إذا زرت متحف ويتني للفن الأميركي، يمكنك أن تقف تحت تلفاز قديم معلَّق على الحائط، وتشاهد مجموعة من الغيوم الرقمية التي تعبر الشاشة ببطء. انتزعت هذه الغيوم من سياقها الأساسي في أحد ألعاب سوبر ماريو من قِبل فنان الوسائط المتعددة كوري أركانجل، وأطلق على هذا العمل اسم سوبر ماريو كلاودز 2002. تثير هذه السماء الاصطناعية شعوراً غريباً بعدم الارتياح، حيث إنها مألوفة ولكن بدرجة غير كافية تثير الأعصاب.
أثناء تحديقي في الحركة البطيئة لعمل أركانجل، تساءلت: إذا تسبب ارتفاع منسوب البحار وتلوث الهواء واشتداد الحرارة في دفعنا يوماً ما إلى العيش تحت الأرض، فهل هذا كل ما سيبقى لنا من السماء؟
لطالما عاش البشر تحت الأرض منذ ملايين السنين، ولكن بشكل متقطع. فقد ترك أجدادنا الذين كانوا يرسمون على جدران الكهوف طبعات لأيديهم ومشاهد من الصيد. وفي تونس، ما زال الكثيرون يعيشون في بيوت تطلق عليها صحيفة ذا أتلانتيك تسمية "المنازل الشبيهة بالحفر"، حيث تحفر الغرف ضمن الأرض، وتُترك في الوسط فتحة تطل على السماء. وفي قرية كوبر بيدي المخبأة في أستراليا، يصلي السكان في كاتدرائية تحت الأرض، وينام نزلاء الفندق في غرف مخططة بالطبقات الرسوبية.
وما زالت التنمية مستمرة تحت الأرض حتى هذه اللحظة. حيث تحتفظ الكثير من المدن الشمالية بأنفاق تحت الأرض -وبعضها معقد لدرجة تسميتها بمدن الظل- وذلك للتكيف مع قساوة فصول الشتاء. وفي بكين، يعيش مليون شخص في الملاجئ النووية تحت المناطق الحضرية المكتظة في المدينة. كما أن بعض المدن الأخرى مثل لندن ومكسيكو سيتي تسعى إلى التوسع نحو الأسفل، بما أن التوسع الأفقي والعامودي بدأ يصل إلى حدوده.
وعلى الرغم من هذا، فقد كان سكان الكهوف يغادرونها إلى الخارج؛ حيث إن العيش تحت الأرض بشكل كامل أمر غير مسبوق، لدرجة أنه لا يمكن تخيله على الإطلاق. ولكن الخبراء يقولون إن من الممكن للبشر أن يعيشوا تحت الأرض بشكل جيد، وصحي إلى حد غير متوقع، إذا اعتمدوا على تصاميم جيدة والكثير من الدعم النفسي. من المريح أن نعلم هذا، لأن العالم في الأعلى بدأ يزداد عدوانية تجاه البشر.
نور دائم
من أهم الفروقات بين العيش فوق الأرض وتحتها: ضوء الشمس؛ حيث إن الأشعة فوق البنفسجية بحزمتيها الطويلة والقصيرة ضرورية لنمو النباتات من أجل الغذاء، وتحفيز إنتاج الفيتامين ب في الجسم البشري. ويبدو أن هذه الأشعة الذهبية تقوم أيضاً بتنظيم عمل الجهاز المناعي، وتساعد على علاج داء الصدف، وتحافظ على سعادتنا. ولكن لا ضرورة لأنْ يكون "ضوء الشمس" ناتجاً عن الشمس نفسها، حيث توجد مصابيح ليد قادرة على إصدار الأمواج فوق البنفسجية التي تحتاجها أجسادنا ومحاصيلنا.
ستكون المزارع تحت الأرض على شكل صناديق معدنية تضاء بمصابيح عالية الاستطاعة وتجري فيها مياه مكررة غنية بالمواد المغذية، بدلاً من الشكل التقليدي مترامي الأطراف للحقول التقليدية التي يغطيها ضوء الشمس. توجد أنظمة كهذه حالياً، وعلى سبيل المثال تقوم شركة سكوير روتس -وهي شركة للمزارع المغلقة- بزراعة صفوف عمودية من الخضار الورقية ف- مستوعبات شحن مغلقة ومكتظة بمصابيح ليد الزرقاء والحمراء. وباستخدام طريقة الزراعة المائية، يمكن للمزارعين ضخ المياه المليئة بالمغذيات عبر شبكة من الرفوف المبنية لدعم حياة النباتات. وعلى الرغم من أن هذه الأنظمة تعمل في مساحة مخصصة لركن السيارات في بروكلين، إلا أنها -من الناحية العملية- تحت الأرض، طالما وجدت الكهرباء.
