في 4 فبراير/ شباط 2023، سجّل طيار طائرة الشبح المقاتلة النفاثة إف-22 أول عملية تدمير جوية-جوية لهذه الطائرة بعد إطلاق صاروخ على منطاد التجسس الصيني قبالة شاطئ ولاية كارولاينا الجنوبية الأميركية. أصاب الصاروخ الذي أطلق من ارتفاع يبلغ نحو 17.6 كيلومتر عن سطح الأرض، وهو من طراز أيه آي إم-9 إكس سايد وايندر (AIM-9X Sidewinder)، المنطاد على ارتفاع يصل إلى نحو 20 كيلومتراً، منهياً حادثة دامت أسبوعاً من الزمن تابعها كل من الشعب الأميركي والجيش الأميركي والكونغرس باهتمام.
قال وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن الثالث (Lloyd J. Austin III)، في بيان مكتوب: "تم إسقاط المنطاد الذي استخدمته الصين للتجسس على المواقع الاستراتيجية في الولايات المتحدة القارية فوق المياه الإقليمية للولايات المتحدة".
دخل المنطاد الصيني المجال الجوي للولايات المتحدة فوق ولاية مونتانا في 1 فبراير/ شباط 2023، ما تسبب في إيقاف الرحلات الجوية من مطار بيلينغز الدولي وإليه. لمدة 4 أيام، من 1 إلى 4 فبراير/ شباط، حلّق المنطاد مع التيارات الهوائية عبر الولايات المتحدة، قبل أن يتم إسقاطه في النهاية فوق المحيط.
اقرأ أيضاً: “بليمب” تمزج بين الطائرة والمنطاد وتعد بنقل جوي آمن
أشار أحد كبار المسؤولين الدفاعيين الأميركيين في مؤتمر صحفي عُقد بتاريخ 2 فبراير/ شباط 2023 إلى أن الولايات المتحدة تعقّبت المنطاد وأنه "دخل وصايتها" منذ دخوله مجالها الجوي. تشمل هذه الوصاية الرحلات الجوية السابقة التي أجراها سلاح الجو الأميركي، والتي حلّقت فيها طائرات إف-22 بجانب المنطاد، على الرغم من أن سلاح الجو قرر عدم إسقاطه عندها نظراً للخطر الذي يمثله ذلك على السكان.
أشار المسؤول مراراً وتكراراً إلى أن المنطاد من صنع الصين وهي تتحكم به، معترفاً بذلك عندما أكد أحد المراسلين أن ولاية مونتانا تحتوي على صواريخ باليستية عابرة للقارات. إن مواقع مستودعات هذه الصواريخ ليست سرية نتيجة لتصميمها، ويعود ذلك إلى تطبيق السياسات النووية التي وضعت خلال الحرب الباردة، والتي نصت على بناء المستودعات في أماكن بعيدة عن المراكز الحضرية الكثيفة لضمان توجيه بعض الصواريخ النووية على هذه المستودعات بدلاً من المدن. من المحتمل استخلاص بعض المعلومات الحديثة من مراقبة العمليات اليومية التي تجرى في المستودعات. لذلك، من المحتمل أن هذا ما تم استهدافه بواسطة مستشعرات المنطاد.
قال المسؤول سابق الذكر: "أفضل تقييم لدينا في الوقت الحالي هو أنه مهما كانت أجهزة المراقبة المحمولة على هذا المنطاد، فإنها لا تستطيع تجميع معلومات مختلفة عن تلك التي تستطيع الصين جمعها باستخدام الأدوات مثل الأقمار الاصطناعية التي تدور في المدار الأرضي المنخفض"، وأضاف: "لكن لتوخي الحذر، اتخذنا بعض الخطوات الاحترازية الإضافية. لن أفصّل في هذه الخطوات حالياً، ولكننا نعلم موقع المنطاد وما سيطير فوقه بدقة. كما أننا نتخذ بعض الخطوات لنكون أكثر يقظة حتى نتمكن من التخفيف من أي مخاطر استخباراتية أجنبية".
أشار المسؤول في المؤتمر نفسه إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي "يطير فيها منطاد من هذا النوع فوق الولايات المتحدة القارية. حدث ذلك عدة مرات خلال السنوات القليلة الماضية، ويتضمن ذلك فترة الإدارة الأميركية السابقة".
على الرغم من أن هذا الحدث أثار اهتمام الكثيرين في الولايات المتحدة (لدرجة أنه ألهم مشهداً مسرحياً ساخراً في برنامج ساترداي نايت لايف، Saturday Night Live)، فإن استخدام المناطيد لأهداف استخباراتية يعود لقرون مضت. سنستعرض فيما يلي ما نعرفه عن تاريخ هذه الآلية الاستخباراتية.
