السؤال الذي يتردد باستمرار في عصرنا هذا: هل يقضي الأطفال والمراهقون وقتاً أطول مما ينبغي لهم عند التحديق في الهاتف أو الجهاز اللوحي أو الكمبيوتر؟ هل هناك خطر على صحتهم النفسية؟ هل يجب على الآباء الحد من استخدام أطفالهم للأجهزة التكنولوجية المختلفة؟
تلقى النتائج السلبية اهتماماً أكبر بكثير عادةً، فهي تثير الذعر والرعب بين الآباء وأولياء الأمور. حيث توصي الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال حالياً بأن يحدد الآباء وقت استخدام الشاشات بشكلٍ عام إلى أقل من ساعة في اليوم للأطفال من عمر سنتين إلى 5 سنوات، حتى نتجنب الأضرار الناتجة عن استخدام هذه الشاشات.
لكن هل يستدعي الأمر القلق والذعر إلى هذه الدرجة؟ هل يجب أن يتم تخصيص عدد محدد من الساعات للأطفال والمراهقين من أجل استخدام الشاشات والأجهزة التكنولوجية؟ هل يجب أن يُمنعوا من الأساس من استخدامها؟
يبدو الأمر وكأن التكنولوجيا ستؤذي أطفالنا حتماً، لكن الأمر ليس بهذه الخطورة في الغالب.
الصحة النفسية للأطفال
ربما حان الوقت لأن يتجاهل الأباء الخوف والذعر من الآثار الضارة للوسائط الرقمية على أطفالهم؛ حيث خلصت دراسة في عام 2017، أجراها أستاذ علم النفس التجريبي في جامعة أكسفورد «أندرو بربيلسكي» بالاشتراك مع أستاذة علم النفس «نيتا وينشتاين» من جامعة كارديف، ونُشرت في دورية جمعية أبحاث تنمية الطفل، أن هناك رابط ضئيل للغاية -أو يكاد ينعدم- للآثار الضارة بين استخدام الشاشات الرقمية وبين الصحة النفسية للأطفال.
يمكن للآباء فرض القيود على استخدام أطفالهم للأجهزة الذكية إذا أرادوا ذلك، لكن يجب أن يعرفوا أن هذه القيود لا تستند إلى أدلة علمية حقيقية؛ فعندما قارن الباحثان بين الآباء الذين طبقوا توصيات الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال مع أولئك الذين لم يفعلوا ذلك، لم يجدوا فارقاً كبيراً في مستوى الصحة النفسية للأطفال.
فهناك محدودية في فهم كيفية ارتباط الوقت الذي يقضيه الأطفال على الشاشات الإلكترونية بالصحة النفسية، خاصةً في الأطفال الصغار الذين تبلغ أعمارهم 5 سنوات أو أقل. وعلى ما يبدو أن هذه الإرشادات لم يتم تقييمها من قبل بشكلٍ تجريبي؛ حيث كانت تستند إلى بعض النتائج التي توضح أن استخدام الوسائط الرقمية يمكن أن تتحول إلى نشاطٍ ثابت، وتحل بديلاً للأنشطة الأخرى التي تتطلب الحركة.
على سبيل المثال، قد تتسبب مشاهدة التلفاز لوقت طويل في عدم مشاركة الأطفال في الألعاب الاستكشافية، وفي التواصل مع ذويهم وأقرانهم، وقد تسبب أيضاً فقدان أو قلة النوم لديهم.
بُنيت هذه الدراسة على البيانات التي تم جمعها من عينة تألفت من 19957 من أولياء الأمور الذين تراوحت أعمار أطفالهم بين سنتين إلى خمس سنوات، حيث طُلب منهم تقييم استخدام أطفالهم للأجهزة الرقمية ومدى الصحة النفسية، من حيث مدى تعلق الأطفال بها، ومستويات الفضول والقدرة على التأقلم لدى أطفالهم، وكذلك ملاحظة التأثيرات الإيجابية.
وتبين أن الأطفال الذين التزموا بحدود الاستخدام المُوصى بها من قبل الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال؛ أظهروا مستويات أعلى قليلاً في القدرة على التأقلم، لكن كانت مستويات التأثير الإيجابي متساوية تقريباً بأولئك الذين لم يلتزموا بتلك التوصيات. والأهم من ذلك أن هذه الاختلافات فقدت أهميتها بمجرد أن أخذ الباحثان في عين الاعتبار بعض العوامل السياقية الأخرى، مثل الأصول العرقية ودخل الأسرة ومستوى تعليم الوالدين.
لم تجد الدراسة دليل علمي قاطع على أن الشاشات والأجهزة التكنولوجية هي السبب المباشر للضرر. لكن على ما يبدو أن الخوف من التغيير يعد سبباً كافياً للبالغين حتى يتعاملوا مع الأجهزة الرقمية على أنها المتهم الأول، ومن الواضح أن هذا التحيز المُسبق لم يكن له مبرر من الأساس.
