وجوه بشرية على قرص القمر، أو غيوم في هيئة حيوانات ضخمة، هذه المشاهد يراها البعض أحياناً دون أن يجد لها تفسيراً، وربما ينتهي إلى اعتبارها معجزة خارقة أو رسائل غامضة من السماء، على الرغم من إنها ظاهرة نفسية تسمى «البارادوليا».
ظاهرة وأسباب
مصطلح «البارادوليا» مشتق من كلمتين يونانيتين بمعني «الصورة الخاطئة»، وفسر العلماء الظاهرة باعتبارها نوعاً من «الأبوفونيا» أو «الإسقاط» الذي يربط من خلاله الإنسان بين عدة مشاهد منفصلة لا رابط يجمعها، ثم يعيد تشكيلها في معنى جديد لم يكن له وجود فعلي على أرض الواقع، ويرتبط هذا التفسير بحقيقة أن العقل البشري من أشد أنظمة معالجة المعلومات تعقيداً، يتلقى العديد من المدخلات التي يحاول تحليلها وفهمها طوال الوقت، ولذلك يرى بعض الأشخاص أشياء تبدو مألوفة لهم بشكل غامض.
من الناحية العصبية هناك سببان للبارادوليا، السبب الأول هو أن أدمغتنا معدة للمعالجة المتوازية الضخمة للمعلومات، وخلاف أجهزة الكمبيوتر البسيطة، يمكنها أن تجري ترتيباً مثالياً للعثور على الأنماط وإنشاء الارتباطات والتحقق من كميات كبيرة جداً من البيانات.
أما السبب الثاني فهو «التصور» وهو عملية بناءة نشطة تقوم بالتقاط الصور من الواقع وفحصها داخل قاعدة البيانات الذهنية الخاصة بنا، وذلك للحصول على المتطابقات الممكنة معها، ومن ثم استخلاص المعاني في هيئة مخرجات، ولا يقتصر الأمر على الصورة المرئية فقط، بل يحدث كذلك مع الكلام والموسيقي، فحينما تسمع أصواتاً، يبحث العقل عما يطابقها في قاعدة بياناته الخاصة، وذلك تمهيداً لتوليد معان معينة في هيئة مخرجات.
«لورا لانفورد» عالمة الحاسبات الآلية بشيكاغو قالت إن الجزء الذي يتعرف على الوجوه في الدماغ يسمى «التلفيف المغزلي» وله جانبان؛ الجانب الأيسر يقوم بالحكم السريع والبديهي حول ما إذا كان شيء ما وجهاً أم لا، في حين أن الجانب الأيمن يصدر أحكاماً أبطأ وأكثر دقة، ويستغرق هذا الجزء المزيد من الوقت والجهد ليفعل ذلك، وأشارت لانفورد إلى أن «العقول الكسولة» غالباً ما تقفز إلى الاستنتاجات سريعاً مما يجعلها تخطئ حتماً في النتائج المنطقية.
اختبار «هيرمان رورشاخ»
يعتبر اختبار «هيرمان رورشاخ» أو ما يعرف بـ «بقعة حبر رورشاخ» أحد أهم الاختبارات التي يمكن من خلالها معرفة مستوى «البارادوليا» لدى الإنسان، يُعرض على عدد من الأشخاص نماذج مختلفة لبقع الحبر، ويُطلب منهم قول أول شيء يتبادر إلى أذهانهم، ولأن بقع الحبر عشوائية وغامضة، يفرض كل شخص منهم هيكله التفسيري الخاص به، الأمر الذي يكشف عن أفكاره ومشاعره بل وعن حجم قاعدة البيانات التي يستخدمها عقله، وذلك من خلال اسقاطاته الذاتية على صورة بقعة الحبر التي يراها.
