ليس مهدئاً دائماً: كيف يؤثر التأمُّل على صحتنا العقلية؟

7 دقائق
آثار التأمل على صحتنا العقلية
shutterstock.com/Lucky Business

في عام 2006، وعندما كانت تبلغ من العمر 20 عاماً، لم تتمكن طالبة معهد الموسيقى المرموق بجامعة «إنديانا بلومنغتون» من حمل آلة الفيولا خاصتها. شعرت هذه الطالبة؛ والتي طلبت عدم الكشف عن هويتها، بأن حياتها أصبحت خارجةً عن السيطرة. في كل مرة حاولت العزف، كانت تُصاب بموجات من الاكتئاب، وفي محاولة يائسة لمواصلة دراستها، لجأت الطالبة إلى التأمل، فما هي آثار التأمل على صحتنا العقلية؟

سرعان ما تحولت الجلسات العرضيّة التي أجرتها مع والدتها إلى نظام روتيني: 30 دقيقة من التأمل الصباحي، و30 دقيقة أخرى في الليل، بالإضافة إلى الجلسات الجماعية الأسبوعية، والخلوات في المناسك القريبة. بعد مرور عام على ممارسة التأمل، تلاشى الاكتئاب، وأصبح لهذه الطالبة أصدقاء، كما أصبحت قادرةً على العزف مرة أخرى.

هنا بدأ التعافي بالتوقّف، وبدأت أظلم فترة في حياتها.

آثار التأمل على صحتنا العقلية

مثل عازفة الفيولا هذه؛ لجأ ملايين الأشخاص إلى ممارسة التأمل لتحسين صحتهم العقلية والجسدية. بين عاميّ 2012 و2017، تضاعفت النسبة المئوية للبالغين الأميركيين الذين مارسوا التأمل في عامٍ واحد أكثر من 3 أضعاف؛ من 4.1% إلى 14.2% وفقاً لوكالة المعاهد الوطنية للصحة الأميركية. يستفيد الكثير من الناس من هذه الممارسة؛ إذ تشير الأبحاث إلى أن التأمل المنتظم يقلل من ضغط الدم، ويخفف أعراض متلازمة القولون العصبي، والقلق والاكتئاب والأرق.

لكن التأمل ليس مفيداً أو حتى حميداً دائماً، فبعد مرور عام على بدء الطالبة سابقة الذكر بممارسة التأمل، حضرت جلسة تأمل جماعية في الهند مع 50,000 شخص آخر ومعلمهم. عندما عادت، تغيّرت وجهات نظرها بطريقة جذرية بشكلٍ مدهش: بدت الألوان أكثر إشراقاً، وباتت الأشياء غير الحية تحمل فجأة رسائل مموّهة، وطاقات، وحتى شخصيات.

بدأت تعتقد أنها امتصّت قوة معلّمها، كانت الطاقة تنبض من أسفل ظهرها إلى قمة رأسها، وكانت تشع من خلال أطرافها إلى الفيولا خاصتها. في كل مرة كانت تمارس التأمل، كان الشعور يزداد حدّة. تقول: «كنت أفقد الاتصال بالواقع»، وتضيف: «كانت الرسائل تأتي من كل مكان بغزارة. لقد كان الأمر مرعباً».

أثناء عودتها لقضاء العطلات في مدينة نيويورك، رفضت ارتداء معطف في الطقس البارد انطلاقاً من قناعتها بأنها محصّنة ضد البرد. اقترب منها أحد فنيي الطوارئ في مطعم بيتزا عندما كانت تنتحب وهي ترتدي طبقةً رقيقةً واحدة. في وقت لاحق من ذلك المساء، وفي مستشفىً للأمراض النفسية، تلقّت الشابة تشخيصها؛ وهو «الاضطراب الفُصامي العاطفي» -  نوع من الفُصام.

عازفة الفيولا هذه ليست الوحيدة التي تعاني من حالة طوارئ نفسية بعد التأمل، فقد تم توثيق العشرات من الحالات المماثلة في الأدبيّات الطبية التي تعود إلى عام 1915. في قسم «آر/ميديتيشن» في موقع «ريديت»، يصف المستخدمون كيف توقفوا فجأةً عن النوم بعد ممارسة التأمل لفترة، أو كيف أصبحوا يشعرون بإحساس بالهلاك الوشيك، أو كيف شعروا كما لو كانوا «يسافرون عبر خطوط زمنية مختلفة».

