مثل بقيّة الصبية الذين نشأوا في ريتشموند في ولاية فيرجينيا، أحبَّ غاي سبيلر برنامج "البحار بوب" (The Sailor Bob)، وهو برنامج محلي للأطفال عن بحار خلاّق يدعى بوب وطاقم الدمى الذي يعمل معه. لكن ما قام به مهندس البث شبه المتقاعد هذا بعد نحو خمسين سنة كان رائعاً. فقد قرر رقمنة الأشرطة الأصلية للبرنامج باستخدام واحد من الأجهزة القليلة الباقية على قيد الحياة والتي تستطيع تشغيل تلك الأشرطة القديمة. يقول سبيلر: "ما أجمل أن أمسك بأشرطة الحلقات التي شاهدتها في صغري، أشاهدها وأتذكر جميع أغانيها ومقاطعها.. إنها تجربة مدهشة". في هذا العصر الذي صار يمكن فيه العثور على أي مقطع فيديو، مهما كان قديماً، بالبحث في موقع يوتيوب، قد نظن أن تاريخ التلفاز محفوظ بأكمله، إلا أنه ظن خاطئ. وسواء تعلّق الأمر ببرنامج "البحار بوب" أو بعض الدعايات القديمة الشهيرة، فإن الكثير من مواد التلفزيون ذات الميزانيات البسيطة والتي عُرضت على مدار ثلاثين عاماً قبل ظهور البرامج المحفوظة رقمياً، لا تزال معرضة لخطر الضياع إلى الأبد.
لو قدت سيارتك مسافة 130 كم تقريباً شمال مدينة مدلوثيان في فيرجينيا حيث يقطن سبيلر، فستدرك هذه الحقيقة بكل وضوح. ففي حرم مكتبة باكارد التابعة لمكتبة الكونغرس والخاصة بحفظ المواد السمعية والبصرية، ستجد 40,000 شريط فيديو بعرض 5 سم مسجل بالنظام الرباعي كوادروبليكس Quadruplex على غرار برنامج البحار بوب. ولم تجرِ رقمنة سوى جزء صغير من هذا العدد الهائل من الأشرطة، وهي أشرطة المواد الأكثر شهرة عادة، مثل الخطاب الأول للرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور على شاشة تلفاز ملوّن، أو نشرات الأخبار التي تناولت خبر اغتيال مارتن لوثر كينغ جونيور.
لدى خبراء الأرشيف في المكتبة الكثير من العمل الهام ينتظر الأداء، أما الأشياء قليلة الأهمية مثل مذيع أخبار متقاعد يرغب في حفظ شريطه القديم بالنظام الذي يستخدمه أحفاده الآن ليتمكنوا من مشاهدته، فعادة ما تصل إلى شخص مثل سبيلر، حيث يقوم بتحويل الشريط القديم إلى الصيغة الرقمية المطلوبة. ولكن حتى سبيلر لديه الكثير من الأعمال المتراكمة. فهو واحد من بين مجموعة قليلة من الأشخاص، إضافة إلى الموظفين العاملين في المكتبة، ممن يمتلكون الوسائل والخبرة الضرورية لتحويل هذه المقاطع العتيقة من التلفزيون الأميركي إلى صيغة تناسب العصر الرقمي. يعمل سبيلر من بيته ويرقمن خلال العام ما يعادل 100 ساعة من أشرطة الفيديو القديمة بالنظام الرباعي كوادروبليكس بعرض 5 سم.
حين تدخل إلى استديو سبيلر في قبو منزله تجد المعدات الأساسية التي يستخدمها في عمله: جهازا تصوير فيديو كل منهما بحجم دولاب كبير وبوزن 800 كغ تقريباً من طراز (RCA TR-70C). يخبرنا سبيلر، وهو مرجع موثوق في هذا المجال، أن مثل هذه الأجهزة قد انقرضت منذ ثلاثة عقود مضت. وقد أمضى سبيلر الذي ناهز 67 من العمر السنوات الأولى من وظيفته في استخدام هذه الأجهزة وإصلاحها. وقد نجح حتى الآن في إنقاذ ثمانية منها قبل أن تنتهي إلى مصير محتوم في مكبّ النفايات، ويقول سبيلر ممازحاً: "أشعر بأنني جمعية لرعاية أجهزة البث والتسجيل القديمة".
