى الآن -بعد 15 سنة- ما زال الركاب في رحلاتي يقولون لي: لقد كنت محظوظاً للغاية لأنك كنت تطير على متن الكونكورد!".
ولكن لكل شيء نهاية. وما بين أول رحلة تجارية للكونكورد في 1976 وآخر رحلة في 2003، تعرَّضت الطائرة لبعض المشاكل، فضلاً عن المشاكل الاقتصادية وتعقيد التكاليف والحسابات خلال مرحلة التطوير.
بداية قوية، ونهاية ضعيفة
يقول ليتل: "شهدت الفترة ما بين أواخر الخمسينيات ومنتصف الستينيات بداية ظهور الكونكورد، وفي ذلك الوقت كان النفط رخيص الثمن، وكان جالون وقود الطائرات لا يكلف سوى بضعة بنسات (البنس = 0.01 جنيه إسترليني)، ولم يتوقع أحد زيادة هذا السعر، وبعد ذلك أتت أزمة النفط في 1973 - 1974، التي تسببت في ارتفاع كبير في أسعار النفط وكل ما ينتج عنه، بما في ذلك وقود الطائرات. وكانت زيادة بنس واحد في سعر الجالون تعني الفرق بين الربح والخسارة في الرحلة، مما تسبَّب في مشكلة كبيرة للكونكورد التي كانت أكثر عرضة من غيرها لآثار تذبذب أسعار وقود الطائرات، فقد كانت تستهلك حوالي 900 كيلوغرام للراكب الواحد أثناء التحليق عبر الأطلسي".
ويضيف ليتل: "وحتى يزيد الطين بلة، فقد انتقل السفر العالمي للأعمال نحو آسيا، مما قلَّل من قدرة الكونكورد على المنافسة. فقد كان من المستحيل أن تحلِّق شرقاً إلى آسيا من باريس أو لندن، لأنها كانت ممنوعة من الطيران بأعلى من سرعة الصوت فوق البر، كما كان من المستحيل أن تذهب غرباً إلى آسيا، لأن مداها لم يكن يسمح بعبور المحيط الهادي. ولهذا شاء لها القدر أن تفشل في سوق الرحلات الطويلة، رغم أنه هو الاستخدام الأمثل للتحليق فوق الصوتي".
وإضافة إلى مشاكل السوق، عانت الطائرة أيضاً من المشكلة الأساسية التي تعاني منها جميع الطائرات، وهي: الزمن؛ فقد كان الأسطول يتقادم، وكانت الصيانة مكلِّفة للغاية، وبحلول نهاية التسعينيات، أصبح مصير الطائرة محتوماً، بسبب تكاليف الوقود والصيانة، ومحدودية المسارات المتاحة. ولم يكن ينقصها إلا الضربة الأخيرة، ففي 25 يوليو لعام 2000 تحطمت طائرة الكونكورد التي تحمل رحلة شركة الطيران الفرنسية 4590 من باريس إلى نيويورك بعد دقائق من الإقلاع، مما أدى إلى مقتل جميع من كان على متنها، وبضعة أشخاص آخرين على الأرض أيضاً.
يقول جاك روكا، (مدير قسم التراث في أيرباص، الذي يحتفظ بمعظم موجودات شركة أيروسباسيال البائدة): "بعد سنة واحدة فقط، أُعطِي الأسطول الترخيص بالطيران مرة أخرى، بعد أن قمنا بتطوير تقنية جديدة لحل المشكلة التي أدَّت إلى الحادث. ولكن بسبب هجمات 9/11 الإرهابية، التي وقعت في ذلك العام، تناقص عدد ركاب الكونكورد بعد أن عادت إلى الخدمة".
وكانت عودة الكونكورد وجيزة، فقد أُخرِجت من الخدمة في 2003 مع آخر رحلة في 24 أكتوبر، مُنهِية بذلك قصة إحدى أشهر الأساطير في تاريخ الطيران. يقول أيمر: "بشكل أساسي، كانت الكونكورد تعبيراً عن التقدم التكنولوجي أكثر من الواقعية الاقتصادية".
فرصة جديدة
لم تظهر طائرة مدنية فوق صوتية أخرى لتحل محل الكونكورد العجوز، وبقي السفر التجاري مقتصراً على السرعات تحت الصوتية منذ ذلك الحين، ولكن بعد 15 سنة أصبح العالم أكثر اتصالاً، وظهر طلب كبير على طائرة أسرع، حيث يقول ليتل: "مع تزايد أهمية آسيا في الاقتصاد العالمي، ازدادت حاجة المسافرين من رجال الأعمال إلى طريقة سريعة للوصول إلى آسيا من أوروبا والأميركتين. وإذا تمكنت شركةٌ ما من تطوير طائرة فوق صوتية تحلِّق بسرعة ماخ 5 على الأقل، بحيث تقطع المسافة بين نيويورك وبكين مثلاً في ثلاث ساعات، فسوف تبيع الكثير من الطائرات".
وقد بدأت عدة شركات تعمل على حل مشاكل الكونكورد بالنسبة للطائرات التجارية وطائرات الأعمال، يقول ليتل: "من وجهة نظر هندسية، فإن أكبر التحديات هي تخفيض استهلاك الوقود، وتقليل الانبعاثات، وتخفيف ضجيج خرق جدار الصوت أو إخفاؤه تماماً، وسيكون حل كل من هذه المشاكل عمليةً عالية التكلفة. فمن أجل تخفيض استهلاك الوقود والانبعاثات، فإن أفضل خيار هو تطوير محرِّكات لا تحتاج إلى حرق الوقود ذي الأساس النفطي، غير أن هذا الخيار يمثل مخاطرة كبيرة للمصنِّعين، ولا ضمانة لنجاحه".
