تُعد جائحة فيروس كورونا في الولايات المتحدة هي أطول وأصعب أزمةٍ صحية تمرّ على البلاد منذ 12 عاماً. خلص باحثون في جامعة فيرمونت إلى هذه النتيجة من خلال تحليل تغريدات الناس عبر تويتر، حيث أطلق مركز «فيرمونت كومبليكس» مشروعاً يهدف إلى دراسة 50 مليون تغريدة يومياً، لاستكشاف مقدار سعادة الناس من خلال الكلمات التي يستخدمونها؛ من أجل مراقبة الحالة المزاجية العامة. يبدو أن المزاج العام هذه الأيام في أدنى مستوياته منذ أن بدأ المشروع عام 2008.
يطلق الباحثون على هذا النوع من تحليل تغريدات تويتر اسم «مقياس السعادة»، ويعتمد أساساً على قيام آلاف الأشخاص بتحليل تغريدات الناس وتصنيف الكلمات المُستخدمة فيها على مقياس يشير إلى مدى «سعادتهم». فعلى سبيل المثال، تحصل كلمة «الضحك» على علامة 8.5، بينما تحصل كلمة «سجن» على 1.76، وهكذا. ثم يستخدمون النتائج لقياس الحالة المزاجية لعامة الناس عبر التويتر.
تشير هذه التغريدات نفسها إلى وجود علاجٍ محتمل لانحدار الحالة المزاجية العامة. فقبل بدء تدابير الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا؛ قارن طالب الدكتوراه« آرون شوارتز» الحالة المزاجية العامة من خلال التغريدات قبل وأثناء وبعد زيارة 150 منتزهاً وملعباً وساحة عامة في سان فرانسيسكو. وجد شوارتز أن زيارة المنتزهات تزيد شعور السعادة لدى الناس، ويستمر هذا التأثير لمدة تصل إلى 4 ساعات بعد الزيارة.
تضمنت التغريدات الواردة أثناء زيارة المتنزهات كلماتٍ سلبية أقل مثل «لا» و«لا أستطيع»، وعدداً أقل من استخدام الضمائر مثل «أنا» و«لي». يبدو أن الطبيعة تجعل الناس يشعرون بشعور إيجابي أكثر، ويقل تركيزهم على أنفسهم.
تسهم المنتزهات في إسعاد الناس والتخفيف من همومهم في أوقات الأزمات، مثل المشاكل الاقتصادية الكبرى والاضطرابات الاجتماعية. وقد أظهرت الأبحاث أيضاً أن معدل انتشار فيروس كورونا أقل بكثير في الأماكن الخارجية منها في الداخل. بصفتنا باحثين ندرس الحفاظ على الأنواع، وكيفية مساهمة الطبيعة في رفاهية الإنسان، نرى أن فتح المنتزهات وإنشاء حدائق جديدة يمكن أن يخفف كثيراً من حالة الكآبة العامة لدى الناس في الوقت الراهن.
ارتفاع معدل زيارة المنتزهات أثناء الجائحة
وفقاً لمقياس السعادة، بدأت المشاعر والعواطف التي عادة ما كان يعبّر الناس عنها عبر الإنترنت تتخذ منحىً سلبياً في منتصف شهر مارس/ آذار؛ ليظهر تأثير جائحة فيروس كورونا جلياً على الناس. ومع استمرار تدابير الإغلاق العام، سُجلت أعلى درجات المشاعر السلبية على الإطلاق. كما يمكن ملاحظة تأثير عدة أحداث مأساوية على تغريدات الناس، مثل وفاة «جورج فلويد» على يد الشرطة في أواخر مايو/ آيار، والاحتجاجات التي تلتها، ورد فعل الشرطة عليها. لقد كان يوم 31 مايو/ آيار أتعس يومٍ على الأطلاق سجله المشروع.
وقد أظهرت الدراسات الاستقصائية الأخيرة لزوار المتنزهات في جميع أنحاء جامعة فيرمونت؛ أن الناس يلجؤون لزيارة المساحات الخضراء بشكلٍ أكبر منذ أن بدأت إجراءات الإغلاق. وعبّر كثيرون بأن الحدائق والمنتزهات كانت بمثابة متنفّسٍ مهم لهم أثناء الإغلاق.
https://twitter.com/Suvd19486406/status/1289428912879964160
يبدو الأثر الأقوى للطبيعة أكبر في المنتزهات ذات المساحة الكبيرة التي تضم الكثير من الأشجار. مع ذلك، فإن الحدائق الصغيرة المنتشرة في الأحياء مهمة أيضاً، وتوفّر ملاذاً يؤثر إيجابياً على الناس، ويمنحهم سعادة حقيقية يمكن قياسها أيضاً.
أظهر تحليل تغريدات تويتر أن الحدائق تزيد السعادة إلى مستوى مشابه لأثر عيد الميلاد لدى الناس، والذي عادة ما يكون أسعد يومٍ في السنة. لذلك قرر شوارتز توسيع دراسته لتشمل أكبر 25 مدينة في الولايات المتحدة. وجد نفس الأثر في كل مكان. في الواقع، لن تعالج المتنزهات والأماكن العامة مرض كوفيد-19، أو تحد من وحشية الشرطة، لكنها أثرها يتجاوز مجرد كونها أماكن عامة ومنتزهات. هناك أدلة متزايدة على أن المنتزهات تحسّن الصحة النفسية والبدنية في العديد من المجتمعات.
على سبيل المثال، أجرى باحثون في جامعة ستانفورد دراسة انطوت على خروج الناس للتنزه في مجموعتين. الأول تتنزه في منتزهٍ محلّي، والأخرى في شارعٍ مزدحم. أظهر أولئك تنزهوا في الطبيعة تحسناً في المزاج وأداءً أفضل للذاكرة من المجموعة التي سارت في الشوارع المزدحمة. وأظهرت دراسة أخرى أجرتها جامعة بنسلفانيا بقيادة Jجينا ساوث» أن زراعة المساحات الخالية في فيلادلفيا وتنظيفها قلل من شعور السكان المحليين بالاكتئاب وانعدام القيمة، وحسّن صحتهم النفسية.
إستراتيجيات إبداعية
ليس من السهل بناء متنزهاتٍ جديدة على مستوى متنزه «جولدن جايت» في سان فرانسيسكو أو واشنطن مول، ولكن يمكن القيام بمشاريع صغيرة تزيد من المساحات الخارجية الخضراء. على سبيل المثال، زراعة المساحات الخالية، والاستثمار في الحدائق القائمة حالياً لجعلها أكثر أماناً وخضرة ووافرة الظلال، وتدعم الحياة البرّية.
ليس بالضرورة أن تكون هذه الاستثمارات مكلفة. ففي دراسةٍ أجرتها جامعة بنسلفانيا مثلاً، أظهرت أن تكلفة إعادة إحياء أرض خالية من خلال إزالة النفايات، وزرعها بالحشائش والأشجار، وتركيب سياجٍ منخفض؛ بلغت حوالي 1600 دولاراً فقط.
وتشتد الحاجة إلى إنشاء المساحات الخضراء بين الأحياء الفقيرة، خصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار التأثير غير المتناسب لجائحة فيروس كورونا على مجتمعات مختلفة مثل أصحاب البشرة السمراء، واللاتينيين.
يمكن للمدن أيضاً إنشاء مساحات شبيهةٍ بالمنتزهات عن طريق إغلاق الشوارع أمام السيارات. حيث تقوم العديد من المدن حالياً بإعادة تجهيز أنظمة النقل فيها لإعادة تخصيص الأماكن العامة، وتوسيع الأرصفة، وزيادة المساحات الخضراء.
ويمكن لمخططي المدن والفنانين وعلماء البيئة والمواطنين الآخرين أيضاً أن يلعبوا دوراً مباشراً في إنشاء الحدائق المتنقلة، والمساحات الخضراء. يقوم بعض مؤيدي فكرة زيادة المساحات الخضراء في المدن بتحويل بعض أماكن وقوف السيارات على جوانب الطرقات والأماكن الصغيرة المهملة في المدن؛ إلى حدائق صغيرة تتألف من مرجٍ عشبي بسيط، بالإضافة إلى شجرةٍ مزروعةٍ بأصيص للفت الرأي العام إلى مشكلة ازدياد المساحات المخصصة للسيارات على حساب المساحات الخضراء.
ويمكن للمدن أيضاً زيادة استثماراتها في المساحات الخضراء. فقد حازت مدن مينيابوليس، وسينسيناتي، وأرلينغتون في ولاية فيرجينيا على تقدير وطني لاستثماراتها الطموحة في أنظمة الحدائق العامة. يمكن أن تكون هذه المناطق بمثابة نماذج للأحياء التي تفتقر إلى المتنزهات.
Looking to safely get outside? Check out the best parks for social distancing in this year's top ten ParkScore cities. By @MelanieDGKaplan via @WaPoTravel https://t.co/SyIX9iP1ys
— Trust for Public Land (@tpl_org) June 26, 2020
صفقة منتزه جديد؟
قادت الولايات المتحدة عبر التاريخ حركة التعافي الاقتصادي بعد الأزمات الكبرى من خلال ضخ الاستثمارات في البنية التحتية الرئيسية، كمشروع «الصفقة الجديدة» في الثلاثينيات، والذي تضمن مجموعة من البرامج الاقتصادية والقوانين الجديدة استجابةً للكساد الكبير حينها، وقانون الانتعاش وإعادة الاستثمار الأميركي لعام 2009، والذي يتكون من حزمة إجراءات اقتصادية لتحفيز الاقتصاد بعد الانهيار الاقتصادي عام 2008. يمكن أن تُضمّن مثل هذه الاستثمارات بسهولة تخصيص مساحاتٍ إضافية لإنشاء منتزهاتٍ وطنية.
في الواقع، تضيف بيانات مقياس السعادة الذي يحلل بيانات تغريدات تويتر أدلة تضاف إلى الأدلة السابقة حول الفوائد الصحية والنفسية الواضحة التي تعود على الناس جرّاء زيادة المساحات الخضراء حولهم، ناهيك عن أن إنشاء منتزهاتٍ جديدة يؤدي إلى خلق فرص عملٍ جديدة، ويزيد النشاط الاقتصادي على المستوى المحلي.
نعتقد أن الاستثمار في الطبيعة يستحق العناء فعلاً نظراً لما تقدمه من فوائد للسكان على المدى القصير في الأوقات الصعبة، بالإضافة إلى فوائدها طويلة الأمد على الصحة العامة، والاقتصاد والمجتمعات.