أجرى الطبيب النفسي السويسري «هيرمان رورشاخ» اختباره لأول مرة عام 1921، مستخدماً منهجاً بسيطاً لدراسة الإسقاط، حيث طلب من بعض الأشخاص وصف ما يرونه في 10 بقع حبر مختلفة، منها الأسود والرمادي، ومنها ما يحتوي على بقع ملونة، وقد حقق هذا الاختبار ذروة شعبيته في ستينيات القرن الماضي، عندما تم استخدامه على نطاق واسع لتقييم الإدراك والشخصية وتشخيص بعض الحالات النفسية المختلفة.
تطور الوجوه في أذهاننا
فنان عصر النهضة الإيطالي؛ «ليوناردو دافنشي» وصف رؤية الوجوه في الأشكال العشوائية، قائلاً: «إذا نظرت إلى أية جدران مرقطة ببقع مختلفة أو بأنواع مختلفة من الأحجار، فقد تخترع مشهداً ما يخصك، تري على سبيل المثال العديد من المناظر الطبيعية المختلفة المزينة بالجبال والأنهار والصخور، والأشجار والسهول والوديان الواسعة، أو ترى مجموعات مختلفة من التلال، وربما ستتمكن أيضًا من رؤية المعارك والأشكال المتنوعة في حركة سريعة، أو تري تعبيرات غريبة للوجوه، وكذلك الأزياء الغامضة، كما يمكنك أن ترى عدداً لا نهائياً من الأشياء التي يمكنك بعد ذلك تصنيفها في أشكال منفصلة ومصممة جيداً».
قديما كان يُنظر إلى «البارادوليا» باعتبارها أحد أعراض مرض الذهان، لكنها اليوم مجرد نزعة إنسانية طبيعية، كما افترض الكاتب الأمريكي كارل ساجان في كتابه «العلم كشمعة في الظلام» قائلاً: «إن الإدراك المفرط للوجه ينبع من الحاجة التطورية إلى التعرف على الوجوه»، وذلك لأن القدرة على التعرف على الوجوه عن بعد أو في الرؤية الضعيفة من العوامل الهامة للبقاء، الأمر الذي جعل ساجان يرفعها إلى درجة «الغريزة» على اعتبار إنها تساعد البشر في الحكم الفوري على ما إذا كان الشخص القادم صديقاً أم عدواً، وأشار ساجان إلى امكانية أن يؤدي التفسير الخاطئ للصور العشوائية أو لأنماط الضوء والظل على أنها وجوه بشرية.
وجوه لا تنتهي
وجد «تاباني ريكي» الباحث بجامعة هلسنكي في فنلندا أن المتدينين أكثر عرضة لرؤية وجوه بشرية في التشكيلات العشوائية أو الصور الغامضة، ولعل كفن تورينو الذي يحمل صورة لرجل يعتقد البعض أنه المسيح يعد مثالاً لذلك، حيث ظهرت الصورة السلبية للكفن للمرة الأولى عام 1898، وذلك كما التقطتها اللوحة الفوتوغرافية العكسية للمصور الفوتوغرافي «سيكوندو بيا» بعدما سمح له بتصويره أثناء عرضه في كاتدرائية سان جيوفاني بمدينة تورينو الايطالية.
وفي مثال أخر رأى البعض أحد الوجوه الغامضة في الصور التي التقطتها مركبة الفضاء «الفايكنج 1» التابعة لوكالة ناسا عام 1976 لسطح المريخ، وعندما أخذت وكالة ناسا صورة ذات دقة عالية عام 1998، أصبح من الواضح أن الوجه المزعوم كان مجرد كومة متآكلة من المخلفات الصخرية.
الدماغ يفضل نمط الوجه، لذا سنستمر في رؤية الوجوه ونحن نمر في الساحات والطرق، سنجدها في السماء وفي شقوق الأسفلت، سنجدها على أعمدة النور، ولافتات الإعلانات، ربما نعتبرها تميمة الحظ إن كان الوجه مبتسم، وربما سنراها العكس إن كان الوجه مقتضب، لكن في كل الأحوال، ستكون هذه الوجوه مسلية إن عرفنا أنها مجرد وهم.