الموصّلات الفائقة: حلم يراود العلماء فهل سيتمكنون من جعله حقيقة؟

الموصّلات الفائقة: حلم يراود العلماء فهل سيتمكنون من جعله حقيقة؟
حقوق الصورة: US Department of Energy

في المستقبل، قد تمرُّ الأسلاك تحت المحيطات لتوصيل الكهرباء بسهولة من قارة إلى أخرى. ستحمل هذه الكابلات التيارات من عنفات الرياح العملاقة أو ستُستخدم لتشغيل القطارات السريعة المعلّقة التي تعمل بالمجال المغناطيسي.

تعتمد كل هذه التقنيات على معجزة فيزيائية فريدة طال انتظارها، تسمى الموصلية الفائقة، وهي خاصية فيزيائية تسمح للمعدن بنقل التيار الكهربائي دون فقدان أي طاقة.

لكن الموصلية الفائقة تعمل فقط في درجات حرارة شديدة البرودة بالنسبة لمعظم الأجهزة. لذلك، يجب على العلماء إعادة تشكيل الظروف نفسها في درجات حرارة عادية لجعلها أكثر فائدة. وعلى الرغم من أن علماء الفيزياء يعرفون الموصلية الفائقة منذ عام 1911، لا يزال تحقيقها في درجة حرارة الغرفة تحدياً كبيراً.

ما هو الموصّل الفائق؟

تمتلك جميع المعادن نقطة يشار إليها باسم درجة الحرارة الحرجة، عند تبريد المعدن إلى ما دون هذه الدرجة الحرجة، تختفي مقاومته الكهربائية تقريباً، ما يسهّل تحريك الذرات المشحونة خلاله. أي يمكن للتيار الكهربائي الذي يمر عبر حلقة مغلقة من الأسلاك الفائقة التوصيل أن يدور باستمرار دون توقف بسبب عدم وجود مقاومة كهربائية.

في الوقت الحالي، يُفقد ما بين 8 إلى 15% من الطاقة الناتجة عن توليد الكهرباء ونقلها إلى المستهلكين لأن المقاومة الكهربائية في الأسلاك العادية تعمل بشكل طبيعي على تحويل بعض الكهرباء إلى حرارة ثم تشتيتها. يمكن للأسلاك الفائقة التوصيل نقل الكهرباء بكفاءة وتقليل الطاقة المُهدرة.

اقرأ أيضاً: هل استخراج الذهب من أجهزتك الإلكترونية مشروع مربح؟

ثمة جانب إيجابي آخر أيضاً: عندما يتدفق التيار الكهربائي عبر أسلاك ملفوفة يولّد حقلاً مغناطيسياً، وفي حال استخدام الأسلاك الفائقة التوصيل تزداد قوة هذا المجال المغناطيسي بشكل كبير. بالفعل، تعمل المغناطيسات الفائقة التوصيل على تشغيل آلات التصوير بالرنين المغناطيسي، وتساعد مسرعات الجسيمات على توجيه الجسيمات في مسارات دائرية مغناطيسية، وتشكيل البلازما في مفاعلات الاندماج، ودفع القطارات المغناطيسية المعلّقة أو ما يُعرف بقطارات ماغليف (maglev trains)، مثل قطار تشوو شينكانسن (Chūō Shinkansen) الياباني، الذي لا يزال قيد الإنشاء.

زيادة درجة الحرارة

على الرغم من القدرة الرائعة للموصلات الفائقة على التوصيل الكهربائي دون أي مقاومة، فهي مقيّدة بشرط البرودة الشديدة المطلوبة للحفاظ على هذه القدرة. تكون غالبية درجات الحرارة الحرجة للمواد المعروفة قريبة جداً من الصفر المطلق (-273 درجة مئوية). على سبيل المثال، تكون درجة حرارة الألمنيوم الحرجة عند -271.67 درجة مئوية، ودرجة حرارة الزئبق الحرجة عند -268.89 درجة مئوية، أما درجة حرارة معدن النيوبيوم (niobium) المرن الحرجة فتكون عند -263.89 درجة مئوية. يتطلب تبريد أي شيء إلى درجات حرارة شديدة الانخفاض كهذه جهداً كبيراً وقد يكون غير قابل للتطبيق.

لكن العلماء نجحوا في تحقيق ذلك على نطاق محدود، عن طريق اختبار مواد نادرة مثل الكوبريت (cuprates)، وهو نوع من الخزف الذي يحتوي على النحاس والأوكسجين. في عام 1986، وجد باحثان من شركة آي بي إم (IBM) نوعاً من الكوبريت الفائق التوصيل عند درجة حرارة -237.78 درجة مئوية، وهو إنجاز استحقا عليه نيل جائزة نوبل في الفيزياء. بعد فترة وجيزة، عمل باحثون آخرون على تحسين الموصلات الفائقة المصنوعة من الكوبريتات بحيث يمكنها العمل عند درجة حرارة -196.11 درجة مئوية، أي ما يعادل نقطة غليان النيتروجين السائل، الذي يُعد وسيط تبريد أكثر وفرة مقارنة بالهيدروجين السائل أو الهيليوم السائل.

يقول عالم الفيزياء في جامعة ميريلاند، ريتشارد غرين (Richard Greene): "كان ذلك الاكتشاف مثيراً للغاية، كان العلماء متفائلين بإمكانية تطبيق الموصلات الفائقة عند درجات حرارة أقرب إلى درجة حرارة الغرفة".