وتعمل ناسا حالياً بالاشتراك مع لوكهيد مارتن على تطوير طائرة تجريبية باسم "إكس 59 كويست X-95 QueSST"، وهي قادرة على تخفيض الضجيج الناتج عن خرق جدار الصوت، بحيث يصبح عبارة عن خبطة هادئة ومكتومة. تقول إيريكا تييرني (مسؤولة العلاقات الإعلامية وتواصل البرنامج في "لوكهيد مارتن سكانك ووركس"، وهو الاسم الاصطلاحي لقسم الأبحاث المتطورة في لوكهيد مارتن): "ليس الحل في استخدام مادة معينة، أو الحرص على التفاصيل من براغي وصواميل وخطوط فاصلة، بل إن أهم ناحية في هذا التصميم هي شكله، أي الخطوط الخارجية والسطوح التي يلمسها الهواء بشكل مباشر. وتتمتع إكس 59 بمقدمة مستدقة طويلة، وأجنحة حادة الالتفاف، وجنيحات أمامية ذات شكل مدروس، وهي عوامل تؤدي إلى تشتيت موجات الضغط المنفردة التي تنتج عن الطيران بسرعات فوق صوتية، وتمنعها من التجمع والتحول إلى الضجيج التقليدي المعروف".
وما زالت الطائرة قيد التطوير، ومن المفترض أن ينتهي العمل عليها في 2021. وبمجرد أن تسلم لوكهيد مارتن الطائرة إلى ناسا، ستقوم الوكالة بالتحليق بها فوق عدة مدن أميركية لدراسة أثر الصوت المخفف على السكان.
يقول بيتر كوين (وهو مدير مشروع تكنولوجيا الطائرات التجارية فوق الصوتية في ناسا): "ستستعين ناسا بأفراد عاديين من المجتمع للمساهمة في استبيانات في كل يوم أثناء اختبارات الطيران، من أجل معرفة مدى استجابتهم لأصوات الطيران فوق الصوتي الهادئ، وستُقدم بيانات هذه الاختبارات إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول والسلطات للاستعانة بها أثناء وضع قواعد جديدة تسمح بالطيران فوق الصوتي فوق البر".
وإذا رفعت الإدارة الفدرالية للطيران الحظر عن السفر فوق الصوتي فوق الولايات المتحدة بالنسبة للطائرات التجارية فوق الصوتية الأكثر هدوءاً، فسوف تحاول شركات تصنيع الطائرات استخدام تقنية مشابهة لتطوير طائرات جديدة فوق صوتية.
تقول تييرني: "ستمثل الطائرة إكس 59 إنجازاً هاماً بالنسبة لصناعة الطائرات وصناعة النقل، وستفتح سوقاً عالمية جديدة للطيران، وتسمح للمسافرين حول العالم بالذهاب إلى أي مكان في نصف الوقت الذي تستغرقه الرحلات حالياً".
ولكن هل ستعود الطائرات التجارية فوق الصوتية إلى نطاق تجاري أوسع لتشمل جميع شرائح المسافرين؟ ربما لا، كما يشير الخبراء إلى أن السفر فوق الصوتي قد ينحو في اتجاه الطائرات الخاصة، المعروفة أيضاً بطائرات الأعمال. يقول الدكتور جيمس لاديسيك (بروفسور هندسة الطيران ومساعد عميد الكلية ومسؤول العلاقات والتواصل الصناعي في كلية الهندسة في جامعة إيمبري ريدل): "إن سوق طائرات الأعمال تزدهر بسرعة، وتعتبر الطائرات التجارية فوق الصوتية فئة محدودة وخاصة يمكن أن تنجح في هذا المجال، بما أن طائرات الأعمال تكون عادة أصغر من حيث عدد الركاب، وأعلى قيمة في السوق".
تقول سام تشيتوم (مؤلفة كتاب: " Last Days of the Concorde: The Crash of Flight 4590 and the End of Supersonic Passenger Travel") إنها تتفق مع الرأي القائل بأن طائرات الأعمال تمثل المستقبل، وتقول: "تشير جميع الأبحاث الحالية في مجال الديناميكا الهوائية إلى أن الطائرات الأهدأ (معدومة الضجيج) تحتاج إلى هيكل تكون فيه نسبة الطول إلى العرض أصغر، تماماً مثل السهم، أي أن الطائرات عريضة البدن لا تصلح لهذا الاستخدام. وليس من المفضل استخدام هذا الشكل الضيق لحمل الكثير من المسافرين وتخفيض تكاليف الوقود المطلوب لكل مسافر في الكيلومتر الواحد. وإذا عاد الطيران التجاري فوق الصوتي، فغالباً سيكون على شكل طائرات أعمال صغيرة للأثرياء، وليس حافلة نقل لنا جميعاً".
غير أن ناسا تأمل في نتيجة مختلفة، حيث يقول كوين: "إن رؤيتنا لمستقبل الطيران فوق الصوتي تتضمن تعميم فوائد الطائرات السريعة على الجميع بأوسع نطاق ممكن"، وإذا نجحت إكس 59 في تخفيض الضجيج، فقد نحلق جميعاً بأسرع من الصوت قريباً.