يجيب محرك البحث جوجل عن مليارات الأسئلة سنوياً، ولكن طريقة عمله ما تزال لغزاً تقتصر أسراره على العاملين في الشركة، ويرى البعض -مثل رئيس أميركا دونالد ترامب- أن هذا التعتيم يعود إلى التحيز السياسي، وعلى الرغم من أن الخوارزميات التي يعتمد عليها محرك البحث جوجل في عمله غير معروفة، إلا أن من الممكن الاطلاع على بعض الملامح العامة لعملها وتاريخها، كما أن هذا الغموض هو -في الواقع- أمر جيد بالنسبة لمستخدم الإنترنت العادي.
يعتمد نظام محرك جوجل على خوارزميات خاصة بالشركة، تقدِّم النتائج اعتماداً على ما تعتقد أن الشخص يبحث عنه، ويمكن أن نقول بشكل عام إن هذه الآليات المخفية تأخذ بعض العوامل المنطقية بعين الاعتبار؛ مثل الكلمات المفتاحية التي تظهر في عنوان المقالة وفي رابطها وفي النص، إضافة إلى ترابط مواقع الويب مع بعضها البعض. وتحاول الشركة -لمزيد من التعقيد- أن تخصِّص النتائج لكل مستخدم وفقاً لتاريخ الويب لديه أو موقعه الجغرافي؛ حيث إن البحث عن كلمة "قهوة" في مانهاتن يعطي نتائج مختلفة عن البحث عن نفس الكلمة في شيكاغو، ولا شكَّ في أن الخوارزميات التي تقف خلف هذه العملية غامضة أيضاً.
إذن فنحن لا نعرف كيف تعمل خوارزميات جوجل بالضبط، ناهيك عن أن الشركة تقول إنها تعدِّل هذه الخوارزميات مئات المرات سنوياً، ولكن هناك تكتيكات يستخدمها المسوِّقون وغيرهم من المحترفين من أجل دفع محتواهم إلى أعلى النتائج. وتلعب أمثَلة محركات البحث (SEO) دوراً هاماً في ترتيب ظهور النتائج؛ مما يعني أن الشركات الكبيرة ذات الموارد قادرة على أن تتقن هذه الممارسة، بل قد توجد أقسام كاملة في المنظمات الكبيرة مخصَّصة لهذا العمل، في حين تعتمد المنظمات الأصغر على أساليب أقل فعالية، وتعتبر هذه الأمثَلة -في أفضل الحالات- ممارسة جيدة في مجال الأعمال، كما تمثل -في أسوأ الحالات- فرصة لذوي المهارات التقنية للاحتيال على النظام؛ مما يوقع جوجل في ورطة حول المعلومات التي يجب أن تشاركها مع الآخرين في المقام الأول، ويكشف أهمية وجود محرك بحث يعطي الأفضلية للنتائج التي تستحق المراتب العليا.
يقول ميكلوس سارفاري (بروفسور في التسويق في مدرسة كولومبيا للأعمال) متحدثاً عن أمثَلة محركات البحث وخوارزميات جوجل: "إذا استثنينا الخوارزميات نفسها، فإن محرك البحث أشبه بنظام بيئي يمكن فهمه بشكل جيد. كما أن جوجل لا تهدف إلى تحقيق أي هدف سياسي" من خلال محرك البحث، خصوصاً إذا كانت قادرة على الضغط على مسؤولي واشنطن من أجل مصالحها مثل أية شركة كبيرة أخرى، ويتابع سارفاري قائلاً: "تعمل جوجل على أشياء أكثر أهمية، ولا يهمها أن تتسلى بمسائل التحيز السياسي بين اليمينيين واليساريين، بل إن هدفها -ببساطة- هو أن تلبِّي حاجات مستخدمي محرك البحث".
