الإفراط في النظافة قد يؤذي أطفالك

4 دقائق

عندما يسألني الناس: «ما مهنتك؟» أجيبهم بأنني طبيب حساسية، وفي معظم الحالات تُتبع إجابتي في الحال بالسؤال: «حسناً، من أين تأتي كل أمراض الحساسية؟» وقد يصيبني هذا السؤال بالمرض يوماً ما، لكن هذا لم يحدث حتى الآن.

وبوصفي طبيباً وباحثاً في أمراض الحساسية والصحة العامة، عليّ التوضيح للشخص الذي يسألني أن معدلات الإصابة بالأمراض التي يتم الإبلاغ عنها، ترتفع تلقائياً عندما يعي المجتمع وجود مشكلةٍ تتعلَّق بأيٍّ منها. هذا الأمر مفهوم، ثم يبدأ الأشخاص الذين يعانون أعراضاً صحية مبهمة في السؤال: «هل من الممكن أن تصيبني أمراض الحساسية التي تكلّمت عنها؟». هنا تبدأ محاولاً تشخيص حالته، وفي الحقيقة قد تكون الحساسية سبب المشكلة أحياناً فعلاً، وأحياناً لا.

أظهر أحد الأبحاث -على سبيل المثال- أنّ أقل من 50% من الحالات التي تم الإبلاغ عنها شخّصت بوصفها حساسية الغذاء، ولم تُقيّم بدقةٍ كافية للتأكد من أنّ المريض يعاني فعلاً الحساسية أم لا. وأظهر البحث أيضاً أنه في كثيرٍ من الحالات يكون التشخيص خاطئاً. فقد كانت الأعراض تتناسب مع مرض «عدم التحمل» أكثر من الحساسية، أو ربما كانت الأعراض عشوائية. وفي حين أن نسبة تتراوح بين 11 و 12% من المرضى شُخِّصوا بأنهم يعانون حساسية الغذاء، لكن 5% فقط من البالغين، و8% من الأطفال يُحتَمل أن يكون لديهم حساسية غذائية فعلياً. كما تم الإبلاغ عن 8% من المرضى بأنهم يعانون حساسية البنسلين، ولم تظهر هذه الحساسية سوى عند أقل من 5% من هؤلاء المرضى عند إجراء اختبار الحساسية لهم.

يسأل العديد بعد ذلك: هل الحساسية مرتبطة بالوراثة؟ في الحقيقة تزيد مخاطر الإصابة بالحساسية ضمن الأسرة بنسبة تتراوح بين  10 و 40%، إلا أن معدلات الإصابة بأمراض الحساسية تتزايد بنسبٍ لا تتفق مع الأمراض الوراثية.

المثير للاهتمام أن السجلات التاريخية تُظهر موجاتٍ مختلفة من الحساسية؛ فقد ظهرت حُمَّى القش- الحساسية البيئية- لأول مرة في بدايات القرن التاسع عشر، ثم تلاها ارتفاع معدلات الإصابة بالربو والحساسية الغذائية فيما بعد.

ما الذي تغيّر؟

إذا لم تكن العوامل الوراثية السبب الكامن وراء الحساسية تماماً، فما السبب الأساسي؟ تضم بعض العوامل الأكثر خطورةً التي تتسبب في الحساسية الإفراط في استخدام المضادات الحيوية، والتهابات الجهاز التنفسي الفيروسية الحادة التي تحدث في مرحلة الطفولة، والولادة القيصرية، والتدخين السلبي، والتلوث، والبيئة التي نشأنا فيها.

ولتنظيم هذه المسببات في فئات، توجد حالياً فرضيتان مفاهيميتان يمكن اعتمادهما هما: فرضية الحاجز، وفرضية النظافة.

تخيَّل أن نظام المناعة لديك مثل جيشٍ يقف خلف أسوار القلعة، ويمثل جدار القلعة بشرتك، وجهازك التنفسي، والجهاز الهضمي، وتمثل الكريات البيضاء بالإضافة إلى الخلايا المناعية الأخرى ذلك الجيش الذي يقف بوجه من يتخطى أسوار تلك القلعة.

الفكرة الأساسية لفرضية الحاجز تقول إنه عندما يُصاب جلدنا أو جهازنا التنفسي أو الهضمي، وتصبح هذه الإصابة مزمنة؛ ينهار جدار القلعة، ويبدأ جنود الجهاز المناعي في الدفاع عن القلعة، لكن العوامل المسببة للحساسية يمكنها أن تخترق هذا الدفاع، وبالتالي تبدأ أعراض الإصابة بالحساسية في الظهور في تلك المناطق المصابة. ويمكن أن نلاحظ مثل هذه الحالة بشكلٍ واضح في حالة مرض الحساسية المعروف بالأكزيما.

