في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، طوّرت شركة لا بيل غلاس (La Belle Glass) ما أصبح يحمل لاحقاً اسم "الزجاج العاجي" أو "زجاج القستر" من خلال زيادة تركيز أوكسيد اليورانيوم، ما جعل الزجاج معتماً أكثر. أضاف الخبراء إلى المزيج المواد الكيميائية الحساسة للحرارة، مثل الذهب، التي أدت عند إعادة تسخينها في أثناء عملية التصنيع إلى خلق تأثير تظليل يتمتع بألوان مختلفة، من الأصفر الصافي إلى الأبيض الحليبي عند الحواف. في الوقت نفسه، طورت شركة ماونت واشنطن غلاس (Mount Washington Glass) الزجاج البورمي، وتضمّنت الوصفة الرمل الأبيض وأوكسيد الرصاص والبوتاس المُنقّى ونترات البوتاسيوم وبيكربونات الصودا والفلورسبار والفلسبار وأوكسيد اليورانيوم والذهب الغرواني. ولّدت هذه التركيبة زجاجاً معتماً يتمتع بظلال لونية مختلفة، من الوردي إلى الأصفر، ويعتقد البعض أنه اكتسب اسمه بعد أن قالت الملكة فيكتوريا إنه يذكرها بغروب الشمس في بورما.
اقرأ أيضاً: باحثون يطوّرون مادة جديدة تبدو مثل الزجاج المسنفر ولكنها أكثر شفافية
البداية: اليوارنيوم ملون للزجاج
على الرغم من أن الزجاج البورمي يتمتع بالعديد من الظلال اللونية المختلفة، كان التأثير الأخضر المصفر هو الخيار الأكثر شعبية بين المشترين. أصبح هذا الزجاج معروفاً شعبياً باسم "زجاج الفازلين" في وقت لاحق بسبب تشابهه المفترض مع هلام النفط من هذه العلامة التجارية الشهيرة. استخدم الكثير من الشركات الأخرى اليورانيوم لتلوين الزجاج في ذلك الوقت، وتنافس المنتجون المختلفون لتوليد ألوان وتأثيرات وتحولات لونية جديدة في جو من السرية التجارية.
مع ذلك، أشارت مجلة ساينتيفيك أميريكان إلى واحد من أغرب الاستخدامات لعملية التلوين هذه عام 1847، قائلة إن اليورانيوم، إلى جانب البلاتين والتيتانيوم والكوبالت، له استخدام ثانوي بصفته عامل تلوين للأسنان الاصطناعية المصنوعة من الفلسبار والكوارتز. يمكن إكساب الأسنان لوناً برتقالياً أصفر من خلال استخدام اليورانيوم في الخطوة النهائية في عملية صناعة الزجاج، قبل شيّه مباشرة. على الرغم من أن السعي للحصول على هذا التأثير قد يبدو غريباً بعض الشيء، فإن البشر صنعوا أطقم الأسنان والأسنان الاصطناعية على مر التاريخ من العاج أو الذهب أو الفضة أو عرق اللؤلؤ أو النحاس المطلي بالمينا. لم تصبح الأسنان الاصطناعية التي تتمتع بمظهر طبيعي أو واقعي مرغوبة إلا في وقت لاحق من القرن التاسع عشر، عند بدء استخدام الأسنان الخزفية. حتى حينها، لم تكن التكنولوجيا على المستوى المطلوب؛ إذ إن الأسنان الاصطناعية بدت غير طبيعية، ولم يعش مستخدموها حالة من الجهل الذي يبعث على الرضا إلا بسبب تظاهر من حولهم بأن مظهرهم مقبول.
اليورانيوم وسيلة دفاعية ضد الأمراض
اعتقد الخبراء في ذلك الوقت أيضاً أن اليورانيوم، إضافة إلى أملاح المواد المعدنية الأخرى، هو وسيلة دفاعية مهمة ضد الأمراض والعلل. تتمتع هذه الفرضية بتاريخ طويل يعود إلى زمن باراسيلسوس، الذي استخدم المعادن السامة في علاجاته. باراسيلسوس هو مؤسس تخصص علم السموم، وقد تحدى أفكار غالينوس السائدة في الطب آنذاك، والتي نصت على أن الصحة الجيدة هي نتيجة توازن الأخلاط الأربعة، وهي الدم والبلغم والصفراء والسوداء. وفقاً لهذه الفرضية، من المرجح أن يعاني شخص ما مرضاً معيناً إذا اختل توازن هذه الأخلاط لديه. تضمنت علاجات هذه الاختلالات في التوازن أساليب مثل الفصد واستخدام المليّنات والمقيئات. على النقيض من ذلك، اعتقد باراسيلسوس وأولئك الذين وافقوه الرأي بحلول القرن السادس عشر أن أفضل علاج لاحتواء الجسم على السم هو استخدام سم مشابه. وفقاً لباراسيلسوس، يمكن الاستفادة من المواد السامة علاجياً ما دام الطبيب متحكماً في العملية. وقال باراسيلسوس: في النهاية، "هل هناك مواد غير سامة؟ المواد جميعها سامة، ولا توجد مواد لا تحتوي على السموم، والجرعة هي التي تحدد إن كانت المادة غير سامة". نص المبدأ الذي رسّخه هؤلاء على أن المواد جميعها قد تكون سامة إذا تناول الإنسان منها كميات كبيرة بما يكفي، ما يعني أن بالإمكان دون شك التحكم بالجرعة والوقاية من التأثيرات الضارة.