ويتفق هذا التحليل مع الموقف الرسمي لجوجل في استجابتها لتغريدات ترامب؛ فقد ورد في بيان الشركة: "عندما يكتب المستخدمون استعلاماتهم في مستطيل البحث، فنحن نهدف إلى تقديم أفضل الأجوبة لهم خلال ثوانٍ، ولا يُستخدم البحث لتحقيق أهداف سياسية، ولا ننحاز في نتائجنا نحو أي فكر سياسي معين. كما أننا نطبق في كل سنة مئات التحسينات على خوارزمياتنا؛ حتى نضمن أنها تقدم أفضل محتوى ممكن استجابةً لاستعلامات المستخدمين، إضافة إلى أننا نعمل باستمرار على تحسين محرك البحث، ولا نقوم مطلقاً بتغيير ترتيب نتائج البحث من أجل التلاعب بالعواطف السياسية".
من الجدير بالذكر أيضاً أن مصطلح "تحيز" يحمل معنى مختلفاً عن "إيجابي" أو "سلبي"؛ حيث يشير التحيز -في حالة نتائج البحث- إلى تصنيف متعمد يهدف خصيصَى إلى الترويج لفكرة أو هدف معين، وبالتالي يمكن لنتائج البحث أن تكون غير متحيِّزة، وفي نفس الوقت فائقة الإيجابية أو السلبية.
غير أن المسألة الحقيقية هنا هي غموض الآليات التي تعمل في الكواليس بعد أن يكتب المستخدم شيئاً ما في مستطيل البحث، ولكن لو لم تكن هذه الآليات غامضة لتمكَّن الناس من التلاعب بالنظام من أجل تحسين مرتبة ظهور مواقعهم الإلكترونية في نتائج البحث.
صحيحٌ أن موضوع محرك البحث جوجل أصبح حالياً مسألة سياسية حساسة، إلا أن جذوره تعود إلى حقبة مختلفة للغاية، عندما كان جوجل في بداياته؛ حيث يقول شومان جوسيماجومدر (المسؤول التقني الأساسي لشركة الأمن السيبراني شيب سيكيوريتي، والمسؤول السابق لدى جوجل عن مكافحة رفع أجور الإعلانات على الإنترنت عن طريق النقر المؤتمت عليها): "لقد كان أبرز ابتكارات جوجل في ذلك الوقت -والذي أثَّر على طريقة تعاملها مع عمليات البحث منذ ذلك الحين- هو عدم الاقتصار على النظر إلى الكلمات المفتاحية الموجودة على الصفحة، بل كانت تنظر أيضاً إلى علاقة هذه الصفحة وهذا الموقع ببقية النظام البيئي على الإنترنت"؛ فقد حقَّقت الشركة -على سبيل المثال- خطوةً نحو التدقيق على الصفحات التي تكرِّر الكلمات المفتاحية بلون كتابة أبيض على خلفية بيضاء (حتى لا يسهل كشفها)، والتأكُّد من أنها لم تدخل ضمن نتائج البحث لهذا السبب.
ومن المثير للاهتمام أن بذور ذلك العمل بدأت مع بحثٍ كان يُجريه لاري بيج (المؤسس المشارك لجوجل) في جامعة ستانفورد في التسعينيات، ولم يكن يفكر حينها في عمليات البحث؛ يقول بيج عن تلك الفترة ووفقاً للتاريخ الشفهي لألان فيشر عن وادي السيليكون (وادي العبقرية): "من المذهل أنني لم أكن قد فكرت في بناء محرك بحث، بل لم تكن الفكرة مجرد احتمال حتى".
غير أن الشركة أنشأت محرك البحث لاحقاً، كما نعرف جميعاً، وتصف جوجل اليوم ما تفعله بشكل عام كالتالي: "تحليل الكلمات المفتاحية، وتصنيف الصفحات المفيدة، وتقديم أفضل النتائج".
يقول جوسيماجومدر: "لا تكشف الشركة عن كل شيء في خوارزمية البحث، أو جميع الأنظمة التي يعتمد عليها محرك البحث؛ حيث إن سلبية الشفافية الكاملة هي في ظهور التلاعب، أي محاولة استغلال المعلومات التي تكشفها جوجل من أجل رفع مرتبة بعض الصفحات في نتائج البحث بشكل غير مبرر، وقد يكون غير مفيد لمعظم المستخدمين".