لقد كانت أجهزة العرض رباعية الرؤوس التي تم إنتاجها عام 1956 من أعقد الأجهزة في تلك الفترة، وقد اختُرعت لتشغيل أشرطة الفيديو قياس 5 سم. كانت تلك التقنية هي الشكل الأول لاستخدام الشريط رسمياً في قطاع البث التلفزيوني، وقد أتاحت حينها إمكانية التسجيل والعرض المباشر لأي برنامج. وكانت الأجزاء الداخلية من جهاز التصوير رباعي الرؤوس تشتمل على مضخات فراغية، وضاغطات هواء، ومحركات، ومكثفات كهرلية، ومقاومات كهربية.
أما المقصود من أنها أجهزة "رباعية" فيخبرنا سبيلر بأن هذه إشارة إلى رؤوس الفيديو الأربعة التي تستخدمها في تقسيم الصورة، ويقول سبيلر: "رؤوس قراءة الفيديو الأربعة هذه ينبغي أن تعمل بتزامن يقترب من الكمال".
وقبل الأجهزة الرباعية كانت القنوات التلفزيونية تسجل البث بتصويره من شاشة التلفاز نفسها. فإن كنت تريد إعادة بث برنامج معين، فسيكون عليك تظهير الفيلم، ولذلك لم يكن بوسع معظم القنوات أن تعرض البرنامج في أوقات مختلفة. لكن الأجهزة الرباعية قد غيّرت ذلك، إلى أن ظهرت الأجهزة الأحدث والأسهل استخداماً اليوم فانقرضت معها كذلك الأجهزة الرباعية.
عندما وجد سبيلر جهاز التسجيل من طراز RCA عام 2010، كان يقبع في زاوية منسية من غرفة تخزين مظلمة في جامعة ولاية جورجيا ولم ير شعاع نور طيلة 27 عاماً. كان الجهاز بحاجة إلى 70 قطعة جديدة من المكثفات الكهرلية، كما احتاج إلى أسبوع كامل من أعمال التصليح لإعادته إلى الحياة. وحين شاهدتُ سبيلر العاشق لعمله يحضّر ويشغّل الجهاز بعد أن ردّ له الروح تبيّن لي السبب الذي يجعل مثل هذا الرجل عملة نادرة، فهو يبدو أثناء عمله كمن يعزف سيمفونية إليكتروميكانيكية طويلة ومعقدة.
قد تحتاج 15 دقيقة تقريباً لتنظيف مسار الشريط: الموجّه، والبكرة الدوارة، والرؤوس الثابتة، ورأس التحكم بالشريط. ويجب القيام بهذه العملية قبل كل عملية تسجيل. وحين تُدخل الشريط في هذه المتاهة الطويلة، فإن الحصول على أفضل صورة يتطلب مراقبة عن قرب وإدارة الأزرار بصورة مستمرة.
على الرغم من جميع التعقيدات في هذه العملية إلا أن المهندس المتقاعد سبيلر يحبها، خصوصاً في عصر التكنولوجيا التي ترمى بعد استخدامها مرة واحدة. ويتقاضى سبيلر مئات الدولارات لرقمنة ساعة واحدة من الفيديو (وهذه الأجرة تتباين كثيراً حسب طبيعة الشريط)، وتصله أشرطة من كافة أرجاء الولايات المتحدة. يقول لنا سبيلر: "إنني أنقذ هذه الأجهزة، وأحفظ برامج من العصر الذهبي للتلفاز، كما أنني أدخل السرور إلى قلوب الناس. نعم إن عملي يحقق لي الرضا العميق من كافة الجوانب".
نشرت هذه المقالة في عدد مايو/يونيو 2017 تحت عنوان "منقذ البرامج التلفزيونية"