علاج الاكتئاب يتطلب ما هو أكثر من السيروتونين

5 دقائق
طب, طب نفسي, اكتئاب, مضاذات الاكتئاب, مقالات علمية

مضادات الاكتئاب ليست حلاً مثالياً للاكتئاب. فلماذا إذاً مازلنا نتعامل معها وكأنها كذلك؟

ترى عناويناً عديدةً على شبكة الإنترنت وفي الصحف، وحتى في محادثاتنا اليومية توحي بأن دماغنا يبدو وكأنه حديقة ملاهي. تدور هذه الأحاديث حول أن نظام المكافأة في دماغك يعمل بأقصى طاقته، ويتدفق الدوبامين في دماغك -إنها لحظاتٌ (أو مغامرةٌ) مثيرة- لدينا ارتفاعٌ في هرمون الأدريناين، وغيرها من العبارات التي ترتبط بحالتنا الذهنية، والتعبير عنها بطريقةٍ بسيطة. لم يعد الإكتئاب في هذا العالم هو ذلك الشبح الغامض والمدمر بعد الآن، فهو لا يمثل سوى نقص السيروتونين، مادة السعادة الكيميائية في الدماغ. إلا أن الحقيقة ليست بهذه البساطة بالنسبة لمن يعانون من الاكتئاب.

اقرأ أيضا: هل يعود الاكتئاب بعد العلاج؟

إن ارتباط السيروتونين بالسعادة والاكتئاب وثيق جداً لدرجة أن جزيئاً واحداً منه سيُحدث أثراً إيجابياً على الحالة النفسية. يمكنك تصفح نحو 2000 من القلائد والأقراط والحلي التي تحمل شكل التركيب الكيميائي لهرمون السيروتونين. كما صمم أحد مستخدمي موقع «ريديت» الشغوفين ببرنامج الطبخ التلفزيوني، والذي تقدمه «إينا غارتن» شعاراً تكريماً لها، وانتشر بشكلٍ واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، ويحمل العبارة التالية: «إذا لم تتمكن من صنع الناقلات العصبية بنفسك، فلا بأس أن تشتريها من المتجر». ومنذ ذلك الحين، استخدم العديد من «الإنتهازيين» ذلك الشعار وطبعوه على الكثير من المنتجات بغية تحقيق الربح السريع.

مما لا شك فيه أن هناك قيمةً في تعبيرٍ يُساوي ضمنياً بين دواء البروزاك والأنسولين الصناعي. فمرض السكري ليس سوى عجز الجسم عن إنتاج الأنسولين، ويمكن اعتبار الاكتئاب مرضاً عضوياً أيضاً يمكن تفسير أسبابه، حيث أثبتت العديد من الدراسات أن الندب الاجتماعية تؤدي إلى تفاقم أعراض الإصابة بالأمراض النفسية. بالتالي، فالاعتقاد أن المرض النفسي والجسدي لا يختلفان حقاً قد يخفف من الاكتئاب حرفياً.

طب, طب نفسي, اكتئاب, مضاذات الاكتئاب, مقالات علمية

حلي على شكل سيروتونين/Cheryl/ فليكر

ومع ذلك، ماتزال هناك مشكلة جدية، وهي أنه لا يوجد دليل على أن نقص السيروتونين يسبب الاكتئاب. فعلى الرغم من أن النظرية التي تُسمى «فرضية أحادي الأمين»، والتي تفسر الاكتئاب ظل معمولاً بها منذ طرحها في ستينيات القرن الماضي، لكن ظهرت دراسات متلاحقة في التسعينيات أظهرت أن تلك النظرية مبالغة في تبسيط سبب الاكتئاب. والفكرة التي كانت سائدة بأن علاج الاكتئاب ممكناً بجرعاتٍ ضئيلة من النواقل العصبية قد يكون مؤذياً بالفعل.

السيروتونين وأدوية الاكتئاب قصة خادعة

السيروتونين هو جزيء عضوي ينتجه جسم الإنسان بشكلٍ طبيعي من حمض التربتوفان الذي يُعد حمضاً أمينياً، يتوفر في العديد من الأغذية. وهو واحد من العديد من النواقل العصبية التي تستخدمها الخلايا العصبية للتواصل مع بعضها البعض، عبر النهايات العصبية والتي تُسمى «المشابك العصبية». عندما تُحرر إحدى الخلايا العصبية السيروتونين في مشبكها، تنتقل الجزيئات (السيالة العصبية) إلى الخلية العصبية اللاحقة، حيث يمكنها إثارة مجموعة متنوعة من الأوامر والاستجابات العصبية. بنية السيروتونين يمكننا معرفتها بدقة من خلال الهيئات والزخارف والمجوهرات وديكورات الحائط التي يتم تصميمها، مثل الصورة في الأعلى.

يدخل السيروتونين في تركيب معظم الأدوية المضادة للاكتئاب، مثل «بروزاك» و«ليكسابرو» و«زولوفت» وغيرها، وجميعها من مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية، التي تحافظ على السيروتونين في المشابك العصبية؛ فيبقى لفترةٍ أطول هناك. بالتالي يكون له تأثير أكبر على الخلايا العصبية التي تستقبله. أي أن هذه الأدوية لا تحتوي على نواقل عصبية بحدّ ذاتها، لكنّها تعمل على زيادة تأثير السيروتونين في الدماغ.

لقد عززت فعالية أدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية وأقرانها من مثبطات الأوكسيداز أحادي الأمين؛ نظرية السيروتونين. في الواقع ظهرت فرضية «أحادي الأمين» في البداية عندما اكتشف الأطباء عن طريق الصدفة أن مثبطات أحادي الأمين، والتي كانت تستخدم لعلاج السل، كان لها أيضاً تأثير إيجابي على مزاج المرضى. ومن هنا تتأتى نظرية السيروتونين: «إذا كانت الأدوية التي تزيد من هرمون السيروتونين في المشابك العصبية يمكن أن تخفف من أعراض الاكتئاب، فمن المنطقي أن تكون هذه الأعراض ناتجة عن نقص السيروتونين نفسه».

كانت نظرية السيروتونين عظيمة، لكنها انهارت أمام الأبحاث الجديدة

حتى اليوم، لا يزال العلاج الذي توفره مضادات الاكتئاب لما تصل نسبته إلى 13% من الأميركيين دليلاً قوياً يدعم نظرية السيروتونين، لكن حتى هذا الدليل ليس قوياً كفايةً، إذ سرعان ما انهار أمام المزيد من التعمق في الدراسات، وانهارت معه نظرية السيروتونين بسرعة.

الخلل الأول في نظرية السيروتونين هو الزمن اللازم لتبدأ فيه أدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية بالتأثير. فمن المفترض أن تقوم هذه الأدوية بزيادة مستويات السيروتونين في المشابك العصبية خلال ساعاتٍ من بدء المريض تناولها، لكن التحسن لا يبدو على حالة المريض إلا بعد 4 إلى 6 أسابيع من ذلك. إذا كان الاكتئاب هو مؤشر لنقص السيروتونين، فيفترض أن يقدم هذا العلاج نتائج أسرع بكثير ببساطة.

لكن ذلك لا يعني عدم فعالية السيروتونين. فقد لوحظ على المدى الطويل أن لأدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية تأثيرٌ ملموس على أعراض الاكتئاب، مقارنة بأدوية «البلاسيبو». لكن، ولسوء الحظ، ما يدعو للقلق الشديد من فكرة اعتماد أدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية على أنها أدوية مثالية لعلاج الاكتئاب؛ هي أن أثرها دون المستوى المأمول عملياً. فقد اكتشفت مجموعة من الباحثين -الذين حصلوا على بيانات تجارب مضادات الاكتئاب من إدارة الأغذية والأدوية الأميركية بموجب قانون حرية الحصول على المعلومات- أن فعالية أدوية البلاسيبو تعادل 80% من فعالية مضادات الاكتئاب.