ماذا عن المراهقين؟
لا يتعلق الأمر بالأطفال الصغار فحسب، بل يشمل المراهقين أيضاً؛ حيث وجدت دراسة أخرى في بداية هذا العام، أجراها الأستاذ «أندرو بربيلسكي» بالمشاركة مع الباحثة في علم النفس «إيمي أوربين» من جامعة أكسفورد، ونُشرت في دورية «Nature Human Behaviour»، أن استخدام الأجهزة التكنولوجية يملك تأثيراً ضئيلاً للغاية بالنسبة للصحة النفسية للمراهقين.
بحثت الدراسة في بيانات أكثر من 350 ألف مراهق، شملت معلومات حول الصحة النفسية لهؤلاء المراهقين، واستخدامهم للتكنولوجيا الرقمية، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من المتغيرات. وبعد إجراء الحسابات اللازمة، وجد الباحثان ارتباطاً سلبياً إحصائياً بين استخدام التكنولوجيا والصحة النفسية. لكن كانت هذه التأثيرات ضئيلةً للغاية؛ حيث لم تتجاوز نسبة 0.4% فحسب.
وحتى نرى هذا الرقم في سياقه الصحيح، نظر الباحثان أيضاً في العلاقة بين الصحة النفسية وبين مجموعة المتغيرات الأخرى؛ سواء كانت سلبية مثل التعرض للتنمر أو التدخين، أو إيجابية مثل الحصول على قسط كافٍ من النوم أو تناول وجبة الإفطار أو تناول الخضروات أو ارتداء النظارات أو حتى الذهاب إلى السينما.
وجد الباحثان أن هناك علاقة بين الصحة النفسية للمراهقين بصورةٍ أقوى -سواءً كانت إيجابية أم سلبية- بمعظم هذه المتغيرات الأخرى أكثر من ارتباطها باستخدام التكنولوجيا الرقمية. في الواقع، ارتبط تناول رقائق البطاطس بانتظام ارتباطاً سلبياً بالصحة النفسية بنفس النسبة تقريباً التي يرتبط بها استخدام التكنولوجيا، حتى أن ارتداء النظارات الطبية كان تأثيره السلبي أكبر على الصحة النفسية للمراهقين من تأثير التكنولوجيا.
كما اقترح الباحثان أن الأبحاث السابقة التي حاولت دراسة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على المراهقين، استندت إلى علاقات ترابطية ضعيفة، وطرق بحثية غير شاملة بشكل كافٍ، وبالتالي جاءت باستنتاجات خاطئة في نهاية المطاف.
نحن من نتحكم بالأدوات وليس العكس
لا تقترح هذه النتائج أن نتوقف عن التفكير في أفضل طريقة لتربية أطفالنا في عصر التكنولوجيا الحديثة. ولكن بدلاً من ذلك، تشير إلى ضرورة بحثنا عن طريقة مختلفة، تقدم فائدة أكبر، لمناقشة استخدام الشاشات والتكنولوجيا.
عادةً ما يتحدث الناس عن الأطفال والتكنولوجيا من منظورٍ طبي؛ فنسأل: هل هو أمر صحي أم غير صحي؟ حتى أن علماء النفس يميلون إلى النهج التشخيصي: هل يؤدي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى القلق أو الاكتئاب؟ النرجسية؟ الشعور بالوحدة ومشاعر العزلة؟
تميل هذه النوعية من الأسئلة إلى استبعاد حقيقة هامة متمثلة في أن البشر دائماً يحصلون على خبراتهم من خلال الأدوات. في الواقع، ربما لعبت صناعة الأدوات دوراً محورياً في تطور الإدراك البشري على مر التاريخ.
وبعبارة أخرى، تقدم لنا أدوات هذا العصر الأساس الرمزي لتمثيل الذات البشرية وفهمها؛ فنحن بحاجة ماسة إلى إعادة النظريات القديمة لتربية الأطفال، مع الحفاظ على القيم والمبادئ الأساسية للتربية، مثل التعاطف والاحترام والنزاهة، لتظل ذات صلة بعصرنا حتى مع تغير الاتجاهات الاقتصادية والتكنولوجية المستمرة.
في نهاية المطاف، ما يهم حقاً هو أن نقدم لأطفالنا إحساساً بالمسؤولية والحكم الذاتي من خلال تعليمهم أن هذه الأدوات لا تستخدمنا، بل على العكس، نحن من نستخدمها. يجب على الآباء أن يتوقفوا عن الشعور بالقلق والذعر من وجود خطر وأضرار استخدام أطفالهم للأجهزة الرقمية. لكن بالطبع، يمكن أن تتطور العلاقة بين الطفل وبين الجهاز إلى علاقة غير صحية، عند الإفراط في الاستخدام، وحينها من الواجب أن يتدخل الآباء بشكلٍ حاسم.
ولكن عندما يصوّر البالغون التكنولوجيا الرقمية باعتبارها إغراءً شريراً، أو مسبباً للإدمان، أو لا يمكن التحكم بها، فإننا نعطي هذه الأدوات قيمةً أكبر مما تستحقه بكثير. وبدلاً من ذلك، يمكن تربية هذا الجيل الجديد من الأطفال وهم يعرفون أنهم يمتلكون القدرة على استخدام التكنولوجيا الرقمية، ويمكنهم التحكم بها، ويحاولوا إظهار أفضل طرق الإبداع لديهم من خلالها.