غير أن تأمين الغذاء لا يكفي؛ حيث يحتاج البشر أيضاً إلى الفيتامين د للحفاظ على صحة العظام. ويعتبر التعرض إلى ضوء الشمس أفضل مصدر معروف لهذا الفيتامين، حيث يشجع أجسادنا على إنتاجه. ويوجد طبعاً أساليب أخرى للحصول عليه، فقد أوردت مجلة سلايت تقريراً عن طائفة روسية مغلقة تمكنت من الحياة تحت الأرض، ويعود هذا بشكل جزئي إلى الأغذية الغنية بفيتامين د، وإذا تمكنَّا من تربية الحيوانات في مأوانا تحت الأرض، فسوف نبقى في حال جيدة بفضل صفار البيض والسمك والحليب والجبنة. وإذا لم ينجح هذا، يمكننا أن نعتمد على المكملات الغذائية والأغذية المدعمة بفيتامين د، مثل حبوب الإفطار والعصير.
وقد يكون المزاج الجيد أيضاً معرضاً للخطر. حيث إن الاضطراب العاطفي الموسمي -المعروف باسمه المختصر: SAD (وهي تهجئة كلمة حزين بالإنجليزية)، وهو يناسبه إلى حد كبير- يعتبر من أهم المشاكل في فصل الشتاء. ومع تناقص ضوء الشمس، يلجأ الكثيرون إلى "مصابيح السعادة" التي تؤمن بديلاً اصطناعياً مناسباً. وعلى الرغم من حاجة بعض من يعانون من هذا الاضطراب إلى مضادات اكتئاب أو أشكال أخرى من الدعم، إلا أن العلاج بالضوء بشكل دقيق قد يخفف من أغلب الأعراض الشديدة.
ولكن قد تسوء الأمور إلى درجة أكبر من هذا تحت الأرض، حيث تم توثيق حالات نوم تدوم إلى 48 ساعة دفعة واحدة لبعض البشر المعزولين في كهوف خالية من الإضاءة. وبالتالي فإن استخدام الإضاءة الاصطناعية لتنظيم الإيقاع اليومي للجسم البشري سيكون مكوَّناً هاماً في أي عالم تحت الأرض.
ذهن صافٍ
قد يكون العيش تحت الأرض ممكناً من الناحية الجسدية، ولكنه يتسبب في أعباء نفسية من دون شك. ويقول لورنس بالينكاس (وهو بروفسور في جامعة ساوثرن كاليفورنيا وخبير في البيئات الصعبة) إنه عادة ما يتم تدقيق المرشحين للعمل في مكان محدود، مثل محطة الفضاء الدولية أو موقع بحثي بعيد في القطب الشمالي، بحثاً عن ميزات تسمح لهم بالحياة بشكل جيد في هذه الظروف الصعبة. وتعتبر بعض هذه الميزات -مثل الانفتاح على التجارب الجديدة- ضرورية للغاية.
ولكن يمكن لطاقم متعدد الأهواء من البشر أن يعيش بشكل جيد، إذا تعاونوا معاً. ويمكن تخصيص مجموعة من الأشخاص الذين يتمتعون بميزات تشبه ميزات رواد الفضاء للعب دور "مشرفي التغيير" لتأسيس تقاليد ثقافية جديدة، كما يمكن أن يقوم مسؤولو التعليم بنشر المعلومات والأدوات التي يحتاجها الناس للحياة والازدهار تحت الأرض. يقول بالينكاس: "مع مرور الوقت، يمكن أن نتخيل أن الناس سيتكيفون مع الحياة تحت الأرض، ويتمكنون من تبنّي أنماط سلوكية جديدة تمكنهم من العيش بشكل مريح بدون تأثيرات ضارة على الصحة والحياة عموماً".
ويمكن أن يلعب التصميم دوراً هاماً في التكيف أيضاً. وقد أدرك الباحثون في القطب الجنوبي -حيث تندر النباتات الخضراء- أن الدفيئات المخبرية مفيدة لتحسين المزاج بشكل كبير. ويمكن أن تحتل مساحات خضراء مماثلة جزءاً من بيوتنا تحت الأرض. وهناك عوامل أخرى إيجابية سترافقنا في سكننا الأرضي أيضاً، مثل الصور والأصوات والروائح، وليس فقط بشكل رقمي مثل غيوم سوبر ماريو. حيث تتضمن مخططات مدينة تحت الأرض في سنغافورة فتحات عميقة لإدخال ضوء الشمس إلى الأسفل. وتقول البي بي سي إن متنزه لولاين في نيويورك -وهو أول متنزه تحت الأرض في العالم- "سيؤمن مساحات تنفس عبر واحات ممتازة الإضاءة بأشجار نخيل وسماء اصطناعية".
في المحصلة، إذا كانت التكنولوجيا قادرة على دعم حياتنا في الفضاء، فمن المرجح أنها قادرة على دعمها داخل كوكبنا أيضاً. ويبقى أن نرى ما إذا كنا في حاجة إلى القيام بهذا الأمر فعلاً، أو تنفيذه على النطاق الواسع المطلوب. ومهما تكن النتيجة "فمن المؤكد أن الموضوع أكبر بكثير من مجرد إحداث حفرة في الأرض" بحسب تعبير بالينكاس.