اقرأ أيضاً: بهذه الطرق يمكنك تحقيق أقصى استفادة من التأمُّل

لكي نكون واضحين، فإن غالبية الأشخاص الذين يمارسون التأمل لن يصابوا بالذُهان أو الفُصام، وأية علاقة بين هذه الأمراض العقلية الخطيرة وممارسة التأمل ليست واضحةً تماماً. في حين أنه لا يزال هناك الكثير من الحقائق التي لا يعرفها الباحثون؛ إلا أن بعضهم يعتقد (بناءً على تقارير الحالات الإفرادية) أن الأشخاص الذين لديهم استعدادات للأمراض العقلية، وخاصةً الفصام، هم الأكثر عرضةً للخطر.

يقارن هؤلاء الباحثون العلاقة بين الذهان والتأمل بالملاحظات التي تشير إلى أنه في حالات نادرة، يمكن أن تؤدي المواد التي تغير حالة العقل مثل الماريغوانا إلى الذهان؛ وبالأخص عند الأفراد المعرضين سلفاً للإصابة بالأمراض العقلية. بالمثل؛ ليست كل أنواع التأمل متشابهةً، ويبدو أن ممارسة التأمل لساعات طويلة في اليوم قد تكون أكثر ارتباطاً بالتجارب السلبية -مثل الذهان- مقارنةً بالممارسة لفترات أقصر يومياً أو أسبوعياً.

في عام 2017، شرع فريق من علماء النفس والخبراء في الأديان في فهم سمات هذه التجارب الصعبة ومدى شيوعها. أجرى الفريق مقابلات مع 73 من ممارسي وخبراء التأمل البوذيين الغربيين. بيّنت النتائج؛ والتي نُشرت في دورية «بلوس ون»، أن 47% يعانون من أوهام أو معتقدات بالخوارق، و 42% يعانون من الهلوسة، و 62% يعانون من تغيّرات في نظام النوم، و 82% يعانون من الخوف أو القلق أو الذعر أو الارتياب. لم تكن هذه التجارب معيقةً بالنسبة للجميع، فبالنسبة للبعض؛ استمرت أقل من أسبوع، ومع ذلك؛ وصف 73% من المشاركين «إعاقات متوسطةً إلى شديدة» كما احتاج 17% منهم للدخول إلى المستشفى.

هل التأمل كان هو السبب؟

لتقييم ما إذا كان التأمل قد تسبب في هذه التجارب؛ قام مؤلفو الدراسة بفحص 11 معياراً؛ من ضمنهم معتقدات المشاركين الخاصة، ومتى وقعت الحوادث بعد التأمل، وما إذا تكرّرت التجارب بعد ممارسة التأمل مجدداً أم لا. في المتوسط؛ استوفى المشاركون 4 معايير. (في هذه الأنواع من التقييمات، يكفي تحقيق معيارين للدلالة على علاقة سببيّة محتملة).

Beach, Yoga, Sunset, Silhouette, Person, Yoga Pose

مع ذلك؛ من المستحيل تحديد ما إذا كان التأمل يتسبب بالذهان في أية حالة فردية. أرجع معظم الأشخاص الذين تمت مقابلتهم هذه التجارب إلى التأمل؛ ولكن من المهم ملاحظة أن مؤلفي الدراسة لم يستبعدوا العوامل الأخرى، ولم يُثبتوا أن التأمل تسبب في هذه التجارب. يقول «باوان شارما»؛ أستاذ الطب النفسي في أكاديمية «باتان» للعلوم الصحية في نيبال، أن الذهان والتأمل من الممكن أن يكونا قد ترافقا بالصدفة فقط.

بدأ شارما في نشر دراسات الحالة ومراجعات الأدبيات حول الذهان الناجم عن التأمل، بعد العمل مع مريض كان يعاني من الهلوسة والحركة اللاإرادية بعد شهور من التأمل لساعات كل يوم. قال شارما أنه في بعض الحالات؛ إذا بدا اهتمام المريض بالتأمل مفاجئاً أو غير معهود، فقد يكون هذا الهوس بحد ذاته من الأعراض المبكرة للذهان.

لكن من منظور علم الأعصاب، فإن العلاقة الظاهرة بين التأمل والذهان منطقية. أظهرت الدراسات أن التأمل بحد ذاته له تأثير حقيقي للغاية على عقولنا؛ حيث يرتبط التأمل بزيادة النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بتنظيم المشاعر والتركيز؛ مما قد يساعد في تفسير سبب استفادة بعض الأشخاص من هذه الممارسة.

الوجه الآخر: الآثار الجانبية للتأمل

لكن مثل أي علاج أو ممارسة علاجيّة تغير جسمنا؛ قد يكون للتأمل آثار جانبية. بعض التغييرات الدماغية التي تظهر جنباً إلى جنب مع التأمل تحاكي تلك التي تظهر عند الإصابة بالذهان. على سبيل المثال؛ ووفقاً لـ «ديفيد سيلس-فيغنر»؛ كبير الأطباء النفسيين في مركز «غوتنجن» الطبي الجامعي في ألمانيا، فهناك أدلة تشير إلى أن التأمّل يرفع مستوى الدوبامين في الدماغ؛ وهي إحدى السمات المميزة لمرض الفصام.

لا يجعلنا الدوبامين نشعر بالرضا فحسب؛ بل يؤدي وظيفة تنبيه الدماغ على الأمور «اللافتة». بمعنىً آخر؛ تنبيه الدماغ على الأمور التي يجب التركيز عليها. يقول سيلس-فيغنر: «الدوبامين يعمل كالمضخّم في الدماغ»؛ لكن عندما ترتفع نسبته كثيراً، يبدأ دماغنا في التفكير في أنه حتى المنبهات غير المهمة تكون ذات صلة ومهمة. قد يبدو أن الأشياء تحمل رسائل مخفية، يمكن أن تبدو شخصيات التلفزيون تتحدث مباشرةً من خلال الشاشة.

لا يتعلّق الأمر بمستويات الدوبامين فقط. عند بعض الأشخاص؛ يبدو أن التأمل يحسّس الدماغ تجاه البيئة؛ مما يجعله أكثر تفاعلاً. وفقاً لـ «ويلوبي بريتون»؛ أستاذ الطب النفسي في جامعة براون والتي تدرس المشاكل النفسية المتعلّقة بالتأمل، فإن هذا قد يكون السبب الذي يجعل الكثير من الناس يقولون إنهم يشعرون بمزيد من الانسجام مع محيطهم بعد التأمل.

إحدى التفسيرات المحتمَلة لهذه الظاهرة هو وجود نظام مدمج في أدمغتنا اسمه «المرونة العصبية المتجانسة»؛ والذي يضمن استقرار النشاط العصبي. عندما نقوم بتقليل المُدخلات الحسية، ينشط هذا النظام، والعكس صحيح. عندما نتأمل، يكون هذا النظام غير نشيط عادةً؛ إذ تكون أعيننا مغلقة، وغالباً ما نركز بنشاط على منبه واحد فقط (التنفّس مثلاً). لهذا؛ سيكون هناك عدد أقل من الأمر على الدماغ معالجتها. كاستجابةً لذلك يبدأ نظام المرونة العصبية المتجانسة في النشاط. تصبح أدمغتنا أكثر حساسيةً للمنبهات، وتتحفّز الأعصاب عند أدنى استفزاز، بحيث تصبح الألوان أكثر إشراقاً والأصوات أعلى. في بعض الأحيان؛ تتحفّز الأعصاب دون وجود أية منبهات على الإطلاق؛ مما قد يسبب الهلوسة.

يشير الخبراء إلى أن الأشخاص الذين لديهم استعدادات وراثية للإصابة بالفصام قد يكونون أكثر عرضةً للمعاناة من هذه الآثار الجانبية. وُثّقت العديد من دراسات الحالة المتعلّقة بالذهان بعد التأمل لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ من مرض الفُصام أو غيره من الأمراض العقلية. تقول بريتون إنه لا توجد أدلة كافية لنصح هذه المجموعة من الأشخاص بالتوقّف عن التأمل تماماً، ففي النهاية؛ وجدت بعض الدراسات أن التأمل يخفف بالفعل من أعراض الفصام.

آثار التأمل على صحتنا العقلية

بالنسبة لبعض الناس؛ تكون الآثار الجانبية السلبية للتأمل عابرةً، فقد شعر 12% من المشاركين في دراسة «بلس ون» سابقة الذكر لعام 2017 بالضعف لمدة تقل عن أسبوع بعد بدء الأعراض. بالنسبة للآخرين، فإن هذه التجارب لها عواقب طويلة الأمد. ظهرت على أكثر من نصف المشاركين في نفس الدراسة أعراض استمرت أكثر من عام.

تقع عازفة الفيولا في هذه الفئة. إن الفصام الذي تعاني منه له حضور كبير في حياتها، لا تزال الأشياء تحمل معانٍ وشخصيات مموهةً؛ لكنها عثرت أخيراً على الدواء المناسب لحالتها. بدلاً من الوابل الذي واجهها عندما كانت مريضة؛ تحولت هذه الرسائل إلى نوع من الإبداع المعزّز. إنها كاتبة وموسيقية وناشطة في مجال الصحة العقلية، كما أنها حاصلة على درجة الماجستير في العمل الاجتماعي.

لقد مرت 14 عاماً على ظهور أعراض الذهان لديها، ولم تمارس التأمل منذ ذلك الحين.

من المثير للجدل التأكيد على أن التأمل قد ينطوي على مخاطر. لقد شاركت مناشيراً على قسم «آر/ميديتيشن» في موقع ريديت بحثاً عن أشخاص قد يكونون على استعداد لمشاركة تجاربهم، والناس الذين ردوا أطلقوا على الفكرة صفة «هراء»؛ أخبرت شارما عن هذا، وجعله ذلك يضحك، فمنذ أن بدأ العمل في هذا المجال من الطب النفسي، تلقى نصيبه من رسائل الكراهية. يقول شارما: «عندما نتحدى معتقدات شخص ما، فمن المحتم أن يصاب بالذهول حيال ذلك».

مع ذلك؛ شارما ليس ضد التأمل، فهو يقول: «التأمل شيء جيد». يعتقد شارما أن هناك حاجةً إلى ازدياد الوعي بمخاطر هذه الممارسة. على سبيل المثال؛ من الممكن أن تكون بعض ممارسات التأمل أكثر أماناً من غيرها. في عام 2019، قابلَت مجموعة من الباحثين 1232 شخص يمارسون التأمل بانتظام، واستفسرت منهم عن تجارب التأمل غير السارة بشكل خاص. أشارت النتائج؛ والتي نُشرت في دورية «بلوس ون»، إلى أن الأشخاص الذين حضروا الخلوات؛ والتي غالباً ما تتضمن التأمل في صمت لساعات كل يوم، كانوا أكثر عرضةً للإبلاغ عن تجارب مثل القلق والهلوسة.

يشتبه شارما أيضاً في أن «التأمّل المتسامي»؛ والذي غالباً ما يتضمن التركيز على ترنيمة لإنتاج حالة ذهنية متغيرة، هو عامل خطر للذهان؛ إذ يفيد بأن التركيز على الترنيمة يمكن أن يكون بمثابة نوع من الحرمان الحسي مقارنةً بالتأمّل الذهني الذي يتضمن ملاحظة المحفزات في البيئة.

يُبرز الرابط الذي نلاحظه بين التأمل والذهان مدى ضآلة فهمنا للتأمل. وفقاً لـ «كاتيا روبيا» أستاذ علم الأعصاب الإدراكي في جامعة «كينغ» في لندن؛ تعتمد الكثير من بحوث العلوم العصبية التي تركّز على التأمل على الدراسات التي تقارن بين من يمارسون التأمل ومن لا يمارسونه. من الصعب استخلاص استنتاجات ملموسة من هذا النوع من الدراسات، لأن العوامل الخارجية؛ مثل الوضع الاجتماعي والاقتصادي ومستويات النشاط، يمكن أن تؤثر على النتائج. تفيد روبيا أيضاً أنه من الناحية المثالية؛ يجب إجراء تجارب يتم فيها توزيع الأشخاص بشكلٍ عشوائي على مجموعات تمارس التأمل وأخرى لا تمارسه، ثم المقارنة بينها.

تقول بريتون أن الأهم من ذلك هو أن الدراسات حول علم أعصاب التأمل تحتاج إلى احترام تنوع الاستجابات لهذه الممارسة بشكلٍ أفضل. كتبت بريتون في رسالة بالبريد الإلكتروني: «تعتمد الكثير من العلوم على قياس المتوسطات»، وأضافت: «دراسات التصوير العصبي التي تسعى إلى فهم تأثير التأمل على الدماغ تجمع بين تغيرات عصبية مختلفة، وأحياناً متعاكسة، وتصدر ادّعاءً عاماً يصح إذا صح على أغلبية الناس».

قد يكون هذا الادعاء دقيقاً في معظم الحالات؛ ولكنه يميل أيضاً إلى حجب الاستجابات الأخرى للتأمل؛ وهي مهمّة أيضاً وتستحق الاهتمام. كتبت بريتون أيضاً: «يجب أن يعكس العلم تجارب الجميع، وليس فقط الأغلبية».

اقرأ أيضاً: تمارين رياضية تساعدك على تحسين صحتك العقلية

هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياًعلماً أن المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي