تُعد الأمعاء لغزاً مناعياً مُحيراً. فبخلاف بقية الأعضاء التي تعامل أية أجسام غريبة تدخل إليها على أنها ضارة وتسعى بالتالي إلى تدميرها والتخلص منها، فإن المعدة لا يمكنها التعامل مع كل ما يرد إليها بهذه العدوانية، لأن وظيفتها الأساسية هي استقبال الطعام وهضمه والمساهمة في إمداد الجسم بالطاقة، ما يفرض عليها التعامل مع أجسام غريبة ترد إليها في صورة أطعمة مختلفة. يقول برامود سريفاستافا، اختصاصي الأمراض المناعية بكلية الطب بجامعة كونيكتكت الأمريكية: "لو قمنا بحقن أجسامنا بالأطعمة التي نأكلها بدلاً من تناولها عن طريق الفم، فستحصل في أجسامنا ردة فعل مناعية هائلة".
ولكن إذا بدأ الجهاز المناعي في الأمعاء بالتصرف بشكل مماثل لسلوكه في باقي أعضاء الجسم، فتعامل مع الأطعمة والخلايا الذاتية على أنها جسيمات طفيلية أو معادية، فستكون النتيجة حدوث أمراض مثل الداء الزلاقي (مرض مناعي ذاتي يتميز بالحساسية تجاه الجلوتين) أو التهاب القولون التقرحي (يظهر بأحد شكلين: داء الأمعاء المتهيجة، أو داء كرون). تسبب هذه الأمراض معاناة كبيرة للمصابين بها، وتزيد من خطر إصابتهم بسوء التغذية وسرطان الأمعاء. ولكن في حال توصل العلماء إلى طريقة يمكنهم من خلالها تهدئة الاستجابة المناعية المرضيّة في الأمعاء، فقد يساعد ذلك على ابتكار علاج ناجع لتلك الأمراض.
وبحسب نتائج دراسة نُشرت في مجلة محاضر الأكاديمية الوطنية للعلوم Proceedings of the National Academy of Sciences فإن العلم قد خطا خطوة جديدة على طريق علاج تلك الأمراض. فقد وجد سريفاستافا وفريق بحثه بأن مادة أنانداميد، وهي مادة يصنعها الجسم بشكل طبيعي وتوجد بصيغ مماثلة في نباتات مثل القنب الهندي (الماريجوانا)، تساعد على تهدئة الاستجابة المناعية في أمعاء الفئران. وفي حال أظهرت الدراسات المستقبلية نتائج مماثلة عند البشر، فقد يساعد ذلك على ابتكار علاج لالتهاب القولون التقرحي.
ولفهم الكيفية التي توصل سريفاستافا من خلالها إلى هذا الاستنتاج ينبغي علينا أولاً مراجعة أعماله السابقة في هذا المجال. فقد وجد سريفاستافا بأن تعريض خلايا مناعية إلى درجات حرارة مرتفعة يؤدي إلى تنشيط عملها بشكل كبير. وكانت دراسات سابقة قد وجدت بأن ارتفاع درجة حرارة الجسم (الحمى) تساعد الخلايا المناعية على العمل بشكل أفضل. ولكن سريفاستافا أراد تحري أسباب ذلك، ومعرفة الآلية التي تجعل الخلايا المناعية تستشعر ارتفاع درجة الحرارة في الوسط المحيط بها.
يقول سريفاستافا: "توجد في الأعصاب خلايا خاصة تحتوي على الكالسيوم. تنفتح هذه الخلايا عند التعرض لدرجات حرارة مرتفعة (كما لو وضع الشخص يده أمام مدفأة)، ويتدفق الكالسيوم منها إلى الأعصاب، مما يولد سيالة كهربائية تتجه إلى الدماغ وتنبئه بأن اليد تتعرض لحرارة خارجية". وعندما قام الباحثون بزراعة الخلايا المناعية ضمن طبق بتري، وجدوا بأن هذه الخلايا تستخدم نفس قنوات الكالسيوم لمعرفة أن أطباق بتري تتعرض لدرجة حرارة مرتفعة.
ثم تبادر إلى ذهن سريفاستافا السؤال التالي: إذا كانت الحرارة المرتفعة تُحفز الخلايا المناعية على العمل، فهل يمكن لمادة كابسيسين، المادة الكيميائية المسؤولة عن إعطاء الفلفل طعمه الحار، أن تترك التأثير ذاته؟ ويبدو أن الإجابة كانت بنعم. فقد سلكت الخلايا المناعية المزروعة ضمن طبق بتري والمُعرضة للفلفل الحار نفس السلوك الذي سلكته عند التعرض لدرجات حرارة مرتفعة.
ولكن خلايا الجسم لا تتعرض لمادة كابسيسين بشكل مباشر عند تناول طعام يحتوي على الفلفل الحار. ولذلك قام سريفاستافا بإجراء تجربة على مجموعة من الفئران المصابة بالسكري من النمط الأول (والذي يُعزى إلى سبب مناعي ذاتي) وقام بتغذيتها بهذه المادة بهدف محاكاة ما يحدث عند تناول الفلفل الحار. وبما أن التجارب ضمن طبق بتري أظهرت بأن الحرارة ومادة كابسيسين تجعل الخلايا المناعية أكثر نشاطاً، فإن تغذية الفئران المصابة بداء السكري من النمط الأول على مادة كابسيسين يُفترض أن يفاقم من شدة الأعراض لديها. ولكن ما حصل هو العكس تماماً. فقد وجد سريفاستافا بأن مادة كابسيسين لم تُنشّط الخلايا المناعية في أمعاء الفئران بل ثبطتها، وأدت إلى تراجع أعراض السكري عند الفئران المصابة به.
يبدو أن ثمة شيءٍ حصل عندما تناولت الفئران مادة كابسيسين. فقد تحفّز لديها نوع خاص من الخلايا المناعية يُطلق عليه اسم CX3CR1، تقوم هذه الخلايا بتثبيط الاستجابة المناعية في الأمعاء. وبما أنه من الصعب جعل الفلفل الحار جزءاً من النظام الغذائي اليومي، فقد لجأ سريفاستافا إلى البحث عن بدائل لمادة كابسيسين يمكنها الارتباط بنفس قناة الكالسيوم وإحداث التأثير المطلوب، فوجد ضالته في مادة أنانداميد.
جرى اكتشاف مادة أنانداميد لأول مرة في ثمانينيات القرن الماضي بينما كان باحثون يحاولون معرفة السبب الذي يجعل أجسامنا، وخاصة أدمغتنا، تمتلك مستقبلات لمادة كانابينويد. توجد مادة كانابينويد في القنب الهندي، وتصنف بين المواد الكيميائية القادرة على تحوير عملية النقل العصبي في الدماغ. في الحقيقة فإن وجود مستقبلات مادة كانابينويد يعود إلى مادة يُنتجها الجسم مشابهة للكانابينويد وهي الأنانداميد. يقول سريفاستافا: "تعود تسمية مادة أنانداميد إلى مكتشفها الذي كان مولعاً باللغة الهندية، إذ إن كلمة "أناندا" تعني البركة في اللغة الهندية".
لاحظ الباحثون بأن الفئران التي تغذت على الأنانداميد قد حدثت لديها نفس التأثيرات العلاجية التي حدثت عند الفئران التي تغذت على مادة كابسيسين. كما اكتشف سريفاستافا بأن تغذية الفئران على مادة كابسيسين يُحفز أجسامها على إنتاج مادة أنانداميد. وفي كلتا الحالتين، كان الأنانداميد هو المادة التي تحفز شفاء الأمعاء، ما يعني إمكانية وجود تأثيرات مشابهة لكانابينودات أخرى.
كما هو الحال في جميع الدراسات العلمية، لا بد من وجود بعض جوانب القصور في الدراسة. فقد أجريت الدراسة على الفئران وليس البشر، ولكنها تأتي منسجمة مع روايات العديد من مرضى السكري من النمط الأول الذين قالوا بأن تدخين الماريجوانا يخفف من أعراضهم، كما تأتي منسجمة مع دراسات سابقة وجدت بأن الأشخاص الذين يتناولون الفلفل الحار يعيشون لعمرٍ أطول.
وبما أن مادة أنانداميد هي من أنواع الكانابينويدات، فإن استخدامها مقيد بشكل كبير، ولا يمكن وصفها للبشر. ولذلك يأمل سريفاستافا على العمل مع الجهات الصحية في ولاية كولورادو الأمريكية، موطن زراعة الماريجوانا، لمعرفة ما إذا كان تشريع استخدام الماريجوانا قد ترافق مع أي تراجع في أعراض التهاب القولون التقرحي عند المرضى الذين يستهلكونها. فإذا كان الأمر كذلك، فسوف يعكف ستريفاستافا على تكرار التجربة على مرضى متطوعين من البشر.
يُذكر بأن العديد من مرضى السكري من النمط الأول قد أفادوا عن ردات فعل سلبية عند تناول الأطعمة ذات البهارات الحارة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى زيادة إفرازات الحموض المعدية واحتواء تلك الأطعمة على نبات البلادونا. ولذا فإن استهلاك الصلصة الحارة ليس وسيلة آمنة لزيادة إفراز مادة أنانداميد في الجسم.