كثيراً ما يُشاع أن تقنية «البلوك تشين» تُستخدم في تعدين العملات المشفرة مثل «البيتكوين» أو غيرها من العملات، لكن تقنيات البلوك تشين تتسع بداخلها دائرة كبيرة من العمليات التقنية المتطورة مثل؛ تخزين البيانات وتشفيرها لحمايتها من الاختراق، وكذلك عمليات نقل البيانات العملاقة بصورة آمنة وسريعة، وبتكلفة شبه معدومة. من هنا ظهرت فكرة استخدام تقنيات «البلوك تشين» في مخيمات اللاجئين لتوفير المساعدات المالية، أو عمليات نقل البيانات وغيرها من العمليات التي تنقذ حياتهم.
تجربة الأردن الناجحة
على مسافة نحو 10 كم من الحدود الأردنية السورية، يقبع المتجر القريب من مخيم «الزعتري» للاجئين السوريين، والذي يضم بداخله أكثر من 75 ألف شخص. وعلى عكس كل المتاجر التي نعرفها، فبعدما يحصل الفرد على حاجياته من المتجر، لن يضطر إلى إخراج بطاقته الائتمانية، أو أوراقه النقدية، بل يتطلب الأمر النظر نحو عدسة ذكية تتوسط مرآة تقوم بقراءة بصمة العين، لتُسجل عملية الدفع تلقائياً.
بهذه الكيفية، يصبح مخيم الزعتري أول تجربة من نوعها في تاريخ البشرية في استخدام تقنيات «البلوك تشين» في أعمال المساعدة والإغاثة الإنسانية في مخيمات اللاجئين. ظهر البرنامج لأول مرة عام 2017 تحت إشراف منظمة الغذاء التابعة للأمم المتحدة، بهدف خدمة 500 ألف لاجئ في مختلف بلدان العالم، من بينهم 100 ألف لاجئ سوري في الأردن.
يقوم مشروع تخزين البيانات في هذه النقطة على تجميع كافة المعلومات الخاصة باللاجئين في المخيم مثل: بطاقة الهوية الرسمية، وصورة الوجه حتى يستطيع الولوج إلى نظام التعرف المعتمد بصورة رئيسية على البلوك تشين؛ باعتباره وسيلة التعامل الرسمية للحصول على المواد الغذائية والأدوية. بالإضافة إلى ذلك، يقوم نظام التعرف بتسجيل تاريخ العمليات التي تمت لكل شخص، ومعرفة مدى دقة التوزيع على المتواجدين في المخيم، لضمان عدالة التوزيع، ووصول المواد إلى كافة القاطنين فيه.
ومن هنا يمكن اعتبار ذلك حلاً مثالياً لمسألة الدعم النقدي التي تطلب الكثير من الوقت، بسبب الطبيعة الجغرافية لمناطق اللجوء البعيدة عن العمران، وأثر ذلك على صعوبة الوصول إلى مؤسسات مصرفية. بالإضافة إلى أزمة أوراق الهوية وغيرها من المستندات التي فقدها اللاجئون خلال خروجهم من مناطق الصراع، حيث فقد أكثر من 70% من اللاجئين السوريين أوراقهم الثبوتية، من بينهم نساء وأطفال، وهو ما يمكن أن يشكل عائقاً في الحصول على المساعدات إذا ارتبط تقديم المساعدات بمستندات إثبات الهوية.
طرق ذكية للتنفيذ
تقنية «البلوك تشين» ما هي إلا مجموعة من الخوادم المشفرة ذات قدرات تخزين واسعة، يمكنها توفير أكبر قدر ممكن من عمليات التخزين بأمان كامل، وبقدرة متميزة على الوصول إلى البيانات بشكلٍ ذكي، يتميز كثيراً عن معالجات تخزين البيانات التقليدية. من هنا يمكن السؤال عن مجموعة من الطرق الذكية التي يمكن من خلالها تعميم تجربة «البلوك تشين» في مخيمات اللاجئين حول العالم.
يمكن لتقنية البلوك تشين تحسين الأوضاع في مخيمات اللاجئين، من خلال واحدة من أهم الأمور، وهي تكوين قاعدة بيانات ضخمة بعدد القاطنين في المخيمات، تتضمن بيانات الهوية وسجلات الحالة الصحية.
يأتي بعد ذلك شق اقتصادي ضروري للغاية، وهو تخفيض نفقات عمليات تحويل الأموال ما بين المنظمات التي تقدم الدعم والتمويل، وبين الجهات المسؤولة عن تقديم الدعم المباشر. فعمليات التحويل النقدي إلى بيانات تتصل بالمؤسسات المصرفية عن طريق قاعدة بيانات البلوك تشين، بدلاً من عمليات التحويل المباشر عبر البنوك؛ يمكن أن يوفر قدراً كبيراً من تبعات عمليات التحويل المالي الكبيرة.
مشروع «قسائم الإيثروم»، هو برنامج هيئة الغذاء التابعة للأمم المتحدة، والذي يقوم على تقديم قسائم لقاطني المخيمات بما يعادل قيمة عملة «الإيثروم» المشفرة، والتي جرى الاعتماد عليها لانخفاض سعرها بشكلٍ كبير مقارنة بالبيتكوين الأكثر شهرة والأعلى ثمناً. يقتضي البرنامج حصول قاطني المخيمات على الحاجيات الأساسية مقابل القسائم، التي تستمد بياناتها المسجلة من قاعدة بيانات البلوك تشين. بذلك تخرج عن دائرة التداول النقدي المعتادة، والتي عادة ما تفشل في مثل هذه الأزمات.
أما عن استفادة الهيئات الرسمية في الدول المستضيفة من التقنية؛ فتتمثل في تسريع وضبط عملية الحَوكمة والتنسيق عند استقبال أعداد كبيرة من اللاجئين، كما جرى الحال في تجربة فنلندا بعد استقبال آلاف اللاجئين. اعتمد برنامج الدعم المالي على أن تقوم الحكومة بتسليم الأسر والأفراد بطاقات ائتمانية بنكية، يمكنهم من خلالها القيام بعمليات الشراء والمعاملات المختلفة، حيث تكون جميع البطاقات مسجلة داخل قاعدة بيانات ضخمة، قائمة على البلوك تشين. ساعد ذلك الحكومة الفنلندية على تنسيق الأمر بصورةٍ متميزة وبشكلٍ مرن، وما زال البرنامج يسير بصورة منضبطة حتى الآن.
بجانب ذلك كله، يمكن للبلوك تشين المساعدة في إنقاذ حياة الكثيرين القاطنين في مخيمات اللاجئين، والذين يواجهون ظروفاً قاسية، حيث تسمح بتسريع عمليات التحويل بصورةٍ كبيرة، لضمان استمرارية الدعم، بدلاً من الظروف الروتينية البطيئة التي تستغرقها عمليات تحويل الأموال عبر الدول إذا ما تمت عبر الهيئات البنكية. بالإضافة إلى أن كونها أكثر أمناً في حال مرور الأموال عبر بنوك في دول غير مستقرة، قد تتعرض لعمليات اختراق أو سرقة، فالبلوك تشين خارج هذه الدائرة تماماً.
ومن هنا يمكننا فهم كيف يمكن لتقنية غاية في الذكاء والأمان أن تنقذ أرواح الملايين، وأن تساعد الهيئات الحكومية والدولية في القيام بأدوارها بصورة منسقة ومرنة، وأكثر سهولة من المعتاد.