كانت سنة 2016 قد شارفت على الانتهاء، وكانت إحدى نزلاء مسشفى دبي تدرك أنها لن تودع السنة كما استقبلتها، فهي على الأرجح ستودعها من دون كليتها اليسرى، والتي تم التأكد من وجود ورم سرطاني داخلها، وكان الحل التقليدي للمشكلة يتمثل بالتخلص من الكلية برمتها. لكن أطباء المستشفى كان لهم رأي آخر. تم تصوير الكلية بالأشعة المقطعية وتم تجميع كافة الصور والاستفادة منها لخلق نموذج مجسم للكلية والورم المتموضع داخلها وذلك باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد، وتمت الاستعانة بهذا النموذج للتخطيط لعمل جراحي يرمي للتخلص من الورم فقط مع الإبقاء على الأنسجة المحيطة، وقد تكللت العملية بالنجاح وأثبتت بما لايدع مجالاً للشك أن الطباعة ثلاثية الأبعاد لا زال لديها الكثير لتقدمه. وسنستعرض هنا بعض ما قدمته هذه التقنية بالعالم العربي.
أطراف وأعضاء ونماذج
من ضمن المشاريع التي يشملها برنامج مسرعات دبي المستقبل، تعمل شركة "ميداتيف" التي تأسست سنة 2015 ، على توظيف الطابعات ثلاثية الأبعاد لأغراض طبية متنوعة، فهي بالدرجة الأولى تستطيع إنتاج أطراف صناعية بسرعة كبيرة مقارنة مع خط إنتاج الطرف الصناعي التقليدي وبكلفة أقل، كما أنها تعمل على تأمين المفاصل والأجزاء القابلة للاستبدال عند حدوث أذية ما بالهيكل العظمي. مع العلم أن تجارب مشابهة تم تنفيذها في الأردن من قبل شركة ريفيوجي أوبن وير Refugee Open Ware وفي لبنان من قبل المهندس الفلسطيني ابراهيم محمد، وذلك سعياً لتأمين الأطراف الصناعية للناجين من أتون الحرب في الجارة سوريا.
من جهة أخرى تعتمد ميداتيف على هذه التقنية لتشخيص الأمراض، فمن خلال طباعة نموذج للعضو المصاب يمكن توفير فهم أوضح للخلل الذي يعاني منه المريض، وبالتأكيد فإن لهذا النموذج تأثير بالغ في حال تقرر إجراء عمل جراحي، وهذا التأثير يشمل الطبيب والمريض على حد سواء، فالطبيب سيستعمله للتخطيط للجراحة، والمريض سيشعر بالراحة عندما سيمسك بيده النموذج المجسم للعضو في حين سيشرح له الطبيب ما الذي يعتزم إجراؤه خلال العملية. يذكر أن ميداتيف هي التي زودت جراحي مستشفى دبي بنموذج الكلية للمريضة التي تحدثنا عنها.
بناء مسبق الطبع
إذا أردت أن تعرف كيف سيكون مكان عملك في المستقبل يمكنك زيارة مكتب مساحته 250 متر مربع مصمم ليحاكي بيئات العمل المستقبلية وقد تم تركيبه ضمن حرم بناء أبراج الإمارات بدبي. لكن ما يميز هذا البناء هو التقنية التي بني بها، فقد قامت طابعة بارتفاع حوالي ستة أمتار ونصف وطول 40 متر وعرض 13 متر بطباعة أجزاء البناء والتي تكفل سبعة أشخاص بتركيبها بإشراف المهندس المسؤول، وتكفل 10 أشخاص آخرين بأمور الهندسة الميكانيكية والكهربائية بالموقع، وقد استغرقت العملية بكاملها 17 يوم للطباعة ويومين للتركيب. وكان هذا البناء الذي تم افتتاحه بـ 24 مارس 2016 هو الأول من نوعه بالعالم. ومع تشييد هذا البناء دخل عالم الهندسة مرحلة جديدة تشبه مرحلة الأبنية مسبقة الصنع المنتشرة في كثير من دول العالم، لكنها هذه المرة ستكون مسبقة الطبع.
وتماشياً مع مخططات دبي لجعل 25% من مباني المدينة هي مباني مصنعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد مع حلول سنة 2030، فقد أعلنت شركة كازا Cazza المختصة بهذا النوع من الطباعة، والتي هي أيضاً مشمولة ببرنامج مسرعات دبي المستقبل، عن مشروع طموح يتمثل ببناء أول ناطحة سحاب بالعالم باستخدام هذه التقنيات، خاصة مع وجود طابعات تقوم بتشييد أبنية يزيد ارتفاعها عن 80 متر في الوقت الحالي. مع العلم أن الشركة المذكورة كانت قد وقعت اتفاقاً مع حكومة دبي أواخر السنة الماضية للتعاون بمجال تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد.
التصميم هو الأساس
عندما سيفكر أحدهم بولوج عالم الطباعة ثلاثية الأبعاد فإنه سيبحث بالدرجة الأولى عن الأجهزة والمعدات التي تدعم مشروعه، لكنه عاجلاً أم آجلاً سيبدأ البحث عن أشخاص تتعامل مع هذه الآلات، خبرات تخاطب الآلة باللغة التي تفهمها والتي هي لغة الملفات ثلاثية الأبعاد والتي ستتولى الآلة ترجمتها إلى المجسمات المطلوبة. من هنا اتجهت شركة "ميكسد دايمنشنز" Mixed Dimensions الأردنية-الأمريكية إلى تزويد الشباب بالمعرفة التقنية اللازمة بهذا المجال وذلك من خلال موقع Make it printable والذي يقدم للمصممين كافة الأدوات التي تساعدهم على التعرف على أنماط الملفات الثلاثية الأبعاد والمشاكل التي قد تواجههم عند الشروع بالتصميم، بالإضافة إلى توفير الآلية التي تتيح إنتاج التصاميم الأمثل والأبسط. وفي حال حدوث أي خلل خلال سير العملية يشرح الموقع الآلية التي يجب اتباعها لرفع الملف على الموقع وتحليله ومن ثم إصلاحه.
يمكن القول أن شركة ميكسد دايمنشنز تركز على البنية التحتية لسوق الطباعة ثلاثية الأبعاد في المنطقة. مع العلم أن الشركة تعمل أيضاً على بعض الجوانب الترفيهية لهذه التقنية فهي تتيح لمحبي الألعاب الالكترونية القدرة على تحويل شخصيات الألعاب أو اللحظات المميزة باللعبة إلى نماذج ثلاثية الأبعاد. وهي رغم كونها خدمة كمالية إلا أنها تعبر عن السوية التقنية العالية التي بدأنا نصل إليها في منطقة الشرق الأوسط بمجال استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد.
يبدو أن العصر الذي كانت تسير به الدول العربية خلف أوروبا وأميركا بخصوص التكنولوجيا والإختراعات الحديثة قد ولى إلى غير رجعة، فقد نالت بعض دول المنطقة شرف الريادة بالكثير من المجالات ويبدو أن منطقة الشرق الأوسط قد بدأت تستثمر بشكل فعال بالتقنيات الحديثة التي بدات تطفو على السطح، وليس آخرها الطباعة ثلاثية الأبعاد. وسيذكر أبناء الجيل الحالي كيف بدأت الأنظار تتجه صوب بلدانهم لرؤية ما يتم إنجازه يوماً بعد يوم.