الآن، بعد مرور أكثر من 30 عاماً، لا يزال البحث جارياً عن موصّل فائق يعمل في درجة حرارة الغرفة. يشعر العديد من الباحثين بأنهم أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق هذا الهدف بفضل استخدام الخوارزميات التي يمكنها التنبؤ بخصائص المواد. لكن بعض أفكارهم كان مثيراً للجدل.

اقرأ أيضاً: قطرات ماء ترقص على سطح مستوٍ باستخدام الكهرباء

مشكلة تكرار النتائج

إحدى الطرائق التي يحرز فيها هذا المجال تقدماً هي التركيز على المواد الفائقة المصنوعة من الهيدريدات بدلاً من المواد الفائقة المصنوعة من الكوبريتات، أو المواد التي تحتوي على ذرات الهيدروجين المشحونة سلبياً. في عام 2015، سجل باحثون في مدينة ماينتس الألمانية رقماً قياسياً جديداً باستخدام مركب هيدريد الكبريت الذي كان فائق التوصيل عند درجة حرارة -70 درجة مئوية. وسرعان ما حطّم بعض هؤلاء الباحثين رقمهم القياسي السابق باستخدام مركب هيدريد لعنصر اللانثانوم (lanthanum) الأرضي النادر، إذ وصلت درجة حرارة التوصيل الفائق فيها إلى -22.78 درجة مئوية، وهي درجة حرارة قريبة من درجة حرارة المجمّدة المنزلية.

لكنهم واجهوا مشكلة أخرى؛ إذ تتغير درجات الحرارة الحرجة عندما يتغير الضغط المحيط، ويبدو أن الموصلات الفائقة المصنوعة من الهيدريدات تتطلب ضغوطاً شديدة جداً. حقق هيدريد اللانثانوم الموصلية الفائقة فقط عند مستويات ضغط تفوق 150 غيغا باسكال؛ أي ما يعادل تقريباً كمية الضغط في نواة الأرض، وهو ما لا يمكن تطبيقه على سطح الأرض.

لذا تخيل المفاجأة التي حدثت عندما قدَّم المهندسون الميكانيكيون في جامعة روتشستر في شمال ولاية نيويورك مركب هيدريد مصنوعاً من عنصر أرضي نادر آخر، وهو اللوتيتيوم (lutetium). وفقاً للنتائج التي توصلوا إليها، يكون هيدريد اللوتيتيوم فائق التوصيل عند 21.11 درجة مئوية وضغط 1 غيغا باسكال. وعلى الرغم من أن هذا الضغط لا يزال مرتفعاً، إذ يعادل 10,000 ضعف الضغط الجوي عند مستوى سطح البحر، فإنه يعد منخفضاً بدرجة كافية لاستخدامه في الأدوات الصناعية.

تقول عالمة الكيمياء النظرية في جامعة بوفالو، إيفا زوريك (Eva Zurek): "إنه ليس ضغطا مرتفعاً، إذا كان من الممكن تكرار نتائج هذه الاكتشاف فقد يكون تأثيره مهماً للغاية".

اقرأ أيضاً: كل ما تحتاج معرفته عن عمل المضخات الحرارية الصديقة للبيئة

لكن العلماء لم يعبروا عن فرحتهم بهذا الاكتشاف حتى الآن، إذ سبق لهم رؤية محاولات مماثلة في هذا المجال؛ لكنها لم تؤدِ إلى نتائج ملموسة. ففي عام 2020، صرّحت المجموعة البحثية ذاتها أنها وجدت موصلية فائقة في درجة حرارة الغرفة باستخدام هيدريد الكربون والكبريت، ولكن بعد الإعلان عن ذلك الاكتشاف أشار العديد من الباحثين الآخرين إلى أن باحثي المجموعة حلّلوا البيانات بطريقة خاطئة ولا يمكن تكرار نتائج عملهم هذا. في النهاية، اعترف مهندسو جامعة روتشستر بأن البيانات التي نشروها في وقت سابق كانت غير دقيقة وتراجعوا عن نشر بحثهم.

والآن، يواجهون الأسئلة نفسها مع الموصل الفائق المصنوع من اللوتيتيوم. يقول غرين: "يجب التحقق من صحة النتائج". العلامات الأولية غير مبشرة: حاول فريق من جامعة نانجينغ في الصين مؤخراً تكرار التجربة، لكنهم لم ينجحوا في تكرار النتائج.

ويضيف غرين: "يجب أن يكرر العديد من المجموعات البحثية هذه التجربة للوصول إلى النتائج المرجوّة. أعتقد أننا سنعرف بسرعة إذا ما كانت هذه النتائج صحيحة أم لا".

ولكن إذا كان الهيدريد الجديد يمثل أول موصل فائق في درجة حرارة الغرفة، فما الخطوة التالية؟ هل سيبدأ المهندسون غداً بربط شبكات الكهرباء في أنحاء الكوكب؟ ليس تماماً. أولاً، يجب عليهم أن يفهموا كيفية عمل هذه المادة الجديدة في درجات الحرارة المختلفة والظروف الأخرى، وكيف تبدو في المقاييس الأصغر.

اقرأ أيضاً: ما تبعات أزمة الطاقة الأوروبية على تجارب مصادم الهادرونات الكبير؟

تقول زوريك: "نحن لا نعرف التركيبة الكيميائية لهذه المادة بعد. في رأيي، ستكون مختلفة تماماً عن مركب الهيدريد العالي الضغط المُكتشف سابقاً".

إذا كانت هذه الموصلات الفائقة قابلة للتطبيق، فسيتعين على المهندسين تعلم كيفية صنعها للاستخدامات اليومية. وإذا نجحوا في ذلك، فقد يكون لذلك تأثير هائل على التكنولوجيا التي يمكن أن تغيّر العالم.

المحتوى محمي