مناطيد تجريبية
تم استخدام المناطيد في عمليات المراقبة العسكرية منذ عام 1794، عندما أطلقها الثوريون الفرنسيون لمراقبة تحركات السكان والمدافع من الجو. في الحرب الأهلية الأميركية، استخدمت قوات الاتحاد والتحالف المناطيد التي طارت لارتفاعات تصل إلى 300 متر لمراقبة النشاطات على الأرض. كان التواصل مع المناطيد في ذلك الزمن صعباً؛ إذ استخدم عمال المناطيد أعلام الإشارات أو أسلاك التلغراف للإبلاغ عن مشاهداتهم. تم ربط هذه المناطيد بالأرض، ما أتاح للأطقم التي تعمل هناك سحبها وإعادتها. في هذا السياق، كانت المناطيد أشبه بأبراج المراقبة القابلة للإطلاق بدلاً من مركبات الاستطلاع.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لشخصٍ واحد التحكم بـ 130 طائرة درون في نفس الوقت؟
لاحقاً، استخدم البشر المناطيد في الحرب العالمية الأولى لتصوير ساحات المعارك. على الرغم من أن طباعة هذه الصور استغرقت الكثير من الوقت، كانت المعلومات التي جمعتها المناطيد مفيدة نتيجة لأن الجبهات في معارك هذه الحرب كانت طويلة وساكنة، أو على الأقل، كانت هذه المعلومات مفيدة طالما لم يتم إسقاط المناطيد باستخدام الطائرات المقاتلة الأولى. حصل الطيار في الجيش الأميركي، فرانك لوك (Frank Luke)، على لقب "مدمّر المناطيد من أريزونا" لإسقاطه 18 منطاد تجسس ألمانياً في الحرب العالمية الأولى.
تم استخدام السفن الهوائية الصلبة أيضاً في الحرب العالمية الأولى للقصف والتجسس. تستطيع السفن الهوائية التحرك من تلقاء نفسها ولم يتم ربطها بالأرض، ما أتاح لها الطيران فوق خطوط العدو.
في الحرب العالمية الثانية، صممت اليابان المناطيد القادرة على الطيران على ارتفاعات عالية، والتي تم رفعها لتصل إلى مناطق التيارات النفاثة المكتشفة حديثاً، ثم حملها بواسطة الرياح العالية عبر المحيط الهادئ. تم إطلاق أكثر من 9 آلاف منطاد من طراز فوغو (FuGo) إلى التيارات النفاثة. واحتوت هذه المناطيد على القنابل الحارقة المصممة لإحراق المدن والغابات.
كانت فاعلية الهجمات التي شنّتها هذه المناطيد محدودة نظراً لأنها اعتمدت على الرياح التي كانت أكثر شدة في الفترة بين شهري نوفمبر/ تشرين الثاني ومارس/ آذار، والتي تزداد فيها معدلات الرطوبة وتنخفض درجات الحرارة في منطقة شمال غرب المحيط الهادئ، ما حد من إمكانية انتشار الحرائق التي قد تتسبب فيها هذه المناطيد. وبالفعل، بخلاف الحرائق، فإن الوفيات الناجمة عن مناطيد فوغو اقتصرت على وفاة عائلة تتنزه وتحقق في جهاز غامض.
عيون تحلّق في السماء
تحد العوامل مثل كيفية توجيه المناطيد والمعلومات التي تستطيع إرسالها من فاعلية عمليات المراقبة بعيدة المدى التي تجرى باستخدام المناطيد. ترصد مناطيد الطقس التي يتم إطلاقها كل ساعة الظروف الجوية، وتضمنت حادثة سقوط المنطاد الشهيرة التي وقعت عام 1947 في مدينة روزويل في ولاية نيو مكسيكو الأميركية منطاداً يحمل مستشعرات صوتية صُممت لتسجيل أصوات الانفجارات النووية التي أجراها الاتحاد السوفيتي.
اقرأ أيضاً: كيف سيصبح توزع الترسانة النووية عالمياً في السنوات القادمة؟
يتمثل أحد أسباب استخدام المناطيد في أنها قادرة على حمل حمولات كبيرة؛ إذ إن الأجسام الأخف من الهواء ذات الأحجام المناسبة تطفو في السماء دون الحاجة لتوليد قوة الرفع. وصف الجنرال الأميركي المسؤول عن منطقة أميركا الشمالية المنطاد الصيني بأن ارتفاعه "يبلغ نحو 61 متراً، بحمولة لها حجم حمولات الطائرات النفاثة".
لا يزال من غير المعروف ما كان هدف هذا المنطاد. من المحتمل أن تحليقه على ارتفاعات كبيرة أتاح له استشعار الإشارات الراديوية وغيرها من الإشارات اللاسلكية بكفاءة أكبر من الأقمار الاصطناعية، لكن هذه الفرضية تكهنية وليست مثبتة.
قد يكون جمع بقايا هذا المنطاد، وخصوصاً أجهزة الاستشعار التي احتوى عليها، مفيداً للغاية. مع ذلك، ستكون جميع المعلومات والتكنولوجيات الحساسة التي سيستولي عليها الجيش الأميركي سرية، ولن يتم نشر إلا أجزاء منها فقط. نظراً لاهتمام الجيوش الأخرى واسع النطاق بتطوير مناطيد التجسس، بالإضافة إلى حقيقة أن حوادث طيران المناطيد وقعت من قبل، من المرجح أن سباق المناطيد في العصر الحديث قد بدأ للتو.