وهنا تصبح الفكرة التي تكونت لدينا عن السيروتونين خطرةً، فقد يتوقع الشخص المصاب بالاكتئاب الذي يبدأ العلاج بأدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية بأنه سيُشفى أخيراً من الاكتئاب مع عودة مستويات السيروتونين لمستوياتها الطبيعية. لكن هناك احتمال بنسبة 40% أن أدوية الاكتئاب لن تعمل على تحسين أعراض الاكتئاب عند استعمالها أول مرة مطلقاً. فعملية بحث الطبيب ليصل إلى خطة العلاج الصحيحة هي عملية طويلة ومحفوفة بالمخاطر. وهناك أدلة على أن أدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية قد تزيد التفكير في الانتحار، خاصةً لدى المرضى صغار السن.

علاج الاكتئاب الفعّال هو أكثر من مجرد مسألة تزويد الجسم بالسيروتونين

على الرغم من أن نظرية السيروتونين قد تخفف من أعراض الاكتئاب، لكن، إذا كنا نريد مساعدة المرضى على إيجاد علاج فعّال، ربما نحن بحاجة إلى النظر إلى الاكتئاب بشيء من التعقيد أكثر. حسناً، السيروتونين والاكتئاب لا يرتبطان مطلقاً، ولكن العلماء ما يزالون يحاولون فهم آلية عمل عمل السيروتونين. وإلى الآن لا يوجد علاج بسيط أو مضمون للاكتئاب. قد يستغرق العلاج بأدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية عدة أشهر من التجربة، للوصول إلى أفضل خطة علاج دوائية ممكنة.

لا تقل خيارات العلاج غير الدوائية أهمية عن العلاج الدوائي لمرضى الاكتئاب. العلاج النفسي مثل العلاج السلوكي المعرفي (وهي طريقة علاجية تعتمد على الحديث بين المريض والمعالِج، بهدف التغلب على المشاكل عن طريق تغيير طريقة التفكير والتصرف)؛ فعال للغاية. فقد أظهرت العديد من الدراسات أن نتائج هذا العلاج مشابهة إلى حدٍ متوسط لنتائج العلاج بمضادات الاكتئاب، وربما يكون فعالاً أكثر في منع حدوث انتكاس في حالة المريض. بالتالي فإن استخدام العلاجين معاً أكثر فعالية من استخدامها كل على حدى.

أحد أكثر العلاجات الناجحة للاكتئاب المعتدل، والمتاح على نطاق واسع ومجاني تماماً، هو ممارسة الرياضية. بالإضافة لبعض الأدوية الأخرى قد تعمل بشكلٍ أفضل من أدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية، ومنها الكاتامين، والذي يخفف من التفكير في الانتحار فوراً، كما تظهر بعض العقاقير المخدرة (ما يُسمى بعقاقير الهلوسة أيضاً) كعلاج واعد محتملٍ للاكتئاب. ينبغي عدم تجاهل هذا الطيف الواسع من معالجات الاكتئاب، والتركيز فقط على أدوية مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية، التي قد يكون لها أثر مدمر على الإنسان.

بدأ الأطباء بعلاج الاكتئاب في الخمسينيات بواسطة مثبطات أكسيداز أحادي الأمين، ثم اُكتشفت نظرية السيروتونين، واليوم لدينا طيف واسع من أدوية علاج الاكتئاب لا تتوافق مع فهمنا المحدود لأسباب وآلية حدوث المرض. ربما نحتاج لعشرات السنين حتى نصل لنظرية تنجح في تبني الأدلة الافتراضية الحالية. إوحتى ذلك الحين، يمكننا العمل على الهدف النهائي لجميع هذه البحوث، ألا وهو إعادة الفرح والأمل لأولئك الذين تمكن منهم الإحباط واليأس.

اقرأ أيضا: أفضل دواء للاكتئاب بدون آثار جانبية.

المحتوى محمي