أصبحت الحساسية والربو من أمراض الطفولة الشائعة على مدى العقود القليلة الماضية، وخصوصاً في الدول المتقدمة. ففي أستراليا مثلاً، يعاني نحو 20% من السكان تقريباً نوعاً ما من أنواع الحساسية، منها ما يتعلّق بالحساسية للطعام أو لحبوب اللقاح، أو للغبار أو عثّ المنزل، أو للعفن، وحتى الحساسية تجاه الحيوانات.
عندما يعاني الشخص من الحساسية الغذائية أو حمّى القش أو الربو، يعتقد الجهاز المناعي على نحوٍ خاطئ بأن المواد التي تثير الحساسية ضارّة له، لذلك يحاول مهاجمتها دفاعاً عن الجسم.
تتراوح ردّة فعل الجسم في مثل هذه الحالات بين الأعراض الخفيفة، مثل العطس وانسداد الأنف (في حالة حمّى القش)، إلى صدمة الحساسية (مثل الحساسية الغذائية الشديدة، أو التحسّس للسعات النحل)، ونوبات الربو.
لقد اعتقدنا لفترةٍ طويلة أن ارتفاع حالات الحساسية كان بسبب عدم تعرضنا لعددٍ كبير من الأمراض في طفولتنا المبكّرة، كما كانت عليه الحال في الأجيال السابقة. لكّن العلم يشير إلى أنّ الأمر ليس كذلك. ومع ذلك، فإن التنزّه في أماكن طبيعية مفتوحة، والتعرّض للبكتريا والفطريات والكائنات الحية المجهرية (التي لا تسبب الأمراض الخطيرة)؛ قد يساعد في الحماية من الحساسية والربو.
لنتذكّر الفرضية الصحية: النظافة
في عام 1989، فحص الباحث «ديفيد ستراشان» أنماط الحساسية لدى أكثر من 17000 طفلاً في إنجلترا. وقد لاحظ أنّ الأطفال الأشقاء الأصغر سناً في العائلات الكبيرة؛ كانوا أقل عرضةً للإصابة بحمّى القش من أشقائهم الأكبر سناً، أو من الأطفال من العائلات الصغيرة الأقلّ عدداً.
اقترح الباحث أن الأشقّاء الأصغر سناً قد تعرّضوا للمزيد من أمراض الطفولة عندما كانوا أصغر سناً، لأن العوامل الممرضة كانت أكثر انتشاراً في العائلات الكبيرة، بالإضافة إلى أولئك الأطفال الصغار كانوا أقل عرضةً لغسل أيديهم واتبّاع تقاليد النظافة الجيدة.
لقد ساعد التعرّض المتزايد للعوامل الممرضة الأطفال على «تدريب» جهاز المناعة لديهم على عدم المبالغة في استجابته على أشياء غير ضارّةٍ في الواقع؛ مثل حبوب اللقاح.
صاغ ستراشان مصطلح «فرضية النظافة» لشرح هذه الظاهرة، ومنذ ذلك الوقت؛ كانت فكرة الانخراط في الطبيعة، أو البيئة الملوثة وتعرّضنا للأمراض في صغرنا مغريةً لنا.
في الواقع لم يكن ستراشان أوّل من لاحظ أن التعرّض للبيئات الملوثة يبدو أنّه يمنع ظهور أمراض الحساسية. قبل نحو قرنِ من الآن، تحديداً في عام 1873، وصف عالمٌ بريطاني يُدعى «تشارلز بلاكلي» إلى أنّ حمّى القش بأنها مرض «الطبقة المثقّفة»، ونادراً ما تظهر بين المزارعين، أو بين الأشخاص الذين يعيشون في مستوى صحيّ أقل.
التخلّي عن فرضية النظافة
كان كلا العالمين، ستراشان وبلاكلي مخطئين في شيءٍ واحد مهم في فرضيتهما؛ وهو في أنّ العلاقة بين الملوثات والحساسية لا تعود إلى انخفاض التعرّض للعدوى في مرحلة الطفولة المبكرة (أو مسببات الأمراض).
فلم تجد دراسات كُبرى أجريت في دول مثل الدنمارك وفنلندا والمملكة المتحدة أي ارتباطٍ بين عدد الإصابات الفيروسية أثناء الطفولة؛ وأمراض الحساسية. بمعنىً آخر، لا يبدو أن التعرض للعوامل المسببة للأمراض يمنع الحساسية. وفي الواقع، فإن تعرّض الأطفال للعدوى الفيروسية وإصابتهم بالأمراض أيضاً قد يتسبب بظهور الربو لديهم.
يزعم العديد من الباحثين الآن أن مصطلح فرضية النظافة ليس غير دقيقٍ فقط، لكنه يمكن أن يكون خطيراً، لأنه يفترض أن تجنب العدوى أمر سيئ. لكّن الأمر ليس كذلك. حيث تُعتبر ممارسات النظافة الشخصية الجيدة، مثل غسل اليدين، ضروريةً للحد من انتشار الأمراض المعدية والمميتة المحتملة مثل الأنفلونزا، وفيروس كورونا المُستجد.
ماذا عن التعرّض «الحميد» للبكتيريا؟
للحصول على مناعةٍ جيدة، نحتاج للتعرّض إلى مدىً واسع من البكتيريا والفطريات وغيرها من الأحياء الدقيقة، التي تُعرف بالميكروبات، في بيئةٍ لا تجعلنا نمرض.
تُظهر الأبحاث الحديثة في البيئات الحضرية أن الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من الأنظمة البيئية الخضراء المتنوعة؛ يميلون لأن يكونوا أكثر صحةً مع معدلاتٍ منخفضة من أمراض ارتفاع ضغط الدم والسكري، والوفاة المبكرة وغيرها من الأمراض. وبشكلٍ أكثر تحديداً، وجدت الأبحاث أنك إن نشأت في مزرعةٍ أو بالقرب من الغابات، مع تعرضك لنظمٍ بيئية أكثر تنوعاً بيولوجياً، يقلّ لديك احتمال الاصابة بالربو، وأنواع الحساسية الأخرى.
يعود السبب في ذلك على الأرجح إلى أنّ التعرّض لمجموعة متنوعة من الكائنات الدقيقة الحية ونسبةٍ أقلّ من التعرّض لمسببات الأمراض البشرية؛ قد يؤدي إلى «تدريب» الجهاز المناعي لدينا على عدم المبالغة في ردّ فعله تجاه البروتينات غير المؤذية في حبوب اللقاح، أو الفول السوداني وغيرها من مسببات الحساسية.
كيف يمكننا الحصول على المزيد من التعرّض الحميد؟
يمكننا تجربة تعريض الأطفال لبيئات تشبه البيئات القديمة التي عاش فيها البشر، وتكيفت أنظمتنا المناعية فيها. يحتاج الأطفال إلى مساحاتٍ خضراء أكثر، اللعب في الهواء الطلق، وجود حدائق، أو العيش بالقرب من المساحات الخضراء (خصوصاً تلك التي تضم تنوعاً من النباتات المزهرة المحلية)، والتي من الممكن أن تعرّضهم لميكروباتٍ أكثر تنوعاً، بالتالي يوفّر لهم حماية أكبر من أمراض الحساسية.
يميل الرضّع الذين يتغذون على حليب الأم إلى تكوين ميكروبيومٍ أكثر تنوعاً في أمعائهم (مجموعة أكبر من البكتيريا والفطريات والكائنات المجهرية التي تعيش في الأمعاء)، مما يجعلهم أقل عُرضة للإصابة بأمراض الحساسية في مرحلة الطفولة.
اتباع نظامٍ غذائي متنوع يتضمن أطعمة طازجة ومخمّرة أيضاً، يمكن أن يساعد في تطوير ميكروبيوم أمعاء صحي وتقليل أمراض الحساسية. كما نوصي بعدم استخدام المضادات الحيوية إلا في حالة الضرورة، لأنها تقتل البكتيريا الجيدة والسيئة على حدٍّ سواء.
لذا استمر في غسل يديك، لا سيما في المدن والمطارات، لكن لا تخف من تعرّضك للقليل من عدم النظافة في بيئات متعددة بيولوجياً.