أواخر القرن الثامن عشر دخل الطبيب الإنكليزي إدوارد جينر التاريخ من أوسع أبوابه عندما طور لقاحاً لمرض الجدري، ما فعله هذا الطبيب فعلياً، هو أنه وجد طريقة لتدريب الجهاز المناعي على مقاومة أمراض محددة، واليوم يعتبر جينر هو أبو علم المناعة.
تدريب الجهاز المناعي عن طريق اللقاحات هو بلا شك ابتكار فريد، لكن الطبيب الإنكليزي ربما لم يخطر بباله أن هناك طريقة أخرى لتعزيز مناعة الجسم، والتي تتمثل بحماية الجهاز المناعي من المؤثرات التي قد تؤدي إلى إضعافه. واليوم وجد الباحثون عاملاً مهماً يؤثر بشكل سلبي على مناعة الجسم، هو ليس شيئاً يتم تناوله أو استنشاقه، بل هو عامل اجتماعي، بكل بساطة هو "العزلة".
يعتبر بعض الباحثين أن الصداقة "لقاح سلوكي" نظراً لقدرتها على وقاية الجسم من الأمراض وعلى تعزيز الصحة العامة، لفترة طويلة ظل هذا الكلام مجرد فرضية، حتى انبرى فريق بحثي من جامعة فرجينيا للتحقق منها، وتم انتقاء عينة مؤلفة من 75 شخصاً مختلفي الانتماءات الطبقية والعرقية لتطبيق الدراسة عليها والتي نشرت نتائجها بشهر مايو 2017.
مواجهة التهديدات
تم وضع الأشخاص أمام شاشة يظهر عليها نوعين من الأشكال: دائرة زرقاء وإشارة إكس حمراء، الدائرة تعني أن الشخص بأمان، والإشارة الحمراء تعني أن هناك احتمال تلقي ضربة خفيفة على الكاحل بنسبة 20% (وبالفعل تم توجيه ضربة بنسبة 20%). وقد تم إخضاع الأفراد لتصوير بالرنين المغناطيسي لمراقبة أنشطة منطقة الهيبوثالاموس أو تحت المهاد في الدماغ خلال التجربة. وقد جرت التجربة وفق ثلاثة سيناريوهات: بالمرة الأولى يتم الإمساك بيد شخص مقرّب، بالثانية تكون يد شخص غريب، وبالمرة الثالثة دون الإمساك بأي يد.
وقد أظهرت النتائج أن الأشخاص الذين يمسكون بيد أصدقائهم يظهر لديهم نشاط أقل للهيبوثالاموس عند التعرض لتهديدات، على عكس الأشخاص الذين يمسكون بيد شخص غريب، أو الذين يجرون التجربة لوحدهم، فما الذي يعنيه تقليل نشاط الهيبوثالاموس؟
عندما يتعرض الإنسان لخطر تفرز هذه المنطقة الدماغية هرمونات التوتر، مثل الكورتيزول والإيبينيفرين، وجريان هذه الهرمونات في الدم يكون على حساب عناصر مناعية أخرى، أي أن هذه الهرمونات ستحل محل بعض الكريات البيضاء المسؤولة عن مناعة الجسم. والذي حدث خلال التجربة، هو أن الأشخاص الذين كانوا برفقة أصدقائهم شعروا بتوتر أقل وبالتالي قلت حاجتهم لتدخل الهيبوثالاموس، مما عزز مناعتهم مقارنة بالأشخاص الذين واجهوا التجربة معزولين عن الناس. والخلاصة: الصداقة تعني جهاز مناعي أقل عرضة للتضعضع.
يكونان واحداً
سنة 2013 أجرى فريق آخر من نفس الجامعة بحثاً تناول تأثر الإنسان بالتهديدات التي تصيب أصدقاءه، وقد توصلوا لنتيجة مفادها أن رد فعل الدماغ لأي أذى يتعرض له الإنسان مماثل لرد فعله عند تعرض صديقه للأذى، أي أن كيان الإنسان يندمج بكيان صديقه بشكل كبير. هل يعني هذا أن الإنسان الذي لديه أصدقاء معرّض للتوتر بشكل أكبر؟ قد يكون الأمر كذلك، لكن الأمر الأهم هو أن التوتر بوجود الأصدقاء أفضل بكثير من المعاناة بالعزلة.
رغم أن الكثير من الأشخاص يفضلون ألا يقحم العلم أنفه في قضايا الحب والصداقة والجمال، فإن النتائج التي توصل إليها الباحثون تعطينا مؤشراً مهماً يساعدنا على عيش حياة أكثر صحة وأقل عرضة للإصابة بالأمراض، لذلك عندما تتوجه عزيزي القارئ للمراكز الطبية لتتناول اللقاحات يمكنك المرور على إحدى المكتبات وطلب كتاب ديل كارنيجي "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر بالناس".