بحث الأستاذ في جامعة توبينغن الألمانية، كريستيان غميلين، في سمّية اليورانيوم مع أخذ هذه الفرضية في الاعتبار، وكان بحثه جزءاً من أطروحة في الكيمياء نشرها عام 1824 ووصف فيها التأثيرات الفيزيولوجية لأملاح 18 معدناً مختلفاً، ومنها اليورانيوم، في البشر والحيوانات.
وصف غميلين في كتابه "دليل الكيمياء" (Handbuch der Chemie) التجارب المعتمِدة على أملاح اليورانيوم المستخرجة من اليورانينيت. منح غميلين الكلاب والأرانب أملاح اليورانيوم بطرق وجرعات مختلفة لدراسة آثارها ضمن وسط خاضع للرقابة؛ إذ إنه منح كلبين الجرعات مع الطعام، بينما منح كلباً وأرنباً آخرين جرعات أكبر من خلال الأنابيب المعديّة. بالإضافة إلى ذلك، منح غميلين كلبين آخرين جرعات أعلى من خلال الحقن الوريدي، وتمكّن بتطبيق هذه الطرق المختلفة من التوصل إلى استنتاجات حول سمّية اليورانيوم.
توصل غميلين إلى أن اليورانيوم يميت بسرعة عند إعطائه للحيوانات بالحقن الوريدي على الرغم من أنه "سم ضعيف" عند تناوله.
أجرى باحث آخر، وهو سي لوكونت، المزيد من التجارب ولكن باستخدام نترات اليورانيوم، وهي مادة بلورية صفراء اللون تذوب بسهولة في الماء ويمكن صنعها من خلال تفاعل أوكسيد اليورانيوم مع حمض النيتريك. أبلغ لوكونت في الجمعية الباريسية لعلم الأحياء عام 1853 عن أن نترات اليورانيوم تَسبب بالتهاب الكلى لدى كلب بعد تناوله جرعات صغيرة من هذه المادة.
اقرأ أيضاً: ما تأثير المكونات الكيميائية في الأدوية وغيرها على نتائج بعض التحاليل الطبية؟
علاج للأمراض التي تشترك في الآثار الجانبية
بعد أن أفاد العديد من الباحثين أنهم تمكنوا من استخدام اليورانيوم لإحداث أعراض معينة، ظهرت فكرة تنص على أن استخدام هذا العنصر ممكن لعلاج الأمراض التي تؤدي إلى الآثار الجانبية نفسها. على سبيل المثال، التهاب الكلى هو من المضاعفات الخطيرة لمرض السكري، وأشار لوكونت إلى أنه لاحظ وجود "السكر في بول الكلاب التي تسممت ببطء بجرعات صغيرة من نترات اليورانيوم". بسبب مثل هذه الدراسات، يأمل الباحثون أن يغدو استخدام اليورانيوم لعلاج الأمراض ممكناً.
يعود أحد أول الأوصاف المعروفة لمرض السكري إلى القرن الثاني، عندما وصفه الطبيب اليوناني أريتايوس بأنه "مرض محيّر". لم يحرز العلماء إلا القليل من التقدم في فهم هذا المرض في السنوات التالية، وبقي غير قابل للعلاج مع آثار جانبية مرهقة، فضلاً عن تسبّبه بوفاة المريض الحتمية. اقتصرت النصائح الطبية على الراحة في الفراش واتباع نظام غذائي صارم شمل بحلول القرن التاسع عشر منتجات تجارية مثل البسكويت والخبز والمشروبات المخصصة لمرضى السكري، وعملت الشركات المصنعة على تسويق منتجاتها بعروض مثل تقديم عينة مجانية للعملاء عند طلب المنتج.
عزز الطبيب في مستشفى سانت بارثولوميو في لندن، سامويل ويست، الأمل في إمكانات استخدام اليورانيوم لعلاج مرض السكري عندما نشر نتائج تجاربه السريرية المعتمِدة على هذا العنصر في المجلة الطبية البريطانية (British Medical Journal) في 1895 و1896. صمم ويست برنامجاً علاجياً لثمانية مرضى يتألف من أملاح اليورانيوم المحلولة في الماء وينص على شرب المحلول بعد تناول الوجبات. بلغت الجرعات الأولية حبة أو حبتين من الملح فقط ثم رفعها ويست ببطء حتى أصبح المرضى يتناولون ما يصل إلى 20 حبة مرتين أو 3 مرات في اليوم. أبلغ ويست عن تأثيرات كبيرة في الكثير من الأحيان؛ إذ اختفت أعراض البول السكري تقريباً، أي وجود الغلوكوز في البول، وشهد العديد من المرضى تراجعاً واضحاً في الأعراض. مع ذلك، وثّق بعض المرضى أنهم عانوا مشكلات في الجهاز الهضمي، وعادت آثار المرض على الفور تقريباً بعد إيقاف العلاج.
على الرغم من أن نتائج هذه الاختبارات كانت غير حاسمة، استمر استخدام علاجات اليورانيوم في الطب لعلاج مجموعة واسعة من الأمراض. وفقاً لطبيب من مدينة بوفالو الأميركية اسمه "الدكتور كوك"، كان اليورانيوم فعالاً للغاية في علاج سلس البول، كما زعم طبيب آخر غير معروف الاسم أنه استخدمه لعلاج قرحة المعدة عام 1880، وأفاد طبيب آخر بأن اليورانيوم فعال في الحد من النزيف، بينما أفاد آخر بأنه فعال في علاج مرضى السل. نشرت مجلة الأدوية الدورية كيميست آند درَغيست (Chemist and Druggist) وصفة للعاطوس، وهو نوع من التبغ لا يتطلب استهلاكه التدخين، تحتوي على حبة واحدة من أسيتات اليورانيوم والقهوة، وهو مزيج مثّل "أحدث علاج لنزلات البرد في الرأس".
أنتجت شركة الأدوية بوروز آند ويلكَم (Burroughs and Wellcome) نوعاً تقليدياً أكثر من الأدوية على شكل أقراص صفراء تحتوي على نترات اليورانيوم، بينما أنتجت شركة أوبنهايمر، سَنز آند كو (Oppenheimer, Sons & Co) التي مقرها مدينة لندن كبسولات تحتوي كل واحدة منها على حبتين ونصف من نترات اليورانيوم. روّجت الشركة لهذه الكبسولات على أنها تجمع بين فوائد اليورانيوم، الذي "أوصى به الدكتور ويست مؤخراً في علاج مرض السكري" دون أن تتصف "بالنكهة المثيرة للاشمئزاز" للعلاج الذي استخدمه. كانت هذه الأقراص قابلة للبلع كاملة، كما يمكن سحقها في منديل واستنشاقها.
اقرأ أيضاً: باحثون يكتشفون العلاقة بين الزنك الحُر الموجود في الجسم وفقدان السمع
الأغرب: نبيذ اليورانيوم
إذا كنت تعتقد أن كل هذه العلاجات غريبة جداً، فاصبر حتى تتعرف على عالم النبيذ الطبي الرائع وتكتشف منتج "فان أورانيه بيسكي" (Vin Urané Pesqui)، التي تعني "نبيذ بيسكي باليورانيوم". كانت كل قارورة بحجم نحو 700 ملليلتر من نبيذ اليورانيوم هذا مصحوبة بكتاب بعنوان "السكري وعلاجه باستخدام فان أورانيه بيسكي" (Diabetes and Its Cure by Vin Urané Pesqui).
وصف الكتاب المشروب بأنه إكسير فعال يروي العطش ويعيد القوة ويحسّن وظائف الجسم على الفور، كما زعم مؤلفوه أن المشروب يخفف أعراض ضيق النفس والإعياء والإرهاق. زعم البعض أيضاً أن المرضى الذين يتناولون هذا المشروب شهدوا تحسناً كبيراً في مظهرهم ومزاجهم.
نصت التوجيهات حول الجرعة، التي كانت موضحة على الملصق، على تناول "ثلاثة أكواب صغيرة يومياً مع الماء أو من دونه، قبل الوجبات بخمس دقائق أو بعدها مباشرة وفي الليل قبل وقت النوم".