أظهرت الأبحاث أيضاً أنَّ الإصابة في تلك المناطق العازلة (الحاجز) يمكن أن تحفّز ردَّ فعلٍ مناعي، خصوصاً في مرحلة الطفولة، وتشكِّل العديد من العوامل خطراً على صحَّة الحاجز لدينا وتُسبِّب الحساسية؛ مثل:  الالتهابات الفيروسية، والاضطرابات الغذائية، والتعرض للدخان، والتلوث. أشارت الدراسات إلى أن ما يصل إلى 50% من حالات الأكزيما في الطفولة، وهو مرضٌ من أمراض الحاجز «تَحسُّسي»، يمكن الوقاية منه ببساطة عن طريق تطبيق مراهم مرطِّبة واقية مثل الفازلين لحماية جلد الأطفال عندما نجري لهم الاستحمام.

فرضية النظافة في الحساسية

تقوم فكرة فرضية النظافة الأساسية على أننا نبالغ جداً من غير قصد في تعقيم محيطنا، وبذلك نكون قد قتلنا البكتيريا السيئة والبكتيريا المفيدة. وإن انتقال مجتمعنا من مجتمعٍ مفعم بالأمراض المعدية الناتجة عن قلَّة النظافة، إلى مجتمعٍ نقوم فيه بتطهير وتعقيم كلّ شيء نتعامل معه تقريباً؛ قد قلّل من فرص تعرضنا للأمراض في مرحلة الطفولة التي تعطينا المناعة عندما نكبر. وقد تكون بداية ظهور أمراض الحساسية منذ أن قمنا بتنظيم وإدارة مياه الصرف الصحي، بسبب خوفنا من مرض الكوليرا.

كما يؤثر إفراطنا في استخدام المضادات الحيوية والعمليات القيصرية في مجموعةٍ من الكائنات الدقيقة المعروفة بالميكروبيوم، والذي يُفترض أن يتعرض له الطفل الرضيع أثناء نموه. وقد ثبت أن كلا الأمرين يزيد من خطر الإصابة بأمراض الحساسية لدى الأطفال مع التقدم في السن.

ويبدو أن نشأتنا في المناطق الريفية التي تجعلنا نتعامل مع حيوانات المزرعة، تؤدي إلى انخفاض خطر الإصابة بالحساسية والربو طَوال حياتنا، حتى بين الأشخاص الذين لديهم استعدادٌ وراثي للإصابة بالحساسية. وقد أظهرت دراساتٌ أجريت على الفئران أن استنشاق جزيئاتٍ معينة من البكتيريا التي تعيش في التربة، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز نظام المناعة لديها، والذي يُركّز على العوامل التي تشكّل تهديداً بدلاً من التركيز على تلك التي لا تشكِّل أي تهديدٍ لنا، مثل البكتيريا التي تسبب الحساسية لنا.

وتظهر اللقاحات بوصفها استثناءً وحيداً من قاعدة فرضية النظافة؛ فهي توفر لنا الحماية ضد أمراضٍ دون التسبب في أي زيادةٍ في مخاطر الإصابة بأمراض الحساسية. يعود السبب على الأرجح إلى أنها تستهدف نوعياً الكائنات المسببة للأمراض الخطيرة، وهذا عكس المضادات الحيوية.

ما نصيحتنا للآباء؟

تُظهر البيانات الحالية بأنه يمكننا منع الحساسية في المستقبل عند أطفالنا من خلال حماية الحواجز (الجلد، الجهاز التنفسي، والهضمي) من خلال تعريضهم لعوامل الحساسية في الوقت المناسب. فيمكن مثلاً، إدخال الفول السوداني في النظام الغذائي في وقتٍ مبكرٍ من الطفولة، حتى يتجنب الطفل الإصابة بالحساسية مستقبلاً. ولا يمكن الجزم في الوقت الحالي بكمية الأوساخ أو أنواع البكتيريا التي يحتاج طفلك أن يختبرها بأمان أثناء نموه. لكن الوقت قد حان للبحث الجدي عن إجاباتٍ لهذه الأسئلة. فالعديد من العلماء يبذلون الجهود لتقديم الإجابات الصحيحة، وذلك بفضل مختلف أنواع الدعم الذي تقدمه مختلف المؤسسات الحكومية والخاصة.

وأقدم نصيحةً عامة حتى يحين ذلك، أوصي بها حالياً كل أصدقائي ومرضاي:

1. اسمح لطفلك باللعب في الخارح، واتركه يتسخ، لا بأس بذلك.

2. دعه يجرب أطعمة جديدة، ويجرب أشياء مختلفة.

3. اطلب من المدرسة أن تمدّ فترة اللعب للأطفال بين الدروس قدر الإمكان.

4. استخدم الصابون العادي والماء؛ فأنت لست مضطراً إلى تعقيم كل شيء.

5. تحدّث إلى طبيبك عن الفترة الممكن انتظارها قبل معالجة المرض، لإعطاء الفرصة لجهاز المناعة بالتصرف بدلاً من تناول المضادات الحيوية.

6. كن واعياً حيال حواجز جسدك، وكن من المطالبين بتخفيف التلوث والحصول على الهواء والماء النظيف، والبيئة النظيفة للجميع.

أخيراً، احرص على تطعيم أطفالك جميع التطعيمات الروتينية المعتادة، فأكثر الأطفال صحة هم الذين تلقوا كامل لقاحاتهم.

المحتوى محمي