القمر الصناعي الصيني يُشعل ثورة الاتصال الكمي الآمن

3 دقائق

في منتصف الليل، لا يراه أي شخص عدا تلسكوباتٍ خاصةٍ في مرصدين صينيين، يرسل القمر الصناعي الصيني «ميشيس» جسيمات ضوئية (فوتونات) ناشئاً اتصالاً هو الأكثر أماناً في العالم حتى الوقت الحاضر. سُمي القمر الصناعي نسبةً إلى فيلسوف صيني قديم، ويُعتبر هذا القمر الصناعي أول قمرٍ صناعي للاتصالات الكمومية في العالم، وبقي لسنوات رائد تقنية التشفير الكمومي. ويقول العلماء أن استخدام هذه التقنية كان علامةً فارقة، نظراً لامكانية تأمين اتصال آمن وبعيد وموثوق، حتّى دون الوثوق بالقمر الصناعي الذي يمرّ عبره.

أُطلق القمر الصناعي ميشيس عام 2016، وأحدث ثورةً في مجال الاتصال المشفّر الكمي، وتحت قياد بان جيان وي، يُدعى «أبو الكمّ» في الصين. يرسل القمر الإشارة على شكل أزواجٍ من الفوتونات المتشابكة والتي تحافظ على خصائصها التشابكية بغض النظر عن مدى تباعدها. فإذا حاولت التلاعب أو التأثير على أحد هذه الفوتونات، فإن الآخر سيتأثر بالمثل في نفس اللحظة.

تُعتبر هذه الخاصية أساس أكثر أشكال التشفير الكمي أماناً، وهي توزيع المفاتيح الكمية المستندة إلى التشابك. فإذا كنت تستخدم أحد الجسيمات المتشابكة لإنشاء مفتاح كمومي لتشفير الرسائل، فلا يمكن إلا للشخص الذي لديه الجسيم الآخر فك تشفيرها.

أرسل القمر الصناعي ميشيس سابقاً الفوتونات المتشابكة إلى محطتين أرضيتين تبعدان عن بعضهما 1200 كيلومتر عن طريق تلسكوباتٍ خاصة.  وأثبت العلماء أن الفوتونات تصل إلى الأرض محافظةً على خاصيتها التشابكية كما كانت في المدار قبل إرسالها.

اُستخدم ميشيس في عام 2017 لتوزيع مفاتيح التشفير الكمومي على محطتين أرضيتين إحداهما في فيينا والأخرى في بكين، وعُقد بالفعل اجتماعٍ افتراضي آمنٍ من خلال هذه التقنية بين أكاديميتي العلوم النمساوية والصينية، واللتان تبعدان عن بعضهما 7400 كيلومتر.

لم يمر أيٌّ من الاتصالات عبر ميشيس، لقد أنتج فقط مفاتيح التشفير وقام بتوزيعها. لكن كان على كلتا المحطتين الأرضيتين التعامل مع ميشيس والوثوق به كجزء من أنظمة الاتصالات الخاصّة بهم واستخدامه كناقل قبل إنشاء اتصالٍ بين بعضهما.

تُظهر ورقةٌ بحثية جديدة نشرها مختبر «بان جيا وي» في دورية نيتشر أنّ ميشيس نجح مرّةً أخرى في استخدام التشفير الكمي بين محطتيه الأرضيتين اللتان تبعدان عن بعضها 1200 كيلومتر. لكن هذه المرة، أرسل القمر الصناعي تيارات متزامنة من الفوتونات المتشابكة إلى المحطات الأرضية لإنشاء اتصالٍ آمن مباشرٍ بينها.

منحهم ذلك اتصالاً مشفّراً قوياً لا يمكن اختراقه مطلقاً دون الحصول على مفتاح التشفير من القمر الصناعي. وحتى اللحظة، لم يتم ذلك سابقاً عبر الأقمار الصناعية أو من مسافاتٍ كبيرة.

ومرةً أخرى، لم يمر أيٌّ من الاتصالات عبر ميشيس. ما قدمه القمر الصناعي كان الفوتونات المتشابكة كمصدرٍ مناسب للتشفير الكمي فقط بينما استخدمتها المحطتان الأرضيتان بعد ذلك وفقاً لبروتوكولهما الخاص المتفق عليه. تضمنت هذه العملية تصميم آليةٍ لتوزيع مفاتيح التشفير وآلية لمنع الهجمات الخبيثة، مثل تعمية التلسكوبات بإشارات ضوئية أخرى.

لا تحدد الورقة الجديدة كيفية إرسال الرسائل في هذه الحالة، ولكن من الناحية النظرية يمكن أن يتم ذلك عن طريق الألياف الضوئية، أو عبر قمرٍ صناعي آخر للاتصالات، أو عبر موجات الراديو أو أي طريقة أخرى يتفقون عليها.

سباق كمومي آمن

ستكون الاتصالات الآمنة بعيدة المدى أساس الإنترنت الكمي والشبكة العالمية المستقبلية مع مستوى أمانٍ إضافي مدعومٍ بقوانين ميكانيكا الكم التي ليس لها مثيل في أساليب التشفير الكلاسيكية.

وُصف هذا الحدث والانجازات التي حققها فريق العلماء والمهندسين باللحظة الفارقة في القرن الحادي والعشرين وبأنه مماثل للحظة إطلاق القمر الصناعي سبوتنيك في القرن الماضي. في الواقع، إن لسباق الكم آثارٌ مماثلة لإطلاق قمر سبوتنيك من نواحٍ سياسية وعسكرية يصعب تجاهلها.

يعزو بان جيان وي تعزيز الصين أبحاث التشفير الكمومي من أجل إنشاء وسائل اتصال أكثر أماناً إلى التسريبات التي كشفها إدوارد سنودن عام 2013 حول مراقبة الحكومات الغربية لشبكة الانترنت والتجسس عليها، لذلك أُطلق على هذا القمر اسم سبوتنيك لأنه كان بمثابة صدمةٍ كبيرة على جميع الصعد نظراً لعدم القدرة على التجسس على الاتصالات التي يقدمها بعد الآن.

يمكن لأي دولة أن تثق في ميشيس لتوفير الفوتونات المتشابكة لتأمين اتصالاتها. لكن القمر الصناعي هو موردٌ استراتيجي قد ترغب دول أخرى في صنع نسختها الخاصة منه، تماماً كما باتت أوروبا وروسيا والصين تمتلك الآن إصداراتها الخاصة بها من نظام تحديد المواقع العالمي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن الأنباء عن نجاح الاتصالات الكمومية عبر مسافات متباعدة هي علامةٌ على أننا بتنا نعيش بالفعل في حقبة جديدة من الاتصالات الآمنة.